كيف سيبدو العالم من دون بعوض؟

3 دقيقة
بعوضة الزاعجة المصرية تنقل عدداً من الأمراض الخطيرة.

في عام 1958، أعلنت منظمة الصحة للبلدان الأميركية أو "باهو" اختصاراً عن حدث بارز: فقد نجحت في القضاء على بعوضة الزاعجة المصرية -الناقلة للأمراض الفتاكة مثل حمى الضنك والشيكونغونيا والحمى الصفراء- في البرازيل. وقد جاء ذلك تتويجاً لعقود من العمل. في ثلاثينيات القرن العشرين، نجح نظام تفتيش طموح في إزالة أي مصادر للمياه الراكدة -وهي أماكن تكاثر البعوض الرئيسية- في المناطق التي اكتشفت فيها الزاعجة المصرية. وقد خففت السلطات شدة هذا النظام المرهق في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية بعد أن نجحت في القضاء على البعوض بسلاح جديد: مبيد الحشرات دي دي تي، وهو اختصار للاسم العلمي " ثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو الإيثان".

لم تتوقف منظمة باهو عند الحدود البرازيلية؛ فبحلول منتصف السبعينيات، كانت الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي وباراغواي من بين تسع دول في أميركا الجنوبية والوسطى قد نجحت في القضاء على الزاعجة المصرية. وقد كان لذلك آثار وبائية كبيرة: فقد اختفت حمى الضنك وغيرها من الأمراض تقريباً من البلدان التي شهدت استخداماً واسعاً للدي دي تي، وانحسر شبح هذه الأمراض من القارة.

لكن لسوء الحظ، لم تنته القصة بعد.

البعوض يضرب من جديد

فشلت جهود مكافحة البعوض في مراعاة مدى استمرارية حشرة الزاعجة المصرية. ولم يجر القضاء عليها في كولومبيا أو غويانا. ففي غضون بضعة عقود فقط من إعلان منظمة باهو، عادت حمى الضنك للظهور مرة أخرى. والأسوأ من ذلك، أن مادة دي دي تي، وهي المبيد الحشري المفضل لدى منظمة باهو، قد اكتشفت آثارها المروعة على التنوع البيولوجي في البيئات التي يجري رشها بها. وقد انقلب الرأي العام ضد هذه الأداة العشوائية بعد نشر كتب مثل كتاب راشيل كارسون الربيع الصامت.

اقرأ أيضاً: كيف يتعقب البعوض فرائسه؟ دراسة جديدة تُجيب

لننتقل سريعاً إلى يومنا هذا. فقد كان العام الماضي أحد أسوأ الأعوام المسجلة لحمى الضنك في أميركا الجنوبية في مواجهة عودة ظهور بعوضة الزاعجة المصرية. وظهرت أمراض جديدة ينقلها البعوض مثل زيكا. وبات حلم خلو أميركا الجنوبية من الآفات أبعد من أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن القضاء على الأمراض التي ينقلها البعوض لا يزال الهدف الأسمى بالنسبة إلى الرئيس التنفيذي للبرنامج العالمي لمكافحة البعوض، سكوت أونيل، وهذا البرنامج يضم شبكة من الشركات المنبثقة عن جامعة موناش.

مساعدة الولبخية على الفوز

يوضح أونيل أن برنامجه لا يهدف إلى قمع البعوض بل مساعدته على مكافحة الفيروسات التي تصيبه وتحوله إلى ناقل للأمراض. يتضمن نهج البرنامج العالمي لمكافحة البعوض بكتيريا الولبخية التكافلية .

ويقول أونيل موضحاً: "يمتلك نحو 50% من الحشرات جميعها بكتيريا الولبخية بصورة طبيعية". لا تستطيع هذه البكتيريا البقاء على قيد الحياة خارج أجسام الكائنات المضيفة وتصيب العديد من الأعضاء في حشرة الزاعجة المصرية. ينتج البرنامج العالمي لمكافحة البعوض أعداداً هائلة من البعوض المصاب بالولبخية ويطلقها في البيئة، كما تستغل الفيروسات المسببة للأمراض داخل بعوض الزاعجة المصرية خلايا مضيفها للتكاثر. يهدف أونيل إلى تكوين سرب من البعوض تضطر فيها هذه الفيروسات إلى المنافسة مع الولبخية.

إن محاربة الولبخية داخل حشرة تشبه محاولة مصارعة دب قطبي في عاصفة ثلجية في سيبيريا، فقد طورت هذه البكتيريا أدوات بارعة مختلفة لتجعل من نفسها الكائن المتكافل المسيطر. ويوضح أونيل أنها تغير مستوى الدهون داخل خلايا البعوض، ما يجعل من الصعب عليها التكاثر. علاوة على أنها تعزز الاستجابات المضادة للفيروسات في الجهاز المناعي للزاعجة المصرية، ما يساعد البعوضة على محاربة منافسيها.

لا حاجة إلى مزيد من التدخل بعد الحقن الأولي للحشرات المصابة بالولبخية. وبمرور الوقت، ستنتشر الولبخية بصورة طبيعية بين أسراب البعوض وينخفض عدد الحشرات التي يمكن أن تصاب بالفيروسات. ويقول البرنامج العالمي لمكافحة البعوض إن هذا النهج أدى إلى خفض معدلات الإصابة بحمى الضنك في أستراليا وكولومبيا. وفي تجربة منضبطة أجريت في إندونيسيا، نجحت هذه التقنية في خفض حالات الإصابة المؤكدة فيروسياً بحمى الضنك بنسبة 77%.

اقرأ أيضاً: 10 أشياء تجذب البعوض إليك أكثر من غيرك

فماذا سيحدث إذا اختفت أنواع البعوض كلها؟

يقول أونيل إنه لو اندثرت بعوضة الزاعجة المصرية بطريقة ما من الوجود، لما ألحقت ضرراً كبيراً بالنظم البيئية التي تعيش فيها. ويرجع ذلك إلى تجاهلها الكبير للبيئات التي تعيش فيها الحيوانات الأخرى، على عكس الأنواع الأخرى من البعوض التي تعد مصادر غذائية للضفادع والأسماك. يقول أونيل: "إنها تعيش في المدن، وهي متكيفة ببراعة مع لدغ البشر". 

يشير بعض العلماء إلى أنه في حال اختفاء أنواع البعوض كلها، فسيكون لذلك آثار كبيرة في أعداد الطيور. إلا أن باحثين آخرين يعارضون هذا الرأي، إذ يؤكدون أنها ليست جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه في النظام الغذائي لهذه الطيور. وبعض أنواع البعوض من الملقِحات، على الرغم من أن عدداً قليلاً جداً من أنواع النباتات لا تلقح إلا بواسطة البعوض. باختصار، ستتأثر النظم البيئية بفقدان أنواع البعوض كلها، ولكن بدرجة أقل بكثير من فقدان الملقحات الحيوية مثل نحل العسل.

وقد باءت جهودنا في القضاء حتى على نوع واحد من البعوض غير المهم بيئياً بالفشل حتى الآن. يقول أونيل إن علماء الحشرات يطلقون على بعوضة الزاعجة المصرية لقب "صرصور عالم البعوض" لسبب وجيه، فقدرتها العالية على المقاومة وانتشارها الواسع النطاق يشيران إلى أنه من غير المرجح أن نرى عالماً خالياً من هذه الآفة الطنانة في أي وقت قريب.

المحتوى محمي