الاحتراق الوظيفي حقيقي وهكذا تكتشفه وتتعافى منه

5 دقائق
الاحتراق التفسي
حقوق الصورة: أنسبلاش.

عندما يسألني الناس لماذا اخترت أن أكون كاتبة، يمكنني أن أجيب بالعديد من الأسباب: الكتابة تجعلني سعيدة، وأتمكن من طرح مختلف الأسئلة دائماً، وعندما أقرأ قصة ممتعة، أكررها مجدداً حتى يسأم أصدقائي من سماعها. ولكن في شهر يوليو/تموز 2021، بدأت أشعر أن هذه الإجابات غير مقنعة.

كنت قد أصبت بالاحتراق الوظيفي.

قلت لأحد أصدقائي على الهاتف: «أشعر وكأني لويت دماغي». عندما كنت أتوقف عن العمل، كنت أشعر وكأني بخير، وعندما كنت أحاول استخدام عقلي، كنت أشعر بإجهاد هائل.

أعلم أني لست وحيدة. في هذه الفترة، بما أن ظروف العمل تتسبب بانعزال البعض في منازلهم وتعريض الآخرين للخطر، يبدو أن حالة الاحتراق الوظيفي منتشرة للغاية. في مسح أجراه موقع «إنديد» على 1500 عامل في مارس/آذار 2021، أفاد 53% من العاملين أنهم يشعرون بالاحتراق الوظيفي، وهي نسبة تتجاوز نظيرتها من السنة الفائتة بـ 10%. وجدت دراسة استقصائية نُشرت في دورية «ذا لانسيت» في مايو/أيار وأجريت على 21000 عامل في مجال الرعاية الصحية نسباً مشابهة.

أردت أن استرد فضولي والسعادة التي أجدها في اللغة بأسرع وقت ممكن. لذا، استشرت العلماء لأعرف ما الذي كان يحدث بالضبط في جسمي، وما يمكنني أن أفعل لأتحسّن.

ما هو الاحتراق الوظيفي؟

وفقاً لـ «غوردن باركر»، أستاذ الطب النفسي في جامعة نيو ساوث ويلز، إن الاحتراق الوظيفي هو ظاهرة قديمة للغاية، وقد اعتُبرت بين الأوساط المختلفة بمثابة خطيئة. وصفت الخطيئة الثامنة، وكانت تسمى من قبل «الخمولية»، وهي حالة الكسل واللامبالاة والبلادة التي لوحظت عند بعض الرهبان في القرن الرابع الميلادي. قال باركر: «قد يستيقظ أحد هؤلاء الرهبان يوماً ويقول 'السماء لم تعد زرقاء'». كان يفقد الرهبان المتعة في الحياة ويفقدون إيمانهم بالله.

لم يكن هؤلاء الرهبان يعانون من التعب فحسب. إذ أنهم قد فقدوا المعنى في أي شيء يفعلونه. يصف ذلك حالة الإنهاك  بشكل جيد. لا تقتصر الاستجابة للإجهاد المزمن على الإرهاق فحسب، إذ يعاني المصابون بهذه الحالة من فقدان المثالية والشعور بأنهم فاشلون في أي شيء يفعلونه. هذه هي المكونات الثلاث التي ينص عليها «بيان ماسلاك للاحتراق النفسي»، وهو تقييم يستخدمه علماء النفس عادةً لتحديد مستوى الإرهاق العقلي.

اقرأ أيضاً: الإحساس بجدوى الحياة قد لا يحلّ مشاكل النوم

ما هي أعراض الاحتراق الوظيفي؟

لا تقتصر أعراض هذه الحالة على الأعراض العقلية، بل تشمل أيضاً أعراضاً جسدية تنتج عن جهاز الاستجابة للإجهاد. يهتم العلماء الذين يدرسون هذه المتلازمة في «المحور الوطائي النخامي الكظري». عندما تتعرّض إلى خطر مباشر، كأن يلاحقك دب مثلاً أو تضطر للرد على بريد إلكتروني شديد اللهجة، يُطلق هذا المحور هرموناً يُدعى «الكورتيزول»، والذي يساعد الجسد على الهروب من من مصدر الخطر. يرفع هذا الهرمون معدل ضربات القلب، ويساعد الجسم على استخلاص الطاقة من الغلوكوز.

يُخفض الكورتيزول أيضاً نشاط أجهزة الجسم التي لا تحتاجها عندما تكون حياتك في خطر، مثل الجهاز التكاثري والجهاز المناعي. عندما يتنبّه الوطاء، وهو الجزء من الدماغ الذي يتحكّم بالمحور الوطائي النخامي الكظري، إلى ارتفاع نسب الكورتيزول في الدم، فإنه يوقف عملية الاستجابة لأنها أدت وظيفتها بنجاح.

يستطيع الباحثون إلقاء نظرة على آلية عمل جهاز الاستجابة للإجهاد باستخدام اختبار يُدعى «اختبار الديكساميثازون». الديكساميثازون هو دواء يحفّز الوطاء على تثبيط جهاز الاستجابة للإجهاد. إذا تناول شخص سليم هذا العقار، من المفترض أن يبدأ جسمه بإنتاج كميات أقل من الكورتيزول. لكن وجدت العديد من الدراسات أن الأشخاص المصابين بحالة الاحتراق الوظيفي يستجيبون إلى الإجهاد بطريقة غير طبيعية. وجدت بعض الدراسات أن هؤلاء الأشخاص لا يتأثرون بالديكساميثازون كثيراً (وذلك إذ تأثروا في المقام الأول)، وتستمر أجسادهم في إنتاج كميات إضافية من الكورتيزول.

وجدت أبحاث أخرى أن الأشخاص المصابين بالإنهاك يعانون من استجابة مفرطة للديكساميثازون، إذ أن أجسامهم تنتج الكورتيزول بكميات أقل من تلك التي تنتجها أجسام أفراد المجموعات المعيارية السليمين. يفترض الباحثون أن هذه النتائج التي تبدو متناقضة تمثّل مرحلتين لنفس الظاهرة: ما قبل الاحتراق الوظيفي والاحتراق الوظيفي.

يقول باركر: «خلال مرحلة ما قبل الاحتراق الوظيفي، يكون الجسم في حالة متطرفة». عندما يكون الإجهاد مزمناً، تزداد نسب الكورتيزول في الجسم بشكل مستمر، ولكن جهاز الاستجابة للإجهاد لا يوقف نفسه بنفسه. وفقاً لـ «رينزو بيانشي»، عالم النفس في جامعة «نوكاتيل» في سويسرا، تبدأ مرحلة الاحتراق الوظيفي عندما يصل هذا النظام للحد الأقصى. يقول بيانشي: «يُرهق نظام الاستجابة للإجهاد لدرجة تمنعه من إنتاج الكورتيزول».

قد يجعلك الكورتيزول تتوتر وتشعر بالإجهاد، ولكننا نحتاج إلى هذا الهرمون لنبقى على قيد الحياة. إذ أنه يوقظنا في الصباح حرفياً. لذا، عندما يدخل الأشخاص في مرحلة الاحتراق الوظيفي هذه، يشعرون بأنهم متعبون ومتشائمين، ويفقدون الدافع لفعل أي شيء، وقد يعانون أيضاً من ضعف في الإدراك وتغيّرات في الذاكرة.

اقرأ أيضاً: كيف تحصل على نوم عميق صحي؟

ما الفرق بين الاكتئاب السريري والاحتراق الوظيفي؟

قد تبدو هذه الأعراض شبيهة بأعراض الاكتئاب السريري. ولكن وفقاً لبعض العلماء، ومنهم «كريستينا ماسلاك»، المؤسسة المشاركة لتقييم ماسلاك للاحتراق النفسي سابق الذكر، فالاكتئاب والاحتراق الوظيفي حالتان مختلفتان.

الاحتراق الوظيفي هو متلازمة قد تجعل المصابين بها يشعرون بأنهم مكتئبين، كما أن الاكتئاب قد يجعل الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بالاحتراق الوظيفي. لكن في نهاية المطاف، الاحتراق الوظيفي مميز لأن الإجهاد الناجم عن الوظيفة هو سببه دائماً. وفقاً لباركر، يشعر المصابون بالاحتراق الوظيفي عادة بالتحسن مباشرة عند تجنّبهم لمصدر الإجهاد. ولكن هذا لا ينطبق دائماً على الاكتئاب.

وفقاً لماسلاك، إن التمييز بين الاكتئاب والاحتراق الوظيفي هام للغاية، لأنه من خلال معاملة الاحتراق الوظيفي كمرض، مثل اضطرابي الاكتئاب والقلق، فإننا نخاطر بمنح الأشخاص الذين يعانون منه علاجات خاطئة. تفيد ماسلاك أيضاً بأن هؤلاء لا يستطيعون التخلص من الاحتراق الوظيفي بالرعاية الذاتية فقط. إذ أن هذه الحالة لا تتعلق بالشخص نفسه بقدر ما تتعلق بالظروف التي يمر بها هذا الشخص. يجب على هؤلاء التخلص من سبب الإجهاد أو التوتر، ويتطلّب هذا عادة إجراء تغيّرات جذرية في مكان العمل.

اقرأ أيضاً: سعياً للرزق: ساعات العمل الطويلة تؤدي إلى موت الآلاف سنوياً

كيف يمكن التعامل مع الاحتراق الوظيفي؟

كان هذا مخيّباً للآمال بالنسبة لي عندما سمعته. عندما سعيت لاستشارة خبير، كنت قد أمضيت عدة شهور أركز على الحصول على عدد ساعات أكبر من النوم، وأن أمارس الجري لوقت أطول، وأحاول أن آخذ إجازات قصيرة. وفقاً لبيانشي، تساهم كل هذه العادات في تحسين الصحة العقلية، وقد تخفف الأعراض المزعجة لفترة قصيرة أيضاً، ولكنها لا تعالج جذر مشكلة الاحتراق الوظيفي. يقول بيانشي إن الأشخاص الذين يعانون من الاحتراق الوظيفي يمكنهم أخذ عطل بقدر ما يريدون، ولكن دون تحديد الأسباب العميقة للإجهاد، سينتكسون في نهاية المطاف.

وفقاً لدراسة مراجعة شاركت ماسلاك في تأليفها ونُشرت في كتاب بعنوان «الإجهاد: الإدراك، العواطف، والسلوك» في 2016، تظهر 6 عوامل خطر أساسية تساهم في الإصابة بالاحتراق الوظيفي في الأدبيات العلمية: عبء العمل، الاستقلالية التي تتمتع بها كموظف، العدالة في مكان العمل، والشعور بالمكافأة (اي مقدار التقدير الذي تتمتع به)، مجتمع مكان العمل (أو الدعم الاجتماعي الذي تتلقاه من زملائك وعملائك، وأخيراً، القيم والمعنى، أي إذا ما كان العمل الذي تقوم به يتناغم مع قيمك أم لا.

وفقاً لماسلاك، يمتلك المُوظِّفون القدرة على منع  الاحتراق الوظيفي عن طريق خلق بيئة عمل عادلة وداعمة يشعر فيها الأشخاص باستقلاليتهم وبأنهم قادرون على التعامل مع عبء العمل الذي يقع على عاتقهم. لكن قد يضطر الأشخاص المصابون بالاحتراق الوظيفي إلى تحديد العوامل التي تؤثر سلبياً عليهم حتى يتمكّنوا من التعامل مع حالتهم بأنفسهم. تقول ماسلاك أنه بالنسبة للبعض، قد يتطلب علاج الاحتراق الوظيفي تغيير الوظيفة بالكامل.

مع ذلك، هذا لم يكن ما فعلته. بدلاً من ذلك، عالجت عوامل الخطر الستة واحداً تلو الآخر. كلما فكرت في الأمر أكثر، زادت قناعتي بأن عبء العمل الذي وقع علي لم يكن هو المشكلة، وأدركت أنني لم أفكر منذ زمن طويل بالأمور التي جعلتني أحب الصحافة في المقام الأول، مثل التكلّم مع العلماء، وحب مهنة الكتابة بحد ذاتها، والإثارة في العثور على قصة جديدة، أو بتعبير آخر، قيمي الخاصة. أنشأت جداولاً في الموضوعات التي تثير اهتمامي، والعلماء الذين أرغب بالتحدث معهم، والمشاريع التي أهملتها لوقت طويل. ثم فكرت بطرق لتخصيص وقت لإنجاز كل هذا، ولإنجاز مهام مثل البحث على الإنترنت عن قصص مثيرة.

بينما كنت أتوقع أن الحل يتضمن الكثير من الراحة، إلا أن علاج حالتي الخاصة من الاحتراق الوظيفي تضمّن الكثير من العمل. ولكن كان الأمر يستحق العناء. بعد 3 أشهر من بدء هذا الحل، أصبحت اللغة تثير حماسي من جديد. وأصبحت أزعج أصدقائي مجدداً بحقائق عن الضفادع والفيزياء. كما أني أقضي عدة ساعات في الأسبوع في المقهى لأعمل على مشاريعي الخاصة.

قبل 9 أشهر، قبل أن أدخل في مرحلة الاحتراق الوظيفي، قلت لصديق لي: «أشعر أن لدي أفضل وظيفة في العالم»، وباكتشاف السبب العميق للإجهاد الذي كنت أعاني منه، تمكّنت من استرجاع هذا الشعور.