هذا اللوح الأثري الغامض قد يعلمنا أشياء جديدة عن الرياضيات

4 دقائق
اللوح الطيني البابلي "بليمبتون 322" الذي يعود إلى 3,700 عام في مكتبة الكتب والمخطوطات النادرة في جامعة كولمبيا في نيويورك.

يقول بعض الباحثين إن البابليين اخترعوا علم المثلثات، واستخدموه بشكل أفضل. إن اللوح الطيني المعروف باسم "بليمبتون 332"، الذي بقي مثاراً للجدل لمدة طويلة، والذي يتميز بخطوطه التي تعود إلى 3,700 عام على يد خطاط من بلاد ما بين النهرين، يعد موضوع دراسة جديدة تم نشرها في مجلة "Historia Mathematica" خلال الأسبوع الثالث من شهر أغسطس الماضي.

يزعم فريق من علماء الرياضيات الحديثة أن التحليل الجديد الذي خضع له هذا اللوح يكشف عن بقايا أقدم مثال عن علم المثلثات، وهو فرع الرياضيات الذي يوضح العلاقات القائمة بين العناصر المكونة للمثلثات (الأضلاع والزوايا). قد تدفع نتائجهم "هيبارخوس" إلى الاستدارة بزاوية 90 درجة تامة وهو في قبره: فهذا العبقري اليوناني الذي يوصف في كثير من الأحيان بأنه "أبو علم المثلثات"، لم يبتكر الأمر إلا بعد مرور 1,000 عام على إنجاز البابليين.

رغم أن نتائج الدراسة الجديدة غير قاطعة، إلا أنها تبقى نتائج مذهلة بلا شك.

يقول نورمان وايلدبيرجر، الأستاذ المساعد في جامعة نيو ساوث ويلز، والمؤلف المشارك للدراسة في بيان له: "هناك كنز دفين من الألواح الطينية البابلية، ولكن لم يتم دراسة سوى جزء منها فقط". ويضيف نورمان: "يستيقظ العالم الرياضي اليوم ليكتشف حقيقة أن هذه الثقافة الرياضية القديمة والمتطورة جداً في الوقت نفسه، لديها الكثير مما تعلمنا إياه".

ليس هناك شك في أن "بيلمبتون 322" كان يستخدم في أحد فروع الرياضيات. حيث يتميز هذا اللوح الطيني الذي تم اكتشافه في العراق في مطلع القرن العشرين؛ بوجود 4 أعمدة و15 صفاً من الأعداد. خمّن العلماء منذ وقت طويل أن القيم المسمارية مكتوبة على شكل ما يعرف بثلاثيات فيثاغورس.

تقدم نظرية فيثاغورس (a2+b2=c2) وصفاً للعلاقة التي تربط أطوال أضلاع المثلث القائم.

الثلاثية الفيثاغورية هي أي سلسلة من الأعداد التي تشكل حلاً للمعادلة، وبعبارة أخرى، أي ثلاثة أعداد يمكنها أن تتوافق مع أطوال أضلاع مثلث فيه زاوية قائمة. على اللوح الطيني، تتوافق سلاسل الأعداد مع أبعاد مثلثات قائمة تزداد إحدى الزاويتين الحادتين في كل منها انفراجاً كلما انتقلنا نزولاً عبر الأسطر.

هذا اللوح الطيني رغم أنه تم حفظه بشكل جيد، إلا أنه غير مكتمل. من دون معرفة العدد الكلي للأسطر والأعمدة التي كانت موجودة سابقاً – أو ما كان محفوراً على الجزء الناقص من اللوح – من الصعب التوصل إلى استنتاجات أكثر قوة حول الغرض منه.

يعتقد بعض العلماء أن هذه الأعداد تم وضعها لتساعد معلمي الرياضيات على التحقق من صحة حلول طلابهم. ربما نحن ننظر الآن إلى جزء من واجب منزلي يخص مادة الجبر: ربما أراد الكاتب فقط أن يجعل طلابه يعملون على حل المعادلات من أجل متغيرات مجهولة القيم، واستخدم من قبيل المصادفة فقط الثلاثيات الفيثاغورية. حتى الآن، يعتبر ذلك أفضل توضيح تمكنا من الحصول عليه.

في دراستهما الجديدة، يحاول كل من وايلدبيرجر وديفيد مانسفيلد سد هذه الفجوة المعرفية من خلال تجميع الأعمال السابقة التي تمت على الأجزاء المتشظية التي يحتمل وجودها. يعتقدان أن بإمكانهما إثبات أن الجدول الكامل يتكون في الأصل من 6 أعمدة و38 سطراً.  يفترض العالمان، أنه إذا اكتمل اللوح الطيني، فقد يتضمن نسباً مثلثية – وهي معلومات يمكن للقارئ أن سبق له استخدامها في حساب الزوايا المجهولة – أكثر دقة من تلك التي تتضمنها جداولنا المثلثية الحديثة.

يعد السبب الكامن وراء زيادة الدقة أمراً في غاية الروعة. لدينا نظام رقمي يستخدم الرقم 10 كأساس له. عند استخدام الأساس 10، هناك اثنان فقط من الكسور التي يمكن التعبير عنها بشكل دقيق في النظام العشري (2/1، أو 0.5، والكسر 5/1، أو 0.2).

وعندما تقوم بحساب أي قسمة أخرى، ستحصل على سلسلة من الأرقام المترافقة التي يصعب التخلص منها. فكر بالأمر: لا يمكنك في الواقع أن تخفض سعر شيء ما إلى ثلث قيمته تماماً، فثلث الدولار الأمريكي الواحد يعادل 0.333 (إلخ) سنتاً.

في هذه الحالة، عليك أن تتهرب من المشكلة وتضيف (أو ربما تنقص) بضعة سنتات لتحصل على رقم تقريبي بما فيه الكفاية. من ناحية أخرى، من السهل أن تقسم الساعة إلى أثلاث متماثلة؛ كل منها 20 دقيقة. استخدم البابليون النظام الستيني في العد، ما يعني أنهم بالإضافة إلى الحصول على أجزاء كسرية تامة من مضاعفات 2 و5، تمكنوا أيضاً من إضافة العدد 3 إلى مجموعة القواسم. يجعل النظام الستيني من عملية التقسيم أكثر دقة قليلاً، لأنك لا تلجأ كثيراً إلى التقريب إلى أعلى قيمة أو أدنى قيمة ممكنة.

يقول المؤلفان في تعليق لهما للموقع الإعلامي المستقل "The Conversation": "كان لهذا الحساب الدقيق عند البابليين أيضاً تأثير على الهندسة لديهم، والتي كانوا يفضلون توخي الدقة في تطبيقاتها". ويضيف المؤلفان: "كان بمقدورهم توليد مجموعة واسعة من المثلثات القائمة وفق نسب دقيقة هي b/I و d/I، حيث تمثل القيم b، I، و d؛ الضلع القصيرة، الضلع الطويلة، والوتر على الترتيب. حيث شكلت النسبة b/I أهمية خاصة بالنسبة للبابليين والمصريين القدماء؛ ذلك لأنهم استخدموا هذه النسبة في قياس شدة الانحدار".

من المعروف أن علم المثلثات الذي ربما تلقيته في المدرسة؛ قد علمك كيفية حساب قيم تقريبية عظيمة لأطوال الأضلاع والزوايا في المثلثات. ولكن إذا صح ما جاءت به الدراسة الجديدة بشأن استخدام هذا اللوح الطيني، فإن البابليين كانوا يستخدمون قيماً دقيقة خلال حقبتهم الزمنية. سواء كان هناك تطبيقات أم لا لهذه النظرة الجديدة لهذا اللوح الطيني، فإن هناك مسائل رياضية قديمة تبقى بحاجة إلى النظر فيها.

كما أن الدارسة تعتمد على الكثير من الأدلة الظرفية. فالعديد من الدارسين ليسوا منبهرين بهذا الاستنتاج الجريء الذي بني على أساس وجود جزء مفقود محتمل من الأحجية. ويرى بعض الخبراء هناك نصوصاً أخرى توضح أن البابليين لم يكن لديهم مثل هذا الفهم المتطور للزوايا.

في حين يعترف البعض الآخر بإمكانية تحقيق بعض المراحل المتقدمة الجادة في علم المثلثات في بابل، ولكنهم لا يقبلون بالاستنتاج الجريء التالي التي قفز إليه الفريق البحثي لهذه الدراسة: الاقتراح القائل بأن هذه الجداول بالغة الدقة كانت تستخدم للمساعدة في بناء عجائب مثل حدائق بابل المعلقة.

في الوقت الراهن، لا تحمل هذه النتائج ما يكفي من الأدلة لتكون أكثر من كونها قصة مثيرة للاهتمام، رغم أن حدوثها ليس مستبعداً تماماً. لاستخلاص استنتاجات هامة إلى هذا الحد حول تاريخ الرياضيات (وطرق البناء عند البابليين، من وجهة النظر هذه) سنحتاج إلى الكثير من الألواح الطينية.