في الحرب العالمية الثانية، اكتشف طبيب التخدير ومعالج الألم في إيطاليا هنري بيتشر (Henry Beecher) ظاهرة مدهشة، لقد لاحظ أن بعض مرضاه من الجنود في ساحة المعركة لم يحتاجوا إلى مسكنات قوية لتخفيف آلامهم، على الرغم من إصاباتهم الشديدة، والتي قد وصلت إلى حد فقدان أحد الأطراف، فتوصّل إلى أن للخوف والتوتر الذي ينتاب الجنود في المعارك القدرة على إيقاف الشعور بالألم، فكيف يحدث هذا؟ وهل يمكن الاستفادة منه للتحكم في الشعور بالألم أيّاً كان نوعه؟ إليك في هذا المقال بعض الاستراتيجيات الممكن اتباعها للتحكم في الشعور بالألم والحد منه.
ما هو الألم؟ وكيف نشعر به؟
الألم تجربة حسية تُعدّ بمثابة نظام إنذار لجسمك، تُنبّهك إلى أي ضرر محتمل أو فعلي. إنها آلية أساسية للبقاء على قيد الحياة، مُصمّمة لحمايتك وتعزيز الشفاء.
إذا لمست وعاءً ساخناً، أو وخزت إصبعك بشوكة، أو أصبت بالمرض، أو غيرها من الحالات التي قد تسبب لك شعوراً متبايناً بالألم، فإن الجسم يحاول تنبيهك لوجود خطر وضرورة تحفيز الاستجابات الدفاعية من خلال تنبيه نهايات عصبية متخصصة تُسمى مستقبلات الألم. تنتشر هذه المستشعرات في أنحاء جلدك وعضلاتك وأعضائك جميعها، وتكتشف المنبهات الضارة المحتملة، مثل الحرارة أو الضغط أو الإصابة. عندما تستشعر هذه المستقبلات الألم الخطِر، تُرسل إشارات كهربائية عبر أعصابك إلى النخاع الشوكي. ومن هناك، تنتقل الإشارات إلى الدماغ. يُفسّر الدماغ هذه الإشارات ويُحدّد نوع الألم الذي تشعر به وشدته (حاد أو خفيف أو حارق) ومن أين يأتي. عندها يمكنك إدراك الإحساس بوعي.
بمجرد معالجة المعلومات، يُطلق الدماغ استجابة، مثل الابتعاد عن الخطر، أو إطلاق مواد كيميائية مُسكّنة للألم، أو إثارة مشاعر مثل الانزعاج أو القلق.
اقرأ أيضاً: ما هو الإسعاف الرياضي وكيف يمكنه تسكين الألم وعلاج الإصابات الرياضية؟
هل يمكن حجب إشارات الألم؟
يمكن حجب الشعور بالألم من خلال اعتراض المسار الذي تعبره إشارة الألم، في أي مكان على طول المسار، بدءاً من مستقبلات الألم وصولاً إلى القشرة الدماغية، وهو المبدأ الذي تعمل وفقه مواد التخدير.
على سبيل المثال، يعطل المخدر الموضعي (مثل الليدوكايين) لدى حقنه مباشرة في الجلد مستقبلات الألم.
لكن الذي قد لا تعلمه أننا جميعاً نمتلك مسكناً طبيعياً للألم ضمن الجهاز العصبي، يمنحنا قدرة فطرية على التحكم في مستويات الألم، حيث يوجد ضمن الدماغ بنية تُعرف بالمنطقة الرمادية المحيطة بالمسال (PAG). تحتوي هذه البنية على مجموعة من الخلايا العصبية يمكنها تعديل إشارات الألم الواردة إلى القشرة المخية لتخفيف شعور الألم.
لتوضيح وظيفة هذه الخلايا، إليك هذا المثال الذي قد تكون مررت به شخصياً أو شاهدت غيرك قد مر به، وهو حمل وعاء ساخن بيديك العاريتين من أي حماية. في هذه الحالة قد تُفلت الوعاء فيقع على الأرض، أو في حالة أخرى قد تساعدك هذه الخلايا على تخفيف الإحساس بالألم وقتاً كافياً لإعادة الوعاء أو وضعه على الموقد، بما يجنبك سقوطه على الأرض. كذلك الأمر بالنسبة للجنود في أرض المعركة، إذ تساعدهم هذه الخلايا على تخفيف الشعور بألم الإصابة ريثما يصلون إلى بر الأمان.
كيف تعمل هذه الخلايا؟
تحفز هذه الخلايا إنتاج مسكنات ألم طبيعية، مثل الإندورفينات والإينكيفالينات، في مناطق مختلفة من الدماغ بما فيها القشرة الجفنية الأمامية والحبل الشوكي. تخفف هذه المواد إشارات الألم قبل وصولها إلى القشرة المخية، بما يسمح للجسم بتجاوز الشعور بالألم مؤقتاً لدعم البقاء أو الأنشطة الوظيفية.
ومن المثير للاهتمام أن الخلل في هذا النظام يُعتقد أنه يُسهم في الألم المزمن، حيث تستمر إشارات الألم دون داعٍ.
كيف تخدع دماغك لإيقاف الألم؟
يمكنك التحكم بشعور الألم وحجب إشاراته من خلال تعزيز إطلاق المواد المُسكّنة للألم، وهو ما قد تستطيع التحكم به بعدة طرق. إليك أهم الآليات التي تستطيع بها خداع دماغك لإيقاف الشعور بالألم:
1- تأثير الدواء الوهمي
هل سمعت أو شاهدت سابقاً وهم اليد المطاطية؟ حسناً إنه تجربة، يجلس فيها المشاركون مع إخفاء إحدى أيديهم تحت قطعة قماش ووضع يد مطاطية مزيفة أمامهم بديلاً عنها. يحاول العلماء فيها مداعبة اليد الحقيقية والمزيفة في آنٍ واحد بفرشاة. مع مرور الوقت، يبدأ العديد من المشاركين في الشعور بلمسة اليد المطاطية المزيفة ويُدركونها على أنها ملكهم. ينشأ هذا الوهم لأن الدماغ يدمج المعلومات البصرية واللمسية التي يتلقاها، مع إعطاء الأولوية للمدخلات الحسية المتزامنة.
في دراسة حديثة نشرتها دورية تقارير الألم (PAIN Reports)، تبين أنه مثلما يمكن خداع الدماغ للشعور بالألم، فإنه يمكن خداعه لتخفيف الشعور به. في الدراسة أجرى الباحثون تجربة اليد المطاطية، ثم استخدموا مصدراً حرارياً حقيقياً لتطبيق حرارة مؤلمة على ذراع المشاركين الحقيقية، بينما وضعوا مصدراً آخر مزيفاً على الذراع المطاطية (اليد الوهمية)، بحيث يضيء مع المصدر الحقيقي في أثناء تحفيز الألم. عندما أضاء المصدر المزيف على اليد المطاطية في أثناء تحفيز الألم الحقيقي، خدع الدماغ وجعله يعتقد أن مصدر الألم هو اليد الوهمية.
لاحقاً استخدم الباحثون كريماً وهمياً لتسكين الألم في نقاط الألم في الذراع المطاطية، فأفاد المشاركون الذين جربوا وهم اليد المطاطية بانخفاض في شدة الألم. إن ما حدث في الواقع هو تغير في تحفيز آلية التسكين الطبيعي (إفراز المواد الأفيونية مثل الإنكيفالينات) من خلال مجموعة من العوامل النفسية؛ مثل الشعور بملكية اليد المطاطية وتوقع تخفيف الألم.
اقرأ أيضاً: لماذا يعتبر استخدام المقياس من 0 إلى 10 غير دقيق في التعبير عن الألم؟
2- الضحك
يمكن للضحك، كما في مشاهدة فيلم مضحك أو مُشاركة النكات مع الأصدقاء، أن يصرف انتباهك عن ألمك ويمنحك شعوراً مؤقتاً بالراحة.
عندما تضحك، يُطلق دماغك مزيجاً من المواد الكيميائية المُحسّنة للشعور بالسعادة، بما في ذلك الإندورفين، وهي مُسكنات ألم طبيعية في الجسم؛ تقلل الشعور بالألم وتولّد شعوراً بالراحة.
أضف إلى ذلك، يُساعد الضحك على تحسين صحتك النفسية بتقليل التوتر والقلق، فهو يُخفّض مستوى هرمونات التوتر مثل الكورتيزول والأدرينالين، بينما يُعزّز مستويات الدوبامين والسيروتونين، ما يُحسّن مزاجك ويُحفّزك على الاسترخاء. يُمكن لهذا التحوّل العاطفي أن يُساعد على تشتيت انتباه عقلك عن الألم.
3- العلاج بجهاز سكرامبلر: إعادة ضبط الدماغ لمنع الألم المزمن في الجلد
علاج "سكرامبلر" هو علاج غير جراحي للألم المزمن في الجلد، وافقت عليه إدارة الغذاء والدواء الأميركية عام 2009. صمّم العلاج لإعادة ضبط استجابة الدماغ للألم المزمن من خلال حجب إشارات الألم وتعزيز المسارات المثبطة للجهاز العصبي في آنٍ واحد.
يعمل هذا العلاج عن طريق تطبيق تحفيز كهربائي عبر أقطاب كهربائية موضوعة أعلى المنطقة التي يشعر فيها المريض بالألم وأسفلها. يعرقل هذا التحفيز رسائل الألم القادمة من الأعصاب التالفة، ويستبدل بها إشارات غير الألم من المناطق المجاورة.
يمكن القول بعبارة أخرى، يُشوّش العلاج إشارات الألم المُرسَلة قبل وصولها إلى مراكز الألم في الدماغ. تسمح "إعادة ضبط الدماغ" هذه بإعادة ضبط إدراكه للألم، ويُقلل الألم المزمن. يشعر العديد من المرضى بتخفيف كبير ودائم غالباً بعد سلسلة من الجلسات، ما يجعل علاج "سكرامبلر" بديلاً واعداً وغير جراحي لعلاجات الألم التقليدية مثل التحفيز الكهربائي عبر الجلد أو استخدام المواد الأفيونية لفترة طويلة.
في دراسة نشرتها مجلة نيو إنغلاند الطبية (The New England Journal of Medicine)، تبين أن العلاج بجهاز سكرامبلر يمكن أن يُحقق راحة كبيرة لنحو 80%-90% من مرضى الألم المزمن، وقد يكون أكثر فعالية من علاج غير جراحي آخر.
4- تقنيات دماغية
يمكن لبعض التقنيات أن تقلل الحاجة للمسكنات وتخفف الألم لبعض أنواع الآلام المزمنة؛ مثل ألم الظهر أو الألم الليفي العضلي أو التهاب المفاصل، وذلك من خلال تحويل التركيز بعيداً عن الألم، وتغيير الطريقة التي يدرك بها الدماغ إشارات الألم، وتحفيز إنتاج الإندورفين (مسكن طبيعي للألم)، ما يجعل الألم أقل حدة. من هذه التقنيات:
- التنفس العميق: يعد التنفس العميق أساساً للتقنيات جميعها، ويتضمن الشهيق بعمق مع حبس النفس بضع ثوان، ثم الزفير. عندما تشعر بالألم، يميل جسمك إلى التشنج، ما قد يزيد الشعور بعدم الراحة. يساعد التنفس العميق وتنظيم إيقاع التنفس على تنشيط الجهاز العصبي الباراسمبثاوي، ما يقلل مستويات هرمونات التوتر والقلق ويكسر دائرة الألم والقلق.
- تحفيز استجابة الاسترخاء: عملية تهدف إلى تحقيق حالة من الهدوء والسكينة التي تعاكس استجابة التوتر المعروفة بـ "الكر والفر"، تتضمن إغلاق العينين لتقليل المشتتات البصرية وتعزيز التركيز الداخلي على الأنفاس لتنظيمها، ثم محاولة إرخاء عضلات الجسم جميعها بدءاً من الرأس وحتى أخمص القدمين. يمكنك القيام بذلك عن طريق توجيه انتباهك إلى كل مجموعة عضلية على حدة، وتحرير أي توتر قد تشعر به، وذلك نحو 10-20 دقيقة. ما يسمح لجسمك ودماغك بالاسترخاء تماماً. يلي ذلك الجلوس بهدوء مدة دقيقة أو دقيقتين لتسمح لأفكارك بالعودة تدريجياً إلى حالة الوعي.
- التأمل مع التخيل الموجّه: هو تقنية استرخاء تتضمن التركيز على الصور الذهنية لخلق شعور بالهدوء والإيجابية والشفاء. تبدأ هذه الممارسة بالتنفس العميق، ثم تصور بيئات أو سيناريوهات هادئة، بمساعدة الموسيقى أو مرشد صوتي.
- اليقظة الذهنية: ممارسة تركيز انتباهك على اللحظة الحالية لإدراك أفكارك وعواطفك وأحاسيسك ومحيطك دون محاولة تغييرها أو تجنبها. تساعد هذه الممارسة على مراقبة التجارب الشخصية بموضوعية وتجرّد. لتجربة اليقظة الذهنية، اختر أي نشاط تستمتع به، مثل قراءة الشعر، أو التنزه في الطبيعة، أو البستنة، أو الطبخ، وانغمس فيه تماماً، ثم لاحظ كيف تستجيب حواسك ومشاعرك له. بإتقان هذه الممارسة يتدرّب الذهن على تحويل التركيز بعيداً عن الألم نفسه وإعادة توجيهه إلى الأحاسيس الأخرى.