كيف كنا نتوقع الكسوف على مدى أكثر من 2000 سنة

للكسوف تاريخ طويل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تخيل أنك إنسان يعيش في العصور القديمة، وفجأة وجدت أن الشمس التي كنت تعتمد عليها في حياتك أظلمت بشكل مفاجئ وغير متوقع. لا بد أنك كنت ستصاب بالهلع، وستفكر في قرارة نفسك: “ماذا لو لم تعد أبداً؟ يا إلهي… ما هو الذنب الذي ارتكبناه حتى تعاقبنا بـ… آه، لقد عادت”. ولكن، مع مرور الوقت، تتكرر هذه الحادثة. وتبدأ بفقدان الثقة بالشمس وتسجيل وقت وقوع هذه الأحداث. وبعد مرور بضعة قرون، تتراكم البيانات بحيث يبدأ نمط معين بالظهور، وتصبح الحضارات القديمة قادرة على توقع زمن وقوع هذه الأحداث الجنونية.

يقول جوناثان سيتز، أستاذ مساعد في التاريخ في جامعة دريكسل: “هذه الأحداث ليست عشوائية، وهو أمر مذهل بحد ذاته. لقد توصل سكان بلاد ما بين النهرين إلى هذه النتيجة أولاً، ويعود هذا بشكل جزئي إلى أنهم كانوا يسجلون كل شيء. وقد فعلوا هذا لأنهم أحسوا أن هذه الظواهر ليست مجرد ظواهر طبيعية عشوائية، بل إنها تحمل معنى ما”.

تمتد سجلات سكان بلاد ما بين النهرين إلى حوالي سنة 700 قبل الميلاد، وقد تمكنوا بفضلها من تحديد طول دورة ساروس، وهي الفترة الفاصلة بين كل تراصفين للقمر والأرض والشمس لحدوث كسوف. وتكتمل هذه الدورة مرة كل 18 سنة و10 أيام (11 في السنة الكبيسة) و8 ساعات، متسببة بإلقاء ظل على الأرض. وتعني الساعات الثماني الزائدة أن موضع الخسوف يتغير مع مرور الزمن ودوران الأرض.

على الرغم من أن الفلكيين القدماء لم يكونوا قادرين على رصد جميع المرات التي اكتملت فيها دورة ساروس، حيث يمكن للكسوف أن يحدث في عرض المحيط أو مناطق غير مأهولة، فقد تمكنوا من استنتاج التوقيت بشكل يكفي لتوقع موعد الكسوف التالي. ولكن في تلك المرحلة من التاريخ، كانوا يعرفون فقط موعد الكسوف، أما السبب والكيفية فلم يأتيا إلا لاحقاً.

الحياة الإغريقية

ومن ثم جاء الإغريق. بالنسبة لمفكرين مثل أرسطو وغيره، لم يكن من الكافي معرفة حدوث شيء ما وحسب. بل كانت معرفة سبب حدوثه أيضاً على نفس الدرجة من الأهمية. أما معنى الكسوف فقد كان أقل أهمية من العوامل الأخرى. يقول سيتز: “أصبح الإغريق مهتمين للغاية بالسببية. وبالنسبة لهم، يجب أن تكون قادراً على تفسير الشيء حتى تفهمه”.

ساعد عمل الإغريق في مجال الفلك على استنتاج كيفية تحرك الكواكب ومعرفة الشكل الكروي للأرض. وبدون تلسكوب، بقوا على اعتقادهم بأن القمر جسم سماوي مضيء ومختلف للغاية عن موطننا الصخري، ولكنهم استنتجوا حركته النسبية بالنسبة للأرض. وعلى الرغم من اعتقادهم بأن الأرض هي مركز الكون، فقد توصلوا إلى أن الكسوف هو ظل قمر جديد ألقته الشمس على الأرض.

بقيت التقنيات التي طورها أرسطو وبطليموس لفهم الكسوف سائدة حتى عصر كوبرنيكوس ونيوتن بعد مئات السنين. يضيف سيتز: “ولكن هذا لا يعني أنه لم يحدث شيء جديد خلال هذا الوقت”. فقد استمر الناس خلال العصور الوسطى بالعمل انطلاقاً من معارف الحضارات القديمة، ومراكمة المزيد من المعلومات، وتحسين تقنياتهم. يقول سيتز: “في العالم الإسلامي على وجه الخصوص، زاد الاهتمام كثيراً بعلم الفلك والتنجيم، وقاموا بتطوير اسطرلابات لقياس الزوايا السماوية، وحاولوا تطوير النظام الفلكي بشكل عام”.

لاحقاً، قام المفكرون من أمثال تيخو براهه ببناء أدوات ضخمة لقياس الزوايا للحصول على قياسات أكثر دقة لحركة الشمس خلال الكسوف، واستخدم البعض تقنيات ما زالت مستخدمة حتى يومنا هذا لقياس الكسوف. يقول سيتز: “لقد استخدموا الكاميرات ذات الثقب في العصور الوسطى، وهي تسمح بقياس مقدار الكسوف بشكل أفضل بقليل”.

لم تكن أوروبا المكان الوحيد الذي لاحظ ظاهرة الكسوف. فقد قامت الصين بتطوير توقعاتها الخاصة للكسوف بشكل متزامن تقريباً مع سكان سواحل المتوسط، وبشكل مشابه لهم نظراً لتاريخ طويل من السجلات المحفوظة. كما توجد أدلة على أن شعب المايا طوروا أساليب لقياس الكسوف، غير أن كل سجلاتهم دمرت بوحشية من قبل الغزاة الأوروبيين أثناء اجتياح الأمريكتين.

على الرغم من ازدياد المعلومات حول الكسوف، إلا أن الكثير من الثقافات اعتبرته نذير شؤم. وقد بدأت هذه النظرة تتغير ببطء مع ظهور التلسكوبات، والتي كشفت طبوغرافية القمر، وسمحت بزيادة دقة توقعات الكسوف. في الواقع، فقد قام الفلكي إدموند هالي في القرن الثمن عشر بوضع خريطة لمسار الكسوف المقبل ونشرها على أمل ألا يصاب العامة بالذعر لدى اختفاء الشمس مؤقتاً، وكذلك حتى يجمع المراقبون كمية أكبر من المعلومات حول فترة الكسوف في أماكن مختلفة. وبدأت الحقبة الحديثة في مراقبة الكسوف أخيراً.

العصور الحديثة

يقول إرني رايت، خبير تمثيل بصري في ناسا: “إن الطريقة التي نستخدمها الآن مبنية على ما تم استنتاجه في القرن التاسع عشر”. وقد كان فريدريك بيسل وويليام شوفينيه أول من استخدم أساليب حسابية عصرية لتوقع مسار الكسوف.

يقول رايت: “لقد وضع بيسل القواعد الرياضية الأساسية التي نستخدمها حالياً في 1820 تقريباً، ومن ثم حولها شوفينيه إلى شكلها العصري في 1855”.

يمكننا حالياً أن نكون أكثر دقة، وذلك بفضل معلوماتنا حول شكل القمر. حيث أنه ليس بشكل موزة أو كرة مكتملة الاستدارة، على عكس جميع رسوماتك في المرحلة الابتدائية. وكما الأرض تماماً، توجد عليه جبال ووديان، ما يجعل شكله غير منتظم، وهذا يعني أن ظله غير منتظم أيضاً.

يقول رايت: “كانت أساليب القرن التاسع عشر تفترض أن القمر أملس السطح، وأن جميع المراقبين على مستوى سطح البحر، وهي تقريبات لا مفر منها إذا كنت تجري حساباتك بالورقة والقلم”.

بدءاً منذ أواخر الأربعينيات وحتى 1963، أمضى الفلكي تشارلز بورلي واتس الكثير من الوقت ليرسم التضاريس التي ظهرت على سطح القمر، مركزاً على التضاريس التي ظهرت على حواف القمر لدى رصده من الأرض. وقد وضع خرائط تفصيلية ساعدت على زيادة دقة توقع الكسوف. وفجأة، لم يعد ظل الكسوف بيضوياً، بل أصبح مضلعاً كثير الجوانب تتراصف كل زاوية فيه مع أحد الوديان القمرية.

بعد ذلك، رفعت ناسا من مستوى العمل بعض الشيء. فقد قام المسبار الاستطلاعي القمري التابع لناسا بمتابعة وتطوير عمل واتس، وذلك بمسح الطبوغرافية القمرية بتفصيل لم يكن ممكناً الحصول عليه من صور فوتوغرافية ملتقطة من الأرض.

استخدم رايت هذه البيانات حول شكل القمر، وطبوغرافية الأرض، ومواضع الشمس والقمر والأرض، وذلك لإجراء حسابات مفصلة وعالية الدقة لمسار مرور ظل الكسوف فوق الولايات المتحدة.

من المتوقع لهذا الكسوف أن يحظى بأعلى عدد من المشاهدين في التاريخ. وعلى الرغم من أن البشرية أمضت آلاف السنين تراقب وتوثق الكسوف، فما زال الباحثون يأملون باكتشاف المزيد.

يقول رايت: “بدأنا نتحاور مؤخراً حول وجود بعض الشك في حجم الشمس. وقد تبين لنا أن الكسوف يعتبر وسيلة عالية الحساسية لقياس نصف قطر الشمس. يبلغ نصف قطر الشمس حوالي 696,000 كيلومتر، ولكن إذا تغير بمقدار 125 كيلومتر، تتغير فترة الاحتجاب الكلي بمقدار ثانية كاملة.”

إذا ظهرت الكثير من النقاط الساطعة على حواف الكسوف ولم تظلم السماء بشكل كامل بالنسبة للناس المتواجدين على أقصى أطراف المسار المتوقع، مثل بعض مناطق سان لويس وكانساس سيتي، فقد يعني هذا أن الشمس أكبر بقليل مما توقعنا. وإذا كان هذا صحيحاً، فقد تساهم هذه المعلومة في تحسين التوقعات اللاحقة للكسوف.

عندما تنظر إلى مسار الكسوف، وتتعجب من قدرة العلم الحديث على توقع توقيت ومكان وكيفية عبور هذا الظل للبلاد بسرعة ما بين 2,253 و 4,023 كيلومتر في الساعة، لا تنسَ كل الأجيال التي ساهمت في تحقيق هذا الإنجاز، بدءاً من المراقبين الذين استمروا بتدوين مشاهداتهم على مدى مئات السنوات على الرغم من أنهم لم يعرفوا ما كان يحدث، وصولاً إلى الذين قاموا ببناء الأقمار الصناعية الحديثة التي جعلت توقعات وخريطة مسار الكسوف لهذه السنة دقيقة للغاية. إن اجتماع جهودهم جميعاً هو الذي أوصلنا اليوم إلى هذه المرحلة.