إذا كان ذُباب الفاكهة يحيا بلا نوم، فلماذا لا نفعل نحن أيضاً؟

حقوق الصورة: Deposit Photos
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يعرف كلُّ مَن قضى الليل ساهراً كَم يبدو النوم أساسياً لاستمرار الحياة. وقد وافَقَ خبراء عِلم النوم طويلاً على ذلك، وظَنُّوا أن الحيوانات والبشر لا يمكنها العيش بلا نوم، لكن العديد من الدلائل صارت تظهر يوماً بعد يوم، لتدعو إلى إعادة التفكير في هذا الافتراض. فقد نشر باحثون من إمبريال كولدج لندن دراسة جديدة تشير إلى أن النوم ليس ضرورياً تماماً للحياة، كما كان يُعتقَد في السابق.

يقول “جورجيو جيلسترو” خبير البيولوجيا النظامية بإمبريال كولدج لندن، والمُشارك في الدراسة: “كان من المُعتقَد أن الحاجة إلى النوم تُماثل الحاجة إلى الطعام، لكن دراستنا أظهرَت أن ذكور ذباب الفاكهة التي حُرمَت من النوم تشابهَت أعمارها في الطول مع أقرانها التي تحظى بالنوم، بينما اختلف الأمر قليلاً في الإناث، حيث قصُرَت أعمار الإناث المحرومة لكن بفارق متوسط طفيف هو ثلاثة أيام تقريباً، وهو الفارق الذي يُشكِّل نسبة 6 إلى 8 في المائة من متوسط عمر ذبابة الفاكهة الذي يبلغ نحو 40 إلى 50 يوماً فقط”.

ما يُميِّز هذه الدراسة عن غيرها مما أُجرِيَ عن النوم في ذباب الفاكهة هو منهجيتها. يقول “جيلسترو”: “كانت الأنظمة المُتَّبعَة في التجارب الأخرى السابقة تحكُم بأن الذبابة نائمة إذا كانت ثابتةً في مكانها لفترة طويلة، لكنَّ هناك بالطبع أسباباً أخرى غير النوم قد تدفع بالذبابة إلى عدم الحركة، كتناوُل الطعام مثلاً أو تنظيف الجسد”. وقد قام فريق “جيلسترو” بتطوير مُعدَّات جديدة تسمح بالتقاط أدَق تحرُّكات الذباب، وهكذا كان الذباب تحت مراقبة صارمة، بحيث إن سكنَت ذبابةٌ واحدة عن الحركة تماماً لفترة تزيد عن عشرين ثانية، كان الجهاز يقوم بتدوير الأنبوبة حول محورها مُوقِظاً جميع سُكَّانها من الذباب.

يعلِّق “جيلسترو”: “قد يسمح فارق العشرين ثانية هذا ببعض النوم بالطبع، لكنها مجرد لحظات خاطفة. مع ذلك فقد بدا أن أمور الذباب كانت بخير”. قد يبدو ذلك عصياً على التصديق، لكنه أمر سبقَت ملاحظته من قبل بالفعل. ويزعم “جيلسترو” أن الأبحاث حول مدى احتياج الحيوانات إلى النوم ليست كافية، فقد اعتمدَت التجارب السابقة على تجفيل الحيوانات وإزعاجها كوسيلة لإبقائها يقِظة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى إصابة الحيوانات بالتوتر. شهدت تلك التجارب موت كل الحيوانات التي خضعت لها من كلاب وجرذان وحَمَام وصراصير وذباب فاكهة، إلا أن القاتل فيها قد يكون التوتُّر المُصاحِب للحرمان من النوم، لا الحرمان في حد ذاته. وللحُكم في مدى الاحتياج الحقيقي إلى النوم، يواصل “جيلسترو” حديثه موضحاً أن الأبحاث القادمة ستحتاج إلى آليةٍ تضمن إزالة التوتُّر قدر الإمكان.

تساعد هذه الدراسة العلماء على استيضاح فارقٍ شديد الأهمية؛ فالحاجةُ إلى النوم – بخلاف المُعتقَد الحالي – قد لا تُماثِل في ضرورتها للبقاء على قيد الحياة الحاجةَ إلى الطعام. والحيوانات – بتعبيرٍ آخر – ربما لن يقتلها الجوع إلى النوم. وإثبات تلك الحقيقة – رغم العقبات المنهجية العديدة – قد يُلقي بآثاره على إعادة تعريف الكثير من المفاهيم؛ من مُستلزمات البقاء إلى وسائل العناية الطبية بمَن يعانون اضطرابات النوم.

بالطبع كان ذباب تجربة “جيلسترو” ورفاقه ينعم ببيئة آمنة تماماً في المعمل، لكن فريق البحث يعترف بأن الحرمان من النوم تحت ظروف البيئة الطبيعية للحشرات قد يؤثر سلباً على بقائها. مع ذلك فهناك حيوانات أخرى تُمضِي فترات طويلة حقاً في بيئاتها الطبيعية بأقل القليل من النوم؛ ففي عام 2016 نَشر الألماني “نيلز راتِنبُرج” وزملاؤه من معهد ماكس بلانك بحثاً يقول أن بعض أنواع الطيور المهاجرة تنام بالفعل وهي في الهواء، لكن لفترات قصيرة جداً قد تصل إلى ساعة واحدة يومياً. وقد علَّق “راتنبرج” على دراسة ذباب الفاكهة الجديدة قائلاً: “هذا البحث مثير جداً للاهتمام! فهو يقدم معلومات جديدة شديدة الأهمية بشأن مدى ضرورة النوم للبقاء”.

لكن حتى لو كان النوم لا يمثل ضرورة من ضرورات البقاء على قيد الحياة، فإنه قد يبقى ضرورياً في الواقع للحفاظ على الحياة؛ فالحرمان المستمر من النوم قد يصحبه مِن الأعراض الجانبية ما يهدد الحياة، كتدهور الإدراك مثلاً. يقول “راتنبرج”: “أعتقد أن النوم يساعدنا على البقاء على قيد الحياة بمعنى أنه يُمكِّننا من التصرُّف بانتباه في المواقف الخطيرة”. يبقى القدر اللازم من النوم، مع ذلك، محلاً للتساؤل؛ ففي حالة طيور الفِرقاطة – التي جرت عليها الدراسة المنشورة عام 2016 – كانت ساعة واحدة في اليوم من النوم الليلي كافيةً لمواصلة رحلة الهجرة بشكل جيد.

صحيحٌ أن الحيوانات جميعها وبلا استثناء – حتى قناديل البحر – تحتاج فيما يبدو إلى النوم بصورة من الصور، لكن هذا الاعتقاد السائد لا يقدم، مع ذلك، أي تفسيرات لمسألة أن بعض الحيوانات تنام لفترات بالغة الطول (القطط مثلاً تقضي معظم أيامها في النوم)، بينما يكتفي البعض الآخر باختطاف القليل من لحظات النُّعاس (لا تنام سمكة الكهف المكسيكية العمياء سوى لساعتين من الليل). يقول “جيلسترو”: “لا يوجد حيوان واحد يحتاج للبقاء مستيقظاً طوال يومه الكامل”، وحتى في حالة الحيوانات الأضخم حجماً والأكثر ذكاءً كالأفيال، لا يبدو أن هناك ارتباطاً شَرطياً بين الحجم والذكاء وبين الاحتياج إلى النوم؛ فالأفيال لا تحتاج سوى من ثلاث أو أربع ساعات من النوم يومياً.

بالطبع فإن كُلَّ زيادةٍ في فهم النوم، وكل خطوة نحو كشف غموضه، ستفتح آفاقًا لانهائية من الأبحاث والتطبيقات. لكن لا تقلق أيها القارئ العزيز؛ فمهما كانت الحقائق التي ستنكشف أمامنا، سيظل بإمكانك أن تستمتع بساعاتِك الثمانية بتمامها وكمالها.