هل امتلك البشر القدماء مهارات قوية في الصيد والركض؟

الصيد, القدماء, مهارات قوية
لوحة تعبر عن طريقة الصيد التي اتبعها القدماء
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كيف كان أسلافنا يصطادون الحيوانات؟ هل كان أسلافنا في العصر الحجري يطاردون الحيوانات لساعاتٍ طويلة عبر مساحات السافانا الشاسعة والجافة، غير مسلحين سوى ببعض العصي الغليظة أو الحجارة؟ هل كانوا يخدعون الحيوانات بملاحقتهم المستمرة له لدفعها للانهيار في النهاية من التعب والإرهاق في حين أسلافنا كانوا يتصببون عرقاً فقط؟

ربما لم يكن الحال كذلك.

تبدو فكرة أن أسلافنا القدماء كانوا صيادين مثابرين ويمتلكون طاقةً بدنيةً هائلة فكرة رومانسية إلى حدٍ ما، لكنها شائعةٌ خصوصاً بين المتحمسين لرياضة الجري، بينما يشير بعض العلماء إلى أن ذلك يمكن أن يقدّم تفسيراً لبعض الصفات التطورية التي اكتسبها البشر خلال المليونين سنة الماضية، حتى أن بعض الناس لا يزال يمارس رياضة الصيد هذه حتى اليوم، لكن الفكرة بحد ذاتها لا تزال موضع نقاش وجدل.

على الرغم من ترسخ هذه الفكرة في الموروث الشعبي، إلا أنه لا يوجد دليل قوي على أن أسلافنا القدماء كانوا صيادين مثابرين، ولا على أن الصيد بهذه الطريقة ربما أدى لظهور صفاتٍ تطورية. في الواقع، لا يوجد ما يدل على أن أسلافنا كانوا يحصلون على طعامهم من اللحوم عبر أسلوب الصيد بالمثابرة؛ الأدلة الموجودة تتناقض بشكل قاطع مع هذه الفكرة.

كان «ديفيد كاريير» أول من اقترح نظرية صيد المثابرة -قدرة الصياد على العدو لمسافات طويلة على مدار فترة زمنية طويلة- عندما كان لا يزال طالب دكتوراه في جامعة ميشيغان عام 1984. استندت نظرية كاريير إلى فكرة أن الانسان من الثدييات التي تقوم بتبريد نفسها عن طريق التعرق، بينما أغلب الثدييات الأخرى ذوات الأربعة أرجل تستخدم اللهاث للتخلص من الحرارة الزائدة، والتي لا تعمل بالكفاءة المطلوبة عند الجري لمسافاتٍ طويلة. يخلص كاريير بالتالي إلى أنه إذا ما اتبع أسلافنا أسلوب مطاردة حيوانٍ ما لفترة كافية، فإنه حرارته سترتفع وسينهار مجهداً بسببها في النهاية، بينما يمكن للبشر الصمود، وبالتالي محاصرته واقتناصه أخيراً.

تبنّى عالم الحفريات في هارفارد «دانيال ليبرمان» فكرة كاريير وطورها. وكتب في ردٍ حول النظرية بالبريد الالكتروني: «بالنسبة للأدلة التشريحية والوراثية المتعلقة بعلم الحفريات أيضاً، هناك العديد من الصفات التي يمتلكها الإنسان وتجعله قادراً على العدو، وهذه الصفات ليس لها أي وظيفةٍ أخرى، مما يشير بوضوح إلى أن تلك الصفات التي تساعد الإنسان على الركض لمسافاتٍ طويلةٍ موجودة أساساً عنده». لقد لاحظ العالم «دانيال» أن تلك الصفات التي يمتلكها الإنسان، مثل الأقدام المقوسة وأصابع القدم القصيرة، والأكتاف العريضة وأوتار القدم المرنة، ظهرت لدى الانسان منذ حوالي مليونين سنة على ما يبدو، أي في الوقت الذي تطوّر فيه جنس الانسان «هومو» وبدأ أسلافنا باعتماد اللحوم في نظامهم الغذائي. ويضيف قائلاً: «ربما كان الصيد بالمثابرة هو ما الحافز الذي دفع الإنسان للتطور».

لفتت أفكار «ليبرمان» انتباه الكاتب والصحفي الشهير «كريستوفر ماكدوجال» الذي أشار للنظرية في كتابه «Born to Run» الذي تصدر قائمة أكثر الكتب مبيعاً عام 2009، والذي دار موضوعه حول قدرة الإنسان على الجري والتحمل. يقول ماكدوجال أن الصفات التي حددها ليبرمان تفسر سبب حبنا وبراعتنا في الجري في الماراثون، والمسافات الطويلة. ويضيف أننا عندما نركض لمسافات طويلة، فإنما نلبي حاجتنا البيولوجية، وبالأخص أن هذه الفكرة ترسّخت في مجتمع الجري والجمهور عموماً.

لكن هذه الفكرة مجرّد فرضية، وقُدّمت كوسيلة لشرح الخصائص والصفات التي يملكها البشر. في الواقع، إن أفضل دليلٍ على أن البشر كانوا يتبعون أسلوب المثابرة في الصيد في الماضي؛ هو مجرّد أن لدينا سمات جسدية تُشير إلى أنه كان بإمكاننا القيام بذلك.

إلا أن «هنري بون»، عالم الحفريات من جامعة ويسكنسون ماديسون، قال في أكثر من مناسبة أنه من السذاجة الشديدة أن يصدّق المرء نظرية الصيد بالمثابرة. يستذكر «بون» أنه سمع ذات مرّة نقاشاً حول النظرية في مؤتمرٍ بجنوب أفريقيا، وقد اعترض عليها فوراً بقوله أنه إذا كنت ستلاحق حيواناً أسرع منك، فإنه غالباً سيختفي عن ناظريك في وقتٍ ما، وعليك تتبعه عن كثب، لكن ذلك يتطلب أن تكون تضاريس الأرض مفتوحةً ومنبسطة، ويمكن أن تترك أثراً لأقدام الحيوانات لملاحقتها.

عندما سمع «بون» بالنظرية أول مرة، كان قد وصل للتو إلى منطقة الوادي المتصدع الكبير في شرق أفريقيا، وهو أحد الأماكن التي يُعتقد أنها كانت موطناً لـ «الأسترالوبيثكوس»، وهو أول أسلافنا الذين مشوا منتصبين، الذين تطوروا ليصبحوا من جنس الإنسان الحالي. في الحقيقة يعلم «بون» بأن التضاريس في الحقبة التي تفترضها النظرية ربما كانت وعرةً، وكانت مختلطةً بغابات السافانا وليست سهلاً مفتوحاً عموماً. ويشكك «بون» في أول ورقةٍ بحثية بالاشتراك مع زميله «ترافيس بيكرينج» في نظرية الصيد بالمثابرة، ويرجّح أن الإنسان البدائي لم يكن مؤهلاً كفايةً لتتبع الحيوانات في ظلّ هذه الظروف.

وبالإضافة إلى ذلك، قضى بون بعض الوقت مع قبيلة «الهازدا» البدائية التي يعيش أفرادها في الوادي الكبير، ويُعتقد أنها يعيشون نمط حياة مشابه لنمط حياة أسلافهم القدامى. إلا أن المرة الوحيدة التي شاهدهم فيها «بون» يركضون هي عندما كانوا يحاولون الاختباء من الأمطار الغزيرة أو من النحل الغاضب، أو الأفيال الغازية، وأحياناً حين البحث عن الطعام.

كما اطلع «بون» و «بيكرينج» على بعض الأدلة الأحفورية ذات الصلة بالموضوع؛ وكانت عبارةً عن كومةٍ من العظام تعود إلى فترة 1.8 – 2 مليون سنة، أُكُتشفت في موقع ممر «أولدافي جورج» في تنزانيا الذي يحوي آثاراً بشرية وحيوانية متحجرة. وقد كان أول من اكتشفت هذه العظام عالمة الآثار «ماري ليكي» مع عالم الآثار «لويس ليكي»، حيث كان من بينها عظم الفك البشري لأسلافنا الذي يعود إلى 1.8 مليون سنة، والذي وُصف بأنه «الحلقة المفقودة»، أو صلة الوصل بين القردة والبشر. واحتوت كومة العظام هذه أيضاً على عظام طيور الماء القديمة والظباء والحيوانات البرية، والذي جمعها الإنسان البدائي «الهومو» لتناول لحومها. وقد بدت بعض العلامات على العظام تدل على استخدام الصخور الحادّة في تقطيع لحمها.

أدرك «بون» أن هذه الاكتشافات فرصة عظيمة لينقض فيها نظرية الصيد بالمثابرة. يقول: «من النادر الحصول على مثل هذه الأدلة الواضحة والتي تعود إلى مليوني سنةٍ للتحقق من أمرٍ ما». يعتقد بون وبيكرينج أنهما إذا أمكنهما من تقدير عمر تلك الحيوانات من خلال عظامها، فربما يمكنهما معرفة ما إذا كانت تلك الحيوانات قد اُفترست أو اُصطيدت بطريقة الصيد بالمثابرة، أو بطريقة أخرى. فإذا كانت تلك الحيوانات اُصطديت أو قُتلت بطريقة الصيد بالمثابرة، فمن المرجّح أن تكون صغيرةً في السن أو مسنّة. فالحيوانات المفترسة في غابات السافانا كالأسودِ والفهود لا تطارد الحيواناتِ الفتية والسريعة من القطيع، فهي تختار أضعفها، ويُفترض أن يكون صيادون المثابرة فعلوا ذلك أيضاً. أي أنهم طاردوا الحيوانات التي يسهل اللحاق والإمساك بها.

لكن الباحثين وجدوا، بعد تفحّص عظامها، أن معظم الحيوانات كانت فتيةً أو بالغة. فمن بين 19 حيواناً تمكنوا من تحديدها، تبين أن أربعةً منها فقط كانت صغيرة السن أو مسنّةً.

تُشير تلك الحقيقة، بالنسبة لبون وبيكرينج، إلى أن تلك الحيوانات لم تكن تفرّ هاربةً من المطاردة. وبالنظر إلى وجود علامات على أماكن معينة في عظامها تدل على أنها قُطّعت للحصول على أفضل لحوم مستساغة، مما يعني أنّ الانسان لم يجمع جثثها بعد أن قتلتها الحيوانات المفترسة، لأنه من المؤكّد أن الحيوانات المفترسة كانت لتستأثر بأجزاء اللحم الأفضل لنفسها.

يعتقد «بون» بدلاً من ذلك أن الصيادين القدماء كانوا يعتمدون على الكمائن الذكية لاصطياد الحيوانات أكثر من اعتمادهم على مطاردتها للقبض عليها. يقول «بيكرينج» في ورقته البحثية أن أسلافنا كانوا ينتظرون مرور الحيواناتِ في الغابات الكثيفة، مختبئين ربما بين أغصان الأشجار،  ونظراً لأن الحيوانات ذوات الحوافر لا تميل للنظر نحو الأعلى، كان الصيادون ينتظرون اقترابها بما فيه الكفاية ليطعنوها بأدوات حادة وقتلها.

ليس واضحاً تماماً كيف كان شكل تلك الأدوات الحادة؛ فلم تظهر الرماح الخشبية الحادة في السجلات الأثرية إلا منذ نحو 400 ألف عامٍ فقط، بينما لا تظهر الرماح الحجرية إلا بعد وقت طويل بعد ذلك. يقول بون: «يتناقض الصيد بالمثابرة مع ما وجدناه من أدلة أركيولوجية».

ثم يأتي هنا سباق الإنسان مع الخيل

بالعودة إلى عام 1980، كان رجلان من ويلز يجلسان في حانة فندق «Neuadd Arms» في لانْوُرتيد ويلز، ودار بينهما جدالٌ حول من كان أسرع في قطع المسافات الطويلة، الحصان أم الانسان. وقبل أن يتطور النقاش إلى نزاعٍ وخلاف، اتفقا على حلّ المسألة بإقامة سباق حقيقي لمسافة 35 كم بين الخيول والبشر. كان السباق رائعاً وأثار حماسةً شديدة إلى درجة أنه أصبح يُقام سنوياً، ويستقطب آلاف المتابعين وعشرات الخيول.

في الواقع لا يمكن اعتبار هذا السباق دليلاً يبرهن على صدقية نظرية الصيد بالمثابرة، نظراً لأن الخيل -مقارنةً مع معظم الثدييات الأخرى- عداءةٌ جيدة التحمل إلى حدٍّ ما، كما أن مناخ ويلز بارد نسبياً وليست حارّة مثل غابات السافانا الإفريقية، ولنكن صريحين أكثر، كان الهدف من فكرة السباق منح الانسان ميزة إضافية على الحيوان.

ومع ذلك، فكم مرة فاز فيها الإنسان على الخيل في هذه المنافسة؟ مرتين فقط خلال 40 عاماً.

إذا كانت الجائزة وجبةً، فان البشر بلا شكٍّ سيتضورون جوعاً في نهاية السباق.