تذكر معي، كم مرة استخدمت هاتفك الذكي للتحقق من تاريخ يومك، أو معرفة الاتجاهات لأماكن زرتها سابقاً، أو لمحاولة تذكر رقم هاتفك الشخصيّ؟ إذا كانت إجابتك "دائماً"، فقد تكون تعاني الآثار الخفية لما يُطلق عليه بعض الخبراء "الخرف الرقمي".
قبل أن تُصاب بالذعر، عليك أن تدرك أنه ليس تشخيصاً طبياً رسمياً، لكن مع انتشار الأجهزة الرقمية اليوم في متناول الجميع، وفي مختلف الأعمار، فإننا نستخدمها بمثابة دماغ خارجي، لكن أليس لمثل هذه الراحة ثمن يدفعه دماغك؟
ما هو الخرف الرقمي؟
صاغ عالم الأعصاب الألماني مانفريد سبيتزر (Manfred Spitzer) مصطلح "الخرف الرقمي" (Digital Dementia) أول مرة في كتابه الصادر عام 2012 والذي يحمل الاسم نفسه. على الرغم من أنه قد يبدو مصطلحاً سريرياً ينذر بالخطر، فإنه لا يُشير إلى حالة طبية مُعترف بها، بل هو إشارة للعواقب المعرفية والتغير في القدرات الإدراكية نتيجة للاعتماد المفرط على التكنولوجيا الرقمية، والتي قد تُحاكي الأعراض المبكرة للخرف، مثل النسيان وعدم الانتباه وصعوبة التركيز. إذ عندما تعهد بالمهام اليومية التي تديرها في الحالة الطبيعية أجزاء مختلفة من الدماغ، مثل تذكر أعياد الميلاد وأرقام الهواتف أو حتى كيفية التنقل في أحياء مدينتك، فقد يتراجع نشاط هذه الأجزاء تدريجياً، وبمرور الوقت، قد يؤدي هذا إلى ركود إدراكي.
الأساس العصبي للخرف الرقمي: كيف تؤثر التكنولوجيا في الدماغ؟
فكّر في الأمر بهذه الطريقة: إذا توقفت عن تمرين ساقيك، فسوف تضعف مع مرور الوقت. وبالمثل، يحتاج دماغك، وخاصةً المناطق المعنية بالذاكرة والانتباه، إلى "تمارين" منتظمة للحفاظ على لياقته، فعندما لا يُمارس الدماغ عملية استرجاع الذكريات، قد يؤدي هذا التراجع في "التدريب الذهني" إلى ضمور الذاكرة، تماماً كما تضعف العضلة عند عدم استخدامها.
على سبيل المثال، يعمل الحصين الذي يقع في أعماق الدماغ بمثابة جهاز داخلي لتحديد المواقع العالمي (GPS)، حيث يساعدك على تحديد موقعك وإذا ما كنت قد زرت المكان سابقاً، وإلى أين تتجه. لكن عندما لا تستخدم الحصين فترة من الزمن، أو تستعيض عنه بميزة تحديد المواقع (GPS) في هاتفك الذكي، فإنك تقلل مشاركة الحصين. وجد الباحثون في دراسة نشرتها دورية نيتشر كوميونيكيشنز (Nature Communications) أن استخدام الأشخاص لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) على نحو مُتكرر للملاحة، يُقلل نشاط الحُصين، ويرتبط بانخفاض حاد في الذاكرة المكانية المُعتمدة على الحُصين، أي تقل مهاراتهم في رسم الخرائط المكانية عند الحاجة إلى التنقل دون مساعدة رقمية.
اقرأ أيضاً: صحة قلب أفضل تعني صحة دماغ أفضل وحماية أكبر من الخرف وفقاً لدراسة حديثة
أعراض الخرف الرقمي
بعض الأعراض قد تشير إلى أنك معرّض لخطر الخرف الرقمي، أو مصاب به، مثل:
- فقدان الذاكرة قصيرة المدى (نسيان الأحداث أو المواعيد أو الأسماء الأخيرة).
- صعوبة التركيز فترات طويلة، أو التشتت بسبب تعدد المهام، حيث تُمطرنا الأجهزة الرقمية بالمعلومات من إشعارات ورسائل، ما قد يُقلل القدرة على الانتباه والتركيز بعمق على مهمة واحدة.
- صعوبة تذكر الكلمات أو التفاصيل من دون توجيهات رقمية.
- ضعف مهارات الملاحة، أي القدرة على رسم الخرائط المكانية ومعرفة الاتجاهات دون الحاجة لجهاز (GPS).
- انخفاض الإبداع والقدرة على حل المشكلات والانخراط في التفكير النقدي والمكاني.
- صعوبة ضبط المشاعر.
- اضطراب النوم، إذ يمكن للضوء الأزرق المنبعث من الشاشات أن يتداخل مع إنتاج الميلاتونين، ما يُسبب اضطراباً في النوم. بدوره يعد الحرمان من النوم عاملاً أساسياً في تراجع القدرات الإدراكية.
- الانسحاب الاجتماعي أو ضعف المهارات الاجتماعية، وهو عامل خطر آخر للتدهور المعرفي.
كيف يمكنك الوقاية من الخرف الرقمي؟
فيما يلي بعض النصائح العملية المستندة إلى الأدلة للحفاظ على ذهنك متيقظاً مع الاستمرار في الاستمتاع بفوائد التكنولوجيا:
- قلّص وقت الشاشة السلبي: أي تقييد وقت استخدام الشاشة بساعات محددة، وخاصة للأطفال والمراهقين، وبما لا يتجاوز 4 ساعات يومياً.
- تخلّص من السموم الرقمية: على سبيل المثال، حدد يومين خاليين من التكنولوجيا، ومارس فيهما هواية خارجية، مثل التسلق أو التزلج أو حتى نزهة على الأقدام. أو يمكنك تخصيص ساعات يومية خالية من الأجهزة الرقمية، لممارسة هوايتك الخاصة مثل الرسم او القراءة أو الطبخ.
- قوِّ ذاكرتك: اتبع الطرق التقليدية في مهامك اليومية بدلاً من الاعتماد على هاتفك، مثل حفظ رقم هاتف أو قائمة التسوق أو عنوان، كما يمكنك تحدي ذاتك بالألغاز والألعاب أو تعلم مهارات جديدة.
- امنح الأولوية للنوم: تجنب استخدام الشاشات مدة ساعة على الأقل قبل النوم لحماية دورة نومك الطبيعية.
- ابقَ اجتماعياً في الحياة الواقعية: خصص وقتاً للتفاعلات المباشرة مع الأصدقاء أو الزملاء أو عائلتك، حيث يُعدّ التفاعل الاجتماعي أحد أقوى وسائل الحماية من التدهور المعرفي.
- استخدم التكنولوجيا على نحو هادف: مثل تعلم لغة جديدة، أو لعب ألعاب استراتيجية، أو انضم إلى دورات تدريبية عبر الإنترنت.
اقرأ أيضاً: باحثون من جامعة هارفارد يحددون 17 عاملاً يسرّع شيخوخة الدماغ
إعادة النظر في الخرف الرقمي: كيف يمكن للتكنولوجيا حماية صحة الدماغ؟
بينما من الواضح أن الإفراط في استخدام الشاشات يمكن أن يؤدي إلى مشكلات في الانتباه وفقدان الذاكرة وحتى الانسحاب الاجتماعي، فإن فكرة أنه يسبب الخرف الحقيقي تبقى موضع جدل حاد، حيث تحدت دراسات حديثة واسعة النطاق فرضية الخرف الرقمي.
على سبيل المثال، وجدت مراجعة لـ 57 دراسة شملت أكثر من ٤٠٠ ألف بالغ من كبار السن، ونشرتها دورية الطبيعة والسلوك البشري (Nature Human Behavior) عام 2025، أن الاستخدام المنتظم للتكنولوجيا يرتبط فعلياً بانخفاض خطر الضعف الإدراكي بنسبة 42%، وهو ما يتضمن أداءً دون المستوى في الاختبارات الإدراكية.
هل هذا يعني أنك تستطيع استخدام الأجهزة الذكية بحرية؟ ليس بهذه السرعة. أوضح المؤلف الرئيسي للدراسة، وأستاذ علم النفس العصبي السريري في جامعة تكساس، غاريد بينغ، أن نتائج الدراسة تشير إلى أن الجيل الذي وهبنا الإنترنت قد وجد طرقاً للاستفادة من هذه الأدوات في تحسين صحة الدماغ.
كما أشار إلى أن نتائج هذه الدراسة تتوافق مع فرضية "الاحتياطي المعرفي" التي تعد بديلاً لفرضية الخرف الرقمي، والتي تشير إلى القدرة على استخدام المهارات والمعرفة المكتسبة للتعويض عن الأضرار أو التدهور في الوظائف المعرفية. يمكن أن يتضمن ذلك القدرة على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتكيف مع التغيرات.
في الواقع، توصّلت دراسة حديثة نشرتها مجلة أبحاث الإنترنت الطبية (Journal of Medical Internet Research)، إلى أن كبار السن الذين يعانون عزلة رقمية متوسطة إلى عالية، والتي تُعرف على أنها الاستخدام المحدود أو المعدوم للأجهزة الرقمية أو الإنترنت أو الأنشطة عبر الإنترنت، هم أكثر عرضة للإصابة بالخرف مقارنةً بمن يعانون عزلة منخفضة. بعبارة أخرى، قد يسهم الاستخدام المعتدل والهادف للتكنولوجيا في الحفاظ على صحة الدماغ لدى كبار السن.