الببغاوات بارعة جداً في تقليد البشر لدرجة أن لقب الببغاء أصبح مرادفاً يشير إلى التكرار. ومع ذلك، لطالما عرفنا عن قدرة الطيور المذهلة على التقليد، لكن كيفية نجاحها في إصدار مثل هذه الأصوات المعقدة والمرنة ظلت لغزاً محيراً. ثمة دراسة جديدة تسهم في حل هذا اللغز من خلال إلقاء نظرة خاطفة على دماغ الببغاء، وتشير إلى وجود أوجه تشابه ملحوظة مع المنطقة العصبية البشرية التي تتحكم في الكلام.
يشير البحث، الذي نُشر في 19 مارس/آذار الماضي في مجلة نيتشر (Nature)، إلى أن الببغاوات (وتحديداً طيور الدُّرّة التي تعد أحد أنواع الببغاء) يمكن أن تشكّل نموذجاً لدراسة الكلام البشري، ما يساعد العلماء على فهم اضطرابات الكلام وعلاجها بصورة أفضل. كما أنه يضيف إلى مجموعة النتائج العلمية المتنامية التي تثبت أن وصف شخص بأنه يمتلك "دماغ طائر" لا يمثل إهانة كبيرة في نهاية المطاف. فالعديد من أصدقائنا من الطيور يظهرون قدرات مذهلة في الذاكرة والتعلم والعد والتفكير. تؤكد هذه الدراسة الجديدة أن البشر -فيما يتعلق بالكلام- جميعهم يمتلكون دماغاً يشبه دماغ الطيور (أو على الأقل دماغ الببغاء)، وعلينا أن نفخر بذلك.
طيور الدرة (parakeets) الشائعة، المعروفة أيضاً باسم البُدجريقة (budgerigars) (أو العاشق والمعشوق) أو البادجي (budgies)، هي نوع صغير من الببغاوات الأسترالية التي تتميز بلونها الأخضر والأصفر الفاقعين، وتُباع غالباً على أنها طيور أليفة. في البرية، تعيش هذه الطيور في أسراب اجتماعية، وتتواصل من خلال تغريدها الطويل، وتأكل البذور وتطير في مجموعات إلى أي مكان يُحتمل أن تجد فيه وجبتها المفضلة التالية. أما عندما تكون في الأقفاص، فمن المعروف أنها تحافظ على ميولها الاجتماعية من خلال تقليد العبارات البشرية. ويُعد طائر الببغاء الأليف الذي عاش حتى عام 1994، الذي حمل اسم "باك" (Puck)، صاحب الرقم العالمي القياسي وفق موسوعة غينيس للأرقام القياسية حالياً للطيور التي تردد أكبر عدد من المفردات اللغوية، حيث بلغ عدد كلماته 1,728 كلمة.
اقرأ أيضاً: مفاجأة: الببغاوات تجري مكالمات فيديو وتعزز مهاراتها الاجتماعية
كيف تقلد طيور الببغاء البشر؟
ولفهم كيفية تقليد هذه الطيور للبشر بدقة وإصدارها للعديد من الأصوات المتميزة، زرع مؤلفو الدراسة جراحياً مجسّات دقيقة في أدمغة 4 ببغاوات في منطقة معينة مرتبطة بالعضو الصوتي لدى الطيور (المصفار). بعد ذلك، عملوا على تجميع النشاط العصبي من كل طائر في أثناء نطقه. وقارنوا بيانات البادجي بالبيانات المأخوذة من البشر وطيور الحسّون المخطط (zebra finch)، وهي طيور مغردة تُستخدم عادةً في الأبحاث العلمية وتتميز بذخيرة صوتية أقل مرونة من طيور الدرة.
وقد وجدوا أن منطقة دماغ الدرة التي ركزوا عليها، والتي تسمى "القشرة القوسية الأمامية" (Anterior Arcopallium)، تعمل بصورة مشابهة لأجزاء من القشرة الدماغية البشرية المرتبطة بوظيفة النطق والحركة مقارنة بالمنطقة المكافئة عند طيور الحسون المخطط. في طيور الحسون المخطط، يبدو أن الأصوات مُرمزة بمصفوفات معقدة وغير قابلة للتفسير من نشاط الخلايا العصبية. ولكل صوت ثمة "رمز شريطي" (barcode) يرافقه وهو فريد من نوعه في الدماغ. تتعلم طيور الحسون المخطط الأغاني المعقدة وتكررها، لكن نشاطها الدماغي يشير إلى أن لديها قدرة محدودة على تغيير ما تعلمته أو على الارتجال.
تستخدم طيور البدجريقة، وهي نوع اجتماعي للغاية، أصواتاً مرنة للتواصل بعضها مع بعض. في هذا الفيديو، يُطلق على الطائر الرمادي اسم "هوبفيلد"، ويُدعى الأخضر "هينتون"، ويدعى الأزرق "تورينغ". مصدر الفيديو: زيتيان يانغ وأندرو باهل
يقول المؤلف المشارك في الدراسة وعالم الأعصاب في كلية الطب بجامعة نيويورك غروسمان، مايكل لونغ إنه بالنظر إلى موجات دماغ طائر الحسون المخطط، "لا يمكننا أن نفهمها بدقة". ويضيف لمجلة بوبيولار ساينس: "لا نرى أي أثر للنغمات الصوتية الفعلية التي تغنيها تلك الطيور. قد نلاحظ نشاطاً، وهذا النشاط هو نفسه في كل مرة تغني فيها تلك الطيور أغانيها، ولكن لا توجد نوتة موسيقية واضحة للأغنية".
لوحة مفاتيح صوتية
في المقابل، تعمل أدمغة كل من طيور البادجي والبشر بطريقة تجميعية. يبدو أن الطيور والبشر يرمّزون النطق من خلال مسارات عصبية منفصلة وقابلة للتكرار. في الدماغ البشري، ترتبط مجموعة محددة من حركات عضلات الشفاه أو اللسان بأنماط معينة من الخلايا العصبية. هذه الروابط واضحة بما فيه الكفاية لدرجة أن العلماء استخدموا سابقاً هذه الأنواع من إشارات الدماغ لتفسير الكلام المقصود وإعادة إنتاجه لدى الأشخاص الذين فقدوا القدرة على التكلم بأنفسهم.
وبالمثل، في القشرة القوسية الأمامية لطيور الدرة، تتحفز الخلايا العصبية وفقاً للنغمة ونوع الصوت اللذين يصدرهما الطائر، على حد قول لونغ. ويوضح: "إنه نوع من لوحة المفاتيح الصوتية. يبدو أن الخلايا الدماغية الفردية هي التي تصدر أصوات الحروف الساكنة وأصوات حروف العلة. وحتى ضمن حروف العلة، هناك طيف واسع من النغمات المختلفة التي يمكنها تحقيقها. فنجد خلايا سي بيمول (B-flat cells)، ونجد خلايا سي (B-cells)، في أنحاء السجل الموسيقي كافة. وبوجود ذلك كله مجتمعاً، يمكنك عملياً ترميز أي شيء تريد قوله".
يتوافق النشاط العصبي لطيور البادجي بصورة وثيقة مع أصوات الزقزقة والتغريدات والنداءات التي تنتجها الطيور لدرجة أن لونغ والباحثين المشاركين معه استطاعوا رسم التردد المتموج للنداء بناءً على إشارات 5 خلايا عصبية فقط، بدقة شبه تامة. ويشير لونغ إلى أنها المرة الأولى التي تجري فيها فهرسة هذا النوع من التمثيل التقابلي بين الدماغ والكلام في الأنواع غير البشرية.
كتب عالم الأعصاب في جامعة ديلاوير، الذي لم يشارك في الدراسة، جوشوا نيونوبل، في مقال مصاحب للدراسة: "إن الملاحظات تقدم آفاقاً مثيرة للأبحاث المستقبلية".
في بحث لاحق، يأمل لونغ والباحثون المشاركون معه أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من مركز التحكم في الدماغ والكشف عن مناطق الدماغ العليا التي قد تتحكم في مفاتيح لوحة المفاتيح التي يُضرب بها المثل داخل أدمغة البادجي. على سبيل المثال، كيف يختار الطائر إصدار أصوات معينة دون غيرها من الأصوات؟ كما أنه يتعاون أيضاً مع باحثين في مجال التعلم الآلي بهدف "ترجمة" اللغة التي تتواصل بها طيور الدرة من خلال أصواتها.
اقرأ أيضاً: ماذا يمكن أن تعلمنا الطيور المغرّدة عن الذكاء؟
دراسة طيور الدرة بهدف معرفة ما يعوق القدرة على الكلام
ومع ذلك، فإن أحد أكثر المسارات الواعدة للأبحاث المستقبلية يكمن في إمكانية استخدام طيور الدرة نموذجاً حياً لدراسة الأشياء العديدة كلها التي يمكن أن تؤدي إلى تعطيل القدرة على الكلام عند البشر، من العجز المرتبط بالتوحد إلى مرض باركنسون والحُبسة الكلامية أو فقدان القدرة على الكلام (aphasia).
وكتب نيونوبل: "تبشر مثل هذه الدراسات بتطوير علاجات النطق وإلهام تكنولوجيات واجهة التخاطب بين الدماغ والكمبيوتر". قد تفصل بين أدمغة طيور الدرة وأدمغة البشر 300 مليون سنة من التطور، لكن النظام العصبي المتقارب بصورة لافتة للنظر، الذي يسمح لنا ولطيور البادجي بالتحدث، يمكن أن يوفر للعلماء طريقة لاختبار التدخلات والعلاجات لفقدان النطق، وفهم تطور المرض بصورة أفضل.
يقول لونغ: "هذا الأمر يجعلني أنهض من فراشي في الصباح، وأفكر في كيفية مساعدة الأشخاص الذين سُلبت أصواتهم".