المعارك الخمس التي خاضها بناة برج خليفة

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل ثلاث سنوات، أي سنة 2014، افتتح في شانغهاي، العاصمة الاقتصادية للصين، برج عملاق يعرف ببرج شانغهاي والذي يبلغ ارتفاعه حوالي 632م، وبالتأكيد فإنه اليوم من المعالم البارزة في المدينة، وهو ثاني أعلى بناء بالعالم. لكنه في الواقع لا زال بعيداً عن الرقم الذي حققه برج خليفة سنة 2010، وللتوضيح أكثر سنحتاج لتركيب أربعة تماثيل بارتفاع تمثال الحرية فوق بعضها وفوق برج شانغهاي لنصل إلى سوية الـ 828 م التي حققها برج خليفة. لكن خلف هذا الصرح الإماراتي العظيم، والذي يمكن رؤيته من مسافة 95 كم، قصة أو مجموعة قصص يرغب المهندسون الذين عملوا في هذا المشروع أن يعلم بها الجميع، هي قصص التحديات التي كان عليهم مواجهتها.

التحدي الأول: ارتفاعات لم يفكر بها أحد من قبل

تتمتع جميع ناطحات السحاب بأنظمة هيكلية محددة أتاحت لها الوصول إلى الارتفاع الذي وصلت إليه، وفي كل مرة يتم فيها التفكير ببناء أعلى يجب التفكير بنظام هيكلي جديد، وفي حالة برج خليفة والارتفاع الذي كان مقدراً له أن يبلغه، كان بحاجة لمساحة قاعدة كبيرة جداً، قد تمنع قاطني المبنى من التمتع بإطلالة جيدة أو حتى من التمتع بضوء الشمس. وقد تم التغلب على هذه المشكلة بتصميم نظام يتألف من نواة صغيرة بشكل سداسي، تتفرع منها ثلاثة فروع أو أجنحة تعمل على تدعيم هذه النواة وعلى تغطية المساحة المطلوبة، مع ضمان وصول ضوء الشمس إلى كافة أجزاء المبنى، حيث أن مسقط البناء من الأعلى هو أشبه بالنجمة الثلاثية. كان هذا هو الحل الأمثل لإنشاء بناء قادر على تخديم الجميع وعلى تحقيق الأرقام القياسية بذات الوقت. لكن الأرض بحد ذاتها لم تكن تبدي ترحيباً كبيراً بالوافد الجديد.

التحدي الثاني: أرض رملية ضعيفة

إن أفضل أنواع الأراضي التي يمكن البناء عليها هي تلك الصخرية أو الغرانيتية والتي تثبت فيها الأساسات بشكل متين، لكن دبي لم تقدم للإنشائيين مثل تلك الأرض، فقد كانت الأرض رملية وصخورها جيرية لا تثبت فيها الأساسات كما تثبت في الأرض الغرانيتية. لكن كان العلم هو المسعف، فقد تم الاعتماد على مبدأ الاحتكاك، أي احتكاك أعمدة الأساسات مع التربة التي تغرس بها، وفي الواقع فإن هذا الاحتكاك لهو كفيل بتثبيت وتمكين الأساسات والتي كانت بحالة برج خليفة عبارة عن 192 عمود تحت النواة السداسية الشكل. لكن حتى لو ثبت البناء على الأرض، قد لا يثبت من الأعلى.

التحدي الثالث: رياح بسرعات هائلة

ماذا لو تعرض البناء لأشياء تصطدم به باستمرار بسرعة 240 كم/سا؟ بالتأكيد لن يكون الأمر بسيطاً. في الواقع هذا ما سيتعرض له أعلى البرج، فسرعة الرياح في المنطقة لا يستهان بها، وهي قادرة على جعل قمة البناء تترنح بحوالي 1.25م، وسرعة الرياح إجمالاً هي من الأمور التي تؤخذ بعين الإعتبار عند تصميم أي بناء، حتى أن هناك فرع خاص بالهندسة يعرف بهندسة الرياح، وذلك للتعامل مع هذه القضايا. وقد تم التغلب على الرياح الهوجاء، بجهود مهندسي الرياح، عن طريق وضع دعامات خارجية للبناء تمنعه من الترنح، وكذلك تم تقليص عرض البرج عند السويات المرتفعة، والأهم من كل ذلك أن جهة البرج تم تدويرها لكي تتلاءم مع اتجاهات الرياح السائدة. وهكذا تم حل معضلة أخرى، لكن الخصم نفسه، أي الرياح، كان يخبئ مفاجأة أخرى.

التحدي الرابع: هل يمكنك الخروج إلى الشرفة؟

في التحدي السابق تم منع الرياح من تحريك البناء، لكن هل يمكن منعها من إلقاء البشر من الشرفات العالية؟ لم يكن من الممكن منع الأشخاص من التمتع بالارتفاعات العالية ومن الوقوف على الشرفات الأعلى بالعالم، لكن الرياح التي ستهب بسرعات معينة ستتمكن من حمل الأشخاص وإلقائهم عند أقدام المبنى الذي يحملهم، لكن مهندسي الرياح لم تفرغ جعبتهم من الحلول، فقد تم تصميم واجهة الشرفة (الدرابزين) بحيث تمنع تيارات الهواء من التحرك داخل الشرفة، كذلك تم وضع حواجز داخل الشرفات لذات الغاية، كما تم تصميم ما يشبه العرائش التي تظلل الناس لكنها مزودة بشفرات مائلة تبعد عنهم التيارات. والابتكار المهم الذي زود به البناء كان جهاز إنذار يقيس سرعة الرياح وينذر السكان من الخروج إلى الشرفة مما يضمن سلامتهم الشخصية.

التحدي الخامس: شارفنا على الإنتهاء ولكن …

ما أن شارفت عمليات الإنشاء على الانتهاء حتى ظهرت مشكلة لم تكن بالحسبان. فقد تبقى وضع أنبوب فولاذي طوله 136 م ووزنه 350 طن على القمة، وهو جزء مهم من تصميم هذا البناء الشاهق، لكن المشكلة أن الرافعات لم تكن مصممة للوصول إلى هذه الإرتفاعات، وطائرات الهليكوبتر غير قادرة على حمل هذا الوزن، باختصار كان المهندسون أمام مشكلة قد تفسد فرحتهم باللحظات الأخيرة، لكن بالتأكيد لم يعدم أولئك البنائين المخضرمين الحلول، فقد تم تفكيك الأنبوب ومن ثم تركيبه داخل المبنى، ثم تم رفعه بواسطة الحبال من منتصف البناء إلى المكان الذي كان يجب أن ينتصب فيه. وكانت تلك آخر العقبات التي واجهت البرج قبل أن يبصر النور.

في عالم الإبداع لا توجد طرق معبدة وممهدة، بل هي دائماً طرق وعرة وتضع المبدعين أمام تحديات جمة، فمنهم من يجد فيها فرصة للمزيد من الإبداع، ومنهم من ينسحب ويلقي باللائمة على الظروف. لكن القائمين على مشروع برج خليفة كانوا من النوع الأول، فقد ألقوا قفاز التحدي، ونهضوا بالبناء إلى أن طاول عنان السماء ولا زال شامخاً يرحب بزواره بكل بشاشة.