رمضان، شهر الصيام المقدس في الإسلام، يتضمن الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى غروب الشمس. ومع امتناعنا عن الطعام، تخضع أجسامنا لسلسلة من التغيرات الأيضية والهرمونية. لا تؤثر هذه التغييرات في صحتنا فحسب، بل تشحذ أيضاً إدراكاتنا الحسية، بما في ذلك حاسة الشم.
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث للجسم عند الصيام دون سحور؟
تأثير الصيام في حاسة الشم
أجرى فريق من الباحثين في مستشفى كلية الطب بجامعة جراح باشا (Cerrahpaşa Medical Faculty Hospital) دراسة حول تأثير الصيام في حاسة الشم، ونشرتها دورية "منظار الحنجرة الاستقصائي في طب الأنف والأذن والحنجرة" (Laryngoscope Investigative Otolaryngology)، في سبتمبر/أيلول 2024.
في الدراسة، اختار الباحثون 62 مشاركاً من غير المدخنين، تتراوح أعمارهم ما بين 18-60 سنة، وصاموا شهر رمضان كاملاً مدة 30 يوماً، ولم يعانوا من أي أمراض أو إصابات تؤثر في حاسة الشم، مثل التهاب الجيوب الأنفية، والتهاب الأنف مثل الحساسية.
لاحقاً، أخضع الباحثون المشاركين لعدة اختبارات بما فيها اختبار عتبة الرائحة (لتحديد الحد الأدنى لتركيز الرائحة التي يمكن اكتشافها) واختبار تحديد الرائحة (لتحديد الروائح المختلفة). بتحليل بيانات مقارنة الأداء الشمّي للمشاركين في مراحل مختلفة من الصيام، وجد الباحثون أن الأفراد الذين صاموا أظهروا تحسناً كبيراً في عتبة الشم والتعرف إلى الرائحة.
كيف يعزز الصيام حاسة الشم؟
يمكن للأنف البشري اكتشاف آلاف الروائح المختلفة من خلال نظام الشم. يبدأ هذا النظام بخلايا المستقبلات الشمية في الجزء العلوي من تجويف الأنف (الظهارة الشمية). عندما نتنفس، تستقبل هذه الخلايا العصبية الروائح، وترسل إشارات عبر المسار الشمي (سلسلة من الخلايا العصبية) إلى البصلة الشمية في المخ، وهي الجزء من الدماغ المسؤول عن معالجة الروائح. بمجرد وصول الإشارات من المستقبلات الشمية إلى البصلة الشمية، تتم معالجتها ونقلها إلى مناطق الدماغ المختلفة، بما فيها القشرة الشمية الأولية ومناطق أخرى مثل اللوزة والحُصين، ما يسمح لنا بتحديد نوع الروائح المختلفة والتمييز بينها.
يمكن أن تتأثر حاسة الشم بعوامل عديدة، بما في ذلك العوامل الوراثية والعمر والتغيرات الهرمونية والظروف البيئية. ومن المثير للاهتمام أن حاسة الشم لدينا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشهية وكمية الطعام التي نتناولها. عندما نأكل بانتظام، قد تتراجع حاسة الشم لدينا بسبب هرمون اللبتين (الشبع)، لأنه يثبط نشاط الخلايا العصبية في المسار الشمي ما بين الأنف والبصلة الشمية في الدماغ.
اقرأ أيضاً: كيف يخفّض الصيام الإصابة بالأمراض المزمنة؟ دراسة حديثة تجيب
يتكيف الجسم مع الحرمان من الطعام في الصيام من خلال العديد من الآليات التي تؤثر في حاسة الشم، ومن أهمها:
- الحساسية المتزايدة للإشارات البيئية: لقد تطور البشر، مثل العديد من الكائنات الأخرى، للبقاء على قيد الحياة خلال فترات ندرة الغذاء، فعندما يكون الطعام شحيحاً، تنشط حاسة الشم للمساعدة على اكتشاف مصادر الغذاء، ما يزيد فرص البقاء على قيد الحياة. في دراسة قديمة نشرتها دورية نيتشر نيوروساينس (Nature Neuroscience)، تبين أن الشعور بالجوع يحفز نشاط ما يُعرف بمستقبلات كانابينويد (endocannabinoid)، والتي بدورها تنشط البصلة الشمية في القشرة الشمية، ما يساعد على التعرف إلى الروائح وتحليلها.
- التغيرات الهرمونية: خلال الصيام تتغير مستويات الهرمونات الأيضية في الجسم، ولأن مستقبلاتها توجد في البصلة الشمية، فإن التغير في مستوياتها يؤثر في حاسة الشم. ومن هذه الهرمونات:
- هرمون الغريلين (هرمون الجوع): خلال الصيام ترتفع مستويات هرمون الغريلين الذي تفرزه المعدة، في إشارة للجسم بضرورة الحصول على الطعام. وفي دراسة نشرتها دورية الحواس الكيميائية (Chemical Senses)، تبين أن هرمون الغريلين يرسل إشارات الجوع إلى الدماغ، الذي بدوره ينشّط مستقبلات الغريلين في البصلة الشمية ويعزز استجابة الخلايا العصبية الحسية الشمية، فيصبح الصائم أكثر حساسية للروائح، ويسهل عليه اكتشاف الروائح وتحديدها.
- الإنسولين: في الحالة الطبيعية، ترتبط مستويات الإنسولين المرتفعة في الدم (الهرمون المنظم لمستويات سكر الدم) بعرقلة المسار الشمّي، ما يسبب انخفاض حساسية الشم والقدرة على تمييز الروائح، لكن خلال الصيام، تنخفض مستويات هذا الهرمون بسبب انخفاض مستويات السكر في الدم ما قد يؤدي إلى تحسن حاسة الشم.
- تطهير الممرات الأنفية: في أثناء الصيام، يقل تناول الطعام والشراب، ما قد يقلل إنتاج المخاط. ينتج عن هذا ممرات أنفية نظيفة، ما يسهّل على جزيئات الرائحة الوصول إلى مستقبلات الشم، وتصبح حاسة الشم أكثر حدة.
- التركيز والوعي: غالباً ما يؤدي الصيام إلى حالة متزايدة من الوعي والتركيز. يمكن أن يمتد هذا الوضوح الذهني المتزايد إلى الإدراك الحسي، بما في ذلك حاسة الشم.