جميعنا نرغب في العيش حياة أطول، لكننا نخشى الضعف والمرض والقيود الجسدية التي غالباً ما تصاحب التقدم في العمر، ويرجع هذا إلى أن أجسادنا ليست مصممة من الناحية التطورية للعيش إلى ما بعد سن الشيخوخة. بعبارة أخرى، لا يقتصر التحدي على إضافة سنوات إلى الحياة فحسب، بل في إضافة الحيوية والصحة إلى تلك السنوات، وهذا لن يحدث إلّا إذا وجدنا طريقة لإبطاء معدل تقدمنا في السن بدرجة كبيرة.
واليوم، لم يعد حلم طول العمر مقتصراً على ينبوع الخلود في أحاديث الجدات، فقد مكننا التقدم في التكنولوجيا الحيوية وعلم الوراثة والعلوم الطبية من فهم الأسرار البيولوجية التي مكّنت بعض المعمرين، من العيش أكثر من 100 عام مع الحفاظ على مرونة وصحة ممتازة. فماذا لو استطعنا تسخير هذه الأسرار لأنفسنا؟ ماذا لو استطاع علم المعمرين أن يقدم لنا نموذجاً لعيش حياة أطول وأكثر صحة واكتمالاً؟ إن فهم الأسرار البيولوجية وراء طول أعمارهم يُمكن أن يوفر فهماً أعمق حول الشيخوخة، ومقاومة الأمراض، والتدخلات المُحتملة لتعزيز شيخوخة صحية أكثر لدى عموم السكان، وإليك أهم هذه الأسرار.
اقرأ أيضاً: 10 علامات للشيخوخة المبكرة وكيف تتجنبها
العوامل التي قد تحمينا من الأمراض: مخطط الحياة الطويلة
في آب/أغسطس عام 2024، توفيت أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 117 عاماً، وباستثناء فقدان السمع وصعوبات الحركة، استطاعت السيدة ماريا برانياس موريرا الحفاظ على صحتها وذكائها حتى وفاتها. في دراسة حديثة نُشرت في فبراير/شباط 2025 على خادم ما قبل الطباعة بايو أركايف (bioRxiv)، لكن لم تخضع لمراجعة الأقران بعد، حاول الباحثون تحديد الآليات البيولوجية التي ساعدتها على العيش لما بعد المائة مع الحفاظ على صحة جيدة.
حلل الباحثون مختلف العلامات البيولوجية في أنسجة موريرا المتعددة، بما فيها الجينات والخلايا المناعية ومستويات الدهون في الدم، والبروتينات، وقارنوها بنتائج 75 امرأة غير معمرة من المجتمعات الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وتوصلوا إلى ما أطلقوا عليه "مخطط الحياة الطويلة"، وهو مجموعة العوامل التي ساعدت في حماية موريرا من الأمراض المرتبطة بطولة العمر:
العوامل الوراثية
حددت الدراسة 7 متغيرات وراثية نادرة غير موجودة في المجتمعات الأوروبية من قبل، ومرتبطة بوظيفة المناعة، وصحة القلب والأوعية الدموية، وحماية الأعصاب، والتمثيل الغذائي، واستقرار الحمض النووي. قد تسهم هذه العلامات الوراثية في قدرة الجسم على إصلاح الضرر ومقاومة الأمراض المرتبطة بالعمر.
الاستقرار فوق الجيني: مثيلة الحمض النووي
اكتشف العلماء الذين يدرسون حالة ماريا برانياس موريرا تناقضاً مثيراً للاهتمام بين علامات الشيخوخة البيولوجية لديها وعمرها الزمني الحقيقي؛ فبينما أظهر جسدها علامات شيخوخة مفرطة في بعض النواحي، بدت جوانب أخرى من خلاياها أصغر سناً بكثير من المتوقع، والسبب في ذلك يعود إلى ما يُعرف بالتيلوميرات.
التيلوميرات هي هياكل توجد في نهايات الكروموسومات، وهي عبارة عن قطع غير مشفرة من الحمض النووي، لحماية الكروموسومات في أثناء الانقسام. مع تقدم الناس في السن، تصبح هذه التيلوميرات أقصر أو تتحلل، أي تقل قدرتها على حماية الكروموسومات، ما يؤدي إلى شيخوخة الخلايا وزيادة خطر الإصابة بأمراض مثل السرطان.
في حالة موريرا، ولأنها عاشت فترة طويلة جداً، فقد تآكلت التيلوميرات لديها بشكلٍ شبه كامل، وهو أمر متوقع لشخص في سن متقدمة. ومع ذلك، لاحظ العلماء عند فحص حمضها النووي أن خلاياها تنتمي إلى شخص يتراوح عمره بين 100 و110 أعوام. والسبب في ذلك هو عملية "مثيلة الحمض النووي"، وهي عملية كيميائية ترتبط فيها مجموعة الميثيل بجزيء الحمض النووي، وهي ضرورية لأداء الوظائف الخلوية من خلال تشغيل الجينات أو إيقافها، أي تضمن أن تكون الجينات الصحيحة نشطة في الأوقات المناسبة. تعمل هذه العملية كنوع من "الساعة البيولوجية"، أي تقدير العمر الفيزيولوجي للشخص بدلاً من مجرد حساب سنواته.
هذا يعني أنه في حين أن بعض أجزاء جسدها -مثل التيلوميرات والجهاز المناعي- قد تقدمت في السن بما يتماشى مع عمرها الطويل، فإن أجزاءً أخرى من بنيتها الخلوية ظلت أصغر سناً بيولوجياً.
الطاقة الخلوية
تُعرف الميتوكوندريا بمولدات الطاقة للخلية، لأنها تُنتج جزيء أدينوزين ثلاثي الفوسفات (ATP) المسؤول عن توفير الطاقة لمختلف العمليات الحيوية. مع تقدم الأفراد في السن، تنخفض كفاءة الميتوكوندريا عادةً، ما يؤدي إلى انخفاض إنتاج الطاقة، وزيادة الإجهاد التأكسدي، وزيادة خطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بالعمر. ومع ذلك، في حالة موريرا، اكتشف الباحثون أن وظيفة الميتوكوندريا لديها كان أداؤها أفضل من الأفراد الأصغر سناً.
الأمعاء الصحية: الميكروبيوم المعوي
يؤثّر ميكروبيوم الأمعاء، الذي يتكون من تريليونات البكتيريا والكائنات الدقيقة الأخرى، في مجموعة من العمليات البيولوجية الحيوية، بما في ذلك الهضم والمناعة والالتهابات. وأظهر ميكروبيوم أمعاء موريرا مستويات عالية بشكل غير عادي من "البكتيريا الشعاعية" (Actinobacteria)، وهي مجموعة بكتيرية تتناقص عادةً مع تقدم العمر. على وجه التحديد توفر جنس البيفيدو باكتيريوم (Bifidobacterium)، بكثرة غير متوقعة.
تُعرف هذه البكتيريا بقدرتها على إنتاج مركبات مضادة للالتهابات، حيث تعدّ الالتهاب عاملاً شائعاً لأمراض الشيخوخة، مثل التهاب المفاصل وأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض العصبية التنكسية، ما قد يكون ساعد موريرا على تقليل الالتهاب الجهازي والحفاظ على صحتها بمرور الوقت.
حدد الباحثون سببين رئيسيين لميكروبيوم موريرا الفريد:
- العوامل الوراثية.
- العادات الغذائية، حيث كانت موريرا تتناول ثلاثة أكواب من الزبادي يومياً، وهو من الأطعمة الغنية بالبروبيوتيك.
اقرأ أيضاً: كيف تسرّع حرارة الطقس الشيخوخة؟
كيف تعيش حتى بلوغ المائة؟ عناصر القوة التسعة
في كتابه الشهير "المناطق الزرقاء"، حدد الباحث الأميركي والخبير في طول العمر، دان بويتنر 5 مناطق حول العالم أطلق عليها "المناطق الزرقاء"، وهي أماكن يزيد فيها عدد المعمرين بعشرة أضعاف على العدد المتوقع لعدد سكان مماثل في الولايات المتحدة الأميركية، ويتمتع معظمهم بصحة جيدة.
وفقاً لبويتنر، تسهم العوامل الوراثية في إطالة العمر بنسبة 20-30% فقط لدى المعمرين في هذه المناطق، بينما تتحكم في البقية ما يسمى بعناصر القوة التسعة، وهي عوامل نمط الحياة وعادات يمارسها سكان المناطق الزرقاء ويتمتعون بها:
- اعتمد سكان المناطق الزرقاء في معظمهم على نظام غذائي نباتي، بينما تناول من يتغذى على اللحوم نحو 85-113 غراماً من اللحوم في الحصة الواحدة ولخمس مرات في الشهر.
- مارسوا الصيام والحد من السعرات الحرارية التي تناولوها.
- تجنبوا الكحول، أو استهلكوه باعتدال لغناه بمضادات الأكسدة، مثل ريسفيراترول وكيرسيتين.
- بحثوا عن معنى للحياة والسعي نحو تحقيق الأهداف فيها.
- تجنبوا نمط الحياة الخامل، واعتمدوا النشاط والحيوية في أنشطة الحياة اليومية، كما في ممارسة البستنة والزراعة والمشي والطبخ والتنظيف.
- ابتعدوا عن التوتر وتخلصوا منه بطريقة منتظمة يومياً، كما في الصلاة أو القيلولة، أو الاستمتاع بالأنشطة العائلية أو مع الأصدقاء.
- كان نمط حياتهم قائماً على الإيمان، وفيه تنخفض معدلات الاكتئاب.
- انتمى سكان هذه المناطق إلى هياكل أسرية مستقرة وأنماط حياة أحادية الزواج، وتوفر الأسرة لكبار السن فيها جواً من المحبة والاحترام والأمان.
- انخرطوا في شبكة اجتماعية داعمة من أصدقاء وزملاء، ما ساعد على الالتزام في نمط حياة صحي وسعيد وبعيد عن التوتر والإجهاد.