الرجاء تفعيل الجافاسكربت في متصفحك ليعمل الموقع بشكل صحيح.

كيف يستنزف تعدد المهام الدماغ؟

9 دقيقة
"الأشخاص الذين يُجرون المهام المتعددة لا يجيدون تجاهل المعلومات غير المتعلقة بهذه المهام، إضافة إلى أنهم لا يجيدون الاحتفاظ بالمعلومات في أذهانهم على نحو منظم ومرتب، ولا يجيدون الانتقال من مهمة إلى أخرى". المصدر: ديبوزيت فوتوز

سواء طبّقنا تعبير "تعدد المهام" على الآلات أو الأدمغة البشرية، فإنه تعبير خاطئ. على الرغم من مزاعم المروجين، فإن أجهزة الكمبيوتر لا تجري مهام متعددة، وكذلك الأمر بالنسبة للدماغ البشري. الدماغ غير قادر على ذلك ببساطة، بينما يقسّم معالج الكمبيوتر عمله إلى دورات ويخصص جزءاً من الوقت لكل مهمة (مثل 200 ميلي ثانية)، ويكرر هذه العملية حتى تكتمل المعالجة. غياب الكفاءة المتأصل في تقسيم وقت المعالج هو السبب الذي يجعل جهاز الكمبيوتر يتباطأ كلما أجبرته على إجراء عدد أكبر من المهام.

الدماغ يفتقر إلى الطاقة اللازمة لإجراء مهمتين في الوقت نفسه

يستجيب الدماغ بالطريقة نفسها عندما يضطر لإجراء أكثر من مهمة تتطلب الانتباه؛ إذ إنه يفتقر إلى الطاقة اللازمة لإجراء مهمتين في الوقت نفسه، فضلاً عن ثلاث مهام أو خمس. إذا حاولت فعل ذلك، فسيكون أداؤك في كل مهمة أقل جودة مقارنة بأدائك لو ركّزت تماماً على كل مهمة وأجريت المهام بالتتابع.

وفقاً لأستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة جورج تاون، كال نيوبورت، قد يكون مجرد التحقق من صندوق الواردات والعودة إلى إجراء المهمة على الفور مضراً مثل تعدد المهام. يقول نيوبورت: "عندما تتحقق من صندوق الواردات مدة 15 ثانية، فإنك تحفّز سلسلة من التغييرات الإدراكية"، ويضيف قائلاً إنه حتى الانتقال البسيط من مهمة حالية إلى أخرى "قاتل للإنتاجية".

تنبأ الأستاذ في جامعة ستانفورد، كليفورد ناس، أن تعدد المهام سلوك خبيث بصورة خاصة، وافترض في إحدى دراساته الأكثر استشهاداً أن الأشخاص الذين يجرون مهام متعددة على نحو مكثّف بارعون في تجاهل المعلومات غير المتعلقة بالمهام ويجيدون الانتقال من مهمة إلى أخرى، ما يعني أنهم يتمتعون بقدرة أكبر على استرجاع الذاكرة. لكنه كان مخطئاً في النقاط جميعها، وقال لمجلة فرونت لاين (Frontline) عام 2009: "صُدمنا تماماً؛ إذ إن الأشخاص الذين يجرون المهام المتعددة لا يجيدون تجاهل المعلومات غير المتعلقة بهذه المهام ولا يجيدون أيضاً الاحتفاظ بالمعلومات في أذهانهم على نحو منظم ومرتّب، بالإضافة إلى أنهم لا يجيدون الانتقال من مهمة لأخرى".

افترض ناس أن الأشخاص سيتوقفون عن محاولة إجراء المهام المتعددة بمجرد أن يوضح لهم أحد الأدلة التي تبين انخفاض أدائهم. لكن الأشخاص الذين شاركوا في الدراسة التي أجراها "لم يتأثروا على الإطلاق"، حسب تعبيره، واستمروا في الاعتقاد بأنهم يتمتعون بأداء ممتاز في إجراء المهام المتعددة وبأنهم "يستطيعون إجراء المزيد منها". إذا كان الأفراد في تجربة منضبطة غافلين لهذه الدرجة، إضافة إلى أنهم رفضوا تغيير سلوكهم في ضوء الأدلة التي تبين سوء الأداء، فكيف للآخرين أن يدركوا حقيقة تعدد المهام ويغيروا سلوكهم علماً أنهم يتعرضون للعديد من المشتتات اليومية؟

اقرأ أيضاً: كيف ينظّم الدماغ عملية المشي؟

التأثير الحقيقي لتعدد المهام

مشاهدة التلفاز في أثناء استخدام جهاز ذكي آخر شائع للغاية لدرجة أن أكثر من 60% من البالغين في الولايات المتحدة يمارسون بانتظام ما يحمل اسم "تعدد المهام في متابعة وسائل الإعلام". وفقاً لدراسة نشرها موقع بَبْ ميد (PubMed)، يواجه الأشخاص الذين يمارسون تعدد المهام في متابعة وسائل الإعلام صعوبة أكبر في الحفاظ على الانتباه ويميلون إلى النسيان مقارنة بأفراد مجموعة الضبط؛ إذ إن القشرة الحزامية الأمامية في أدمغتهم (وهي الجزء من الدماغ الذي يسهم في توجيه الانتباه) أصغر حجماً مقارنة بأفراد مجموعة الضبط. اكتشف العلماء في دراسة أخرى نشرها الموقع نفسه أنه كلما ازداد عدد الدقائق التي يقضيها الأطفال في سن 18 شهراً في ممارسة تعدد المهام عند استخدام الشاشات، تراجعت قدراتهم المعرفية في مرحلة ما قبل المدرسة وازداد عدد المشكلات السلوكية التي عانوها في سن الرابعة والسادسة. ينصح مؤلفو هذه الدراسة باتباع التربية الإيجابية ومنع الأطفال من ممارسة تعدد المهام عند استخدام الشاشات قبل سن الثانية.

المشكلات التي يتسبب بها تعدد المهام كبيرة بصورة خاصة في مجالات مثل الطب، الذي يؤدي فيه الاهتمام بالتفاصيل إلى إنقاذ حياة المرضى أو التسبب بموتهم. أحد الأمثلة الملائمة على ذلك هو جلسة تدريبية مع طلاب الطب في جامعة جورج واشنطن تناولنا فيها حادثة ورد أنها وقعت في مستشفى تعليمي معروف آخر. اطلعت على الحادثة خلال جلسات تنمية أعضاء هيئة التدريس في جامعتي، لكن امتنع ناقلها عن التصريح بالتفاصيل الدقيقة للحفاظ على الخصوصية والسرية.

مسح الذاكرة العاملة

تقول القصة إنه خلال الجولات على المرضى في جناح سرطان الأطفال، شتت صوت رسالة نصية واردة انتباه الطبيبة المقيمة التي كانت تكتب وصفات طبية وتحدّث المخطط الإلكتروني. وُلدت هذه الطبيبة في العصر الرقمي (ما يعني أن استخدام الأجهزة الإلكترونية مألوف بالنسبة لها)، وكانت الرسالة التي وصلتها تتعلق بحفلة سيجريها أحد أصدقائها، وهي لم تكن مهمة في تلك اللحظة. مع ذلك، استحوذت الرسالة على انتباه الطبية فترة كافية لمسح ذاكرتها العاملة. (عندما تتعرض للمقاطعة، لا تتاح لك فرصة مسح ذاكرتك العاملة تماماً؛ إذ إنك ستظل منتبهاً جزئياً للمهمة السابقة. وكلما كان انتباهك أشد أصبحت عواقب الانتقال من مهمة لأخرى أكبر). كان الفريق السريري يناقش تغيير جرعة دواء وريدي، ولم تُدخل الطبيبة هذا التغيير في الوصفة. بحلول الوقت الذي اكتشف فيه الأطباء هذا الإغفال، أصاب المريضة البالغة من العمر أربع سنوات فشلٌ كلوي ودخلت في صدمة. في حالة أخرى شملت 257 ممرضة و3,308 من مرضى قسم العناية المركزة للأطفال، وقعت أخطاء دوائية عندما وردت رسالة نصية أو مكالمة هاتفية على الهاتف المؤسسي المخصص لإحدى الممرضات "في الدقائق العشر التي سبقت منح الدواء".

اقرأ أيضاً: 9 مؤشرات بيولوجية بسيطة تقيس بها قوة ذاكرتك

"الاستماع" مختلف عن "الإنصات"

نعرف جميعاً كيف يضيع ملء السجلات الطبية الإلكترونية الوقت في جلسات الأطباء والمرضى، وهو أحد الأمثلة على العواقب السلبية المترتبة على تعدد المهام. بدلاً من فحص المريض بالنظر واللمس والاستماع إليه، يتعين على الأطباء الآن أن يكتبوا المعلومات ويضيفوا علامات في مربعات الاختيار في العديد من الشاشات لتلبية المستلزمات البيروقراطية، وقد يقضي الطبيب الموعد بأكمله أمام شاشة الكمبيوتر. من الناحية العملية، ليس مهماً أن يكون تدوين الملاحظات باليد أو إلكترونياً، ولكنه مهم فعلاً لأن "الاستماع" مختلف عن "الإنصات"، فالأول هو سلوك غير فاعل يتمثل في إدراك الأصوات المسموعة، في حين أن الثاني هو جهد نشط يهدف لفهم وجهة نظر الآخر وما يشعر به والأفكار التي يحاول إيصالها.

يتطلب العمل على السجلات الإلكترونية قدراً كبيراً من انتباه الطبيب وذاكرته العاملة لدرجة يصبح عندها الإنصات باهتمام مستحيلاً. وبما أن الأطباء يضطرون إلى التركيز على الشاشة، فهم يفوّتون قراءة تعبيرات وجه المريض ولغة جسده. تعامل الأطباء مع هذه الانقطاعات عقوداً من الزمن دون ارتكاب مثل هذه الأخطاء، لكن عوامل التشتيت المعتمدة على الشاشة مختلفة، وهي تؤدي إلى وقوع الأخطاء بتواتر أكبر في المواقف التي تتطلب الانتباه. يسيطر شيء شديد التأثير على ما يحمل اسم "بؤرة الاهتمام"، وربما حان الوقت لنعيد تطبيق عبارة قالها آباؤنا: "انظر إلي عندما أتحدث إليك".

أُدرّس أنا وزميلي مجموعات صغيرة من طلاب الطب على مدار أربع سنوات في جامعة جورج واشنطن، ونعلّمهم طرق التفكير السريري والتطوير المهني. شاهدنا الشباب الأذكياء يتحولون إلى محترفين استثنائيين يتمتعون بمخزون هائل من المعرفة الواقعية ويتقنون الآليات اللازمة لتطبيقها بحكمة في ممارسة الطب. يتطلب تحقيق مثل هذا التحول درجة عالية من التركيز المستمر، وما ندرّسه بالفعل هو فن الطب؛ لأن الإنسان أكثر من مجرد جسم بشري. مع ذلك، بدأت ألاحظ على نحو متزايد أن قلة الانتباه تُضعف قدرات طلابنا، خاصة الطلاب الجامعيين الذين ألتقي بهم.

دور الشاشات: أن تنظر دون أن ترى

انفتح باب مصعد كنت أنتظره في يوم من الأيام وخرج نحو عشرة طلاب جامعيين. كان الجميع يحدقون في هواتفهم غير مدركين لوجودي حتى عندما تدافعوا واصطدموا بي. شكّل تحكّم الشاشات في انتباههم بقعة عمياء جعلتني غير مرئي بالنسبة لهم، وهي سمة طبيعية للإدراك تحمل اسم "عمى عدم الانتباه" أو "عمى التغيير". (أحد الأمثلة المذهلة على هذه الحالة هو اختبار "الغوريلا غير المرئية" المتوافر على موقع يوتيوب). هذه الظاهرة ليست عيباً أو وهماً بصرياً؛ إذ إن الدماغ اكتسب في أثناء تطوره القدرة على تجاهل أي شيء خارج تركيزه المباشر حتى إذا كان أمام العينين. يُدخل بعض أنواع تلف الدماغ المرضى في حالة دائمة من عمى عدم الانتباه، وهي نوع من عمى التعرف على الوجوه (أو العَمَه، باليونانية agnosia، وتعني "عدم المعرفة"). بتعبير بسيط، يصف علماء الأعصاب هذه الحالة بأنها حالة ينظر بها المريض ولكنه لا يرى. يبدو أن عدداً متزايداً من السكان يعيش حياته وينظر إلى الشاشات ولكن لا يرى ما يجري حوله.

بما أن الانتباه يشبه ضوءاً كاشفاً حاد الأطراف، نحن عاجزون تماماً عن معرفة ما يفوتنا. يقع كل ما هو خارج محيط هذا الضوء داخل النقطة العمياء في عقولنا بالتعريف. اكتسب الطلاب الذين اندفعوا نحوي دون وعي عادات تخفض قدرتهم على التعلم والتفكير والتذكر بفعالية. والأسوأ من ذلك هو أن انغماسهم في الشاشات جعلهم يتجاهلون الإعاقة التي فرضوها على أنفسهم.

تنص إحدى الأفكار الخاطئة الراسخة على أننا لا نستخدم سوى 10% من أدمغتنا، بينما تبقى النسبة المتبقية خاملة وتؤدي دور قدرة احتياطية. لو كانت فرضية القدرة الفكرية غير المستغلة صحيحة، فإن الأفلام السينمائية مثل جوني نيمونك (Johnny Mnemonic) ولوسي (Lucy) وليميتلس (Limitless) ستكون أفلاماً وثائقية بدلاً من أفلام خيال علمي مثير.

مع ذلك، يعتقد ثلثا الأميركيين وأكثر من ربع مدرسي العلوم أن هذه الفكرة صحيحة، علماً أنها ربما تمثّل أساساً لافتراضات مفادها أن المرء قادر على إجراء مهام متعددة والتغلب على عوامل التشتيت بقوة الإرادة. الأسوأ من ذلك هو أن العديد من مدرسي العلوم الأميركيين يعتقدون أن إثراء بيئة الطفل بمقاطع الفيديو من سلسلة بيبي أينشتاين (Baby Einstein) أو أجهزة الآيباد المثبتة على الأسرّة ومقاعد السيارات وأوعية التغوّط يعزز الذكاء، على الرغم من أن الأدلة التي تدعم هذه الادعاءات نادرة. على العكس من ذلك، يبين العديد من الأدلة كيف يعوق التفاعل مع التكنولوجيا التطور الطبيعي للطفل الذي كان ليختبر مستويات طبيعية من التفاعل مع الآخرين لولاها. لا شك في أن كلاً من النشأة في عزلة وحرمان الأطفال من التواصل البشري يعوق نمو الدماغ بدرجة عالية، ولكن هذا لا يعني أن استخدام التكنولوجيا لإثراء البيئة العادية للطفل يعزز النمو المعرفي. تعادل مضار التحفيز المفرط مضار نقص التحفيز، علاوة على أن التحفيز في حد ذاته ليس هو المهم، بل السياق الاجتماعي الذي يحدث فيه هذا التحفيز.

لا وجود لاحتياطيات غير مستغلة من الطاقة في الدماغ

تضبط الشبكات العصبية لدى البشر نفسها وتتجمع معاً وتتكيف مع التحفيز والخبرات الجديدة والسياق، وذلك لأنها تتفاعل مع بيئة اجتماعية غنية. مع ذلك، فإن استهلاك الطاقة أكثر تأثيراً من العوامل الأخرى جميعها. عندما نقيس كيف يستهلك الدماغ الطاقة فعلياً، يتضح أن الافتراض الذي ينص على أن الدماغ يحتوي على احتياطيات غير مستغلة غير صحيح؛ فليس هناك صمام يمكن فتحه لتوفير كمية أكبر من الطاقة تتيح تعدد المهام أو التفكير بعبقرية. يمكننا كشف سبب ذلك بالنظر إلى حجم الدماغ وتناسبه مع الطاقة التي يجب أن يستهلكها ليبقى على قيد الحياة. خلال الـ 2.5 مليون سنة الماضية، ازداد حجم دماغ الإنسان بسرعة أكبر بكثير من حجم الجسم، إذ إن الجهاز العصبي المركزي أكبر بتسع مرات مما هو متوقع لثديي يتمتع بوزن البشر. تمثّل القشرة المخية 80% من حجم الدماغ، وأدى استهلاكها الهائل للطاقة إلى تناول البشر وجبات غنية بالسعرات الحرارية واختراعهم الطهو. يسهّل الطهو امتصاص السعرات الحرارية من الطعام ويتيح للجسم استهلاك بروتينات اللحوم والكربوهيدرات التي يصعب هضمها في أشكالها الخام.

تستهلك أدمغة الفئران والكلاب نحو 5% من إجمالي احتياجات هذه الحيوانات اليومية من الطاقة، بينما يستهلك دماغ القردة 10% من هذه الكمية. يمثّل دماغ الإنسان البالغ 2% فقط من كتلة الجسم، لكنه يستهلك 20% من السعرات الحرارية التي يتناولها البشر، بينما يستهلك دماغ الطفل 50% ودماغ الرضيع 60%. هذه الأرقام أكبر مما قد نتوقعه قياساً بحجم جسم الإنسان، لأن حجم الدماغ في الفقاريات جميعها يزداد بمقدار يتناسب مع حجم الجسم. يتطلب الحفاظ على سلامة الأدمغة الكبيرة استهلاك كمية كبيرة من السعرات الحرارية، فضلاً عن الكمية من السعرات الحرارية اللازمة لأداء وظائفها، ويعني هذا التباين أن متطلبات الطاقة تبقى العامل المقيد مهما بلغ حجم دماغ معين.

توليد النبضات الكهربائية في العصبونات مكلف أيضاً من حيث استهلاك الطاقة. ونعلم ذلك بفضل الأبحاث التي أجراها العلماء في أثناء التخدير العام. عندما يفقد الشخص وعيه، ينخفض نشاط دماغه تدريجياً حتى يصل إلى حالة تساوي الكهربائية، وهي النقطة التي يستهلك عندها الدماغ نصف السعرات الحرارية المستهلكة في عملية التهيئة، وهي ضخ أيونات الصوديوم والبوتاسيوم عبر أغشية الخلايا للحفاظ على شحنة الراحة الكهربائية التي تحافظ على سلامة البنية المادية للدماغ. يبين هذا الضخ الذي لا ينتهي أن الدماغ مستهلك نهم للطاقة.

اقرأ أيضاً: العلماء يطرحون عدة نظريات حول تطور الخلايا وازدهار أشكال الحياة

الترميز المتفرق

حتى لو أطلقت نسبة ضئيلة فقط من العصبونات في منطقة من الدماغ الإشارات في الوقت نفسه، سيجعل العبء الناجم عن توليد الإشارات في الدماغ بالكامل هذه العملية غير مستدامة. هنا تفعل الكفاءة الفطرية للتطور فعلها؛ إذ يؤدي السماح لعدد قليل فقط من العصبونات بإرسال إشارات في وقت معين، وهي عملية تحمل اسم "الترميز المتفرق"، إلى استهلاك أقل كمية ممكنة من الطاقة مع نقل أكبر كمية ممكنة من المعلومات، وذلك لأن هناك آلاف المسارات المحتملة التي يمكن أن ينتشر فيها عدد قليل من الإشارات في الدماغ.

يتمثّل العيب الرئيسي في نظام الترميز المتفرق في أن تكلفة الحفاظ على سلامة 86 مليار عصبون في الدماغ هائلة. إذا لم تطلق بعض العصبونات الإشارات الكهربائية على الإطلاق (أي إذا عجزت هذه العصبونات عن توليد تيار شديد بما يكفي لينتقل عبر المحور العصبي ويعبر المشبك العصبي وصولاً إلى العصبون التالي)، فستصبح العصبونات زائدة عن الحاجة، ومن المفترض أن التطور كان ليتخلص منها منذ زمن طويل. لكن هذا لم يحدث. ما اكتسبه الدماغ البشري من خلال الانتقاء الطبيعي هو النسبة المثلى من العصبونات التي يستطيع الحفاظ على نشاطها في أي لحظة معينة. يعتمد هذا الرقم على النسبة بين تكلفة الحفاظ على سلامة العصبون عند الراحة والتكلفة الإضافية لإرسال إشارة عبر المحور العصبي. تبين الأبحاث أن نسبة العصبونات التي يجب أن تكون نشطة في أي لحظة معينة يجب أن تتراوح بين 1% و16% لتحقيق القدر الأقصى من الكفاءة. يستخدم البشر 100% من أدمغتهم، ولكنهم لا يستخدمون هذه النسبة كلها في اللحظة نفسها.

الحفاظ على هذا التوازن هو جزء من عملية الاستتباب، التي يمكننا تشبيهها بميزانية عُملتها هي الجزيئات الاستقلابية التي تحافظ على سلامة العصبونات البالغ عددها 86 ملياراً في الجسم. كما هي الحال في الميزانيات المالية، قد تعاني عملية الاستتباب عجزاً استقلابياً يؤدي إلى انخفاض الميزانية. عندما يحدث هذا، يوقف الدماغ العمليات التي تستهلك الكثير من الطاقة، ما يؤدي إلى الإعياء والملل والأخطاء الخرقاء والتفكير الضبابي. يشير مجال الكفاءة القصوى المذكور أعلاه إلى كمية لحظية من الطاقة تستهلكها العصبونات التي ترسل الإشارات في تلك اللحظة. وتفسّر الحاجة إلى جمع الموارد بأكثر الطرق كفاءة حقيقة أن أغلبية العمليات الدماغية غير واعية.

العمليات مثل الحفاظ على اليقظة والوعي والانتقال من مهمة لأخرى والتركيز والحفاظ على الانتباه هي أكثر العمليات استهلاكاً للطاقة. وكمية الطاقة الكبيرة التي يتطلبها نشاط القشرة المخية هي سبب تطور الانتباه الانتقائي، أي التركيز على مهمة واحدة في كل مرة، وهي التي تجعل تعدد المهام مسعىً مكلفاً وغير مجدٍ.

المحتوى محمي