علماء يتجسسون على الطيور المهاجرة باستخدام تلسكوب فضائي أثناء نومك

تهاجر الطيور ليلاً أو عندما تكون الشمس منخفضة لتجنب المفترسات.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في نهاية أبريل، أو مع بدء الثلوج والجليد بالذوبان في بداية الربيع، تبدأ الهجرة الكبيرة إلى الشمال، وتنطلق الآلاف من الطيور المغردة لتقطع هذا الطريق، ومع هذا فلن ترى الكثير منها، حيث أنها تحلق في الظلام لتجنب المفترسات قدر الإمكان، وبهذا، تتجنب أيضاً محاولات البشر لدراستها.

في كل ليلة، يحلق فوق رؤوسنا 4,000 نوع من مجمل أنواع الطيور التي يبلغ عددها 10,000، ومع هذا فما زال العلماء يبذلون قصارى جهدهم للإجابة عن الأسئلة الأساسية. متى تقرر الطيور الهجرة؟ ما مدى خطورتها؟ وكيف تؤثر العوامل بشرية المنشأ، مثل التلوث الضوئي والتغير المناخي، على سفر هذه الطيور؟

على مدى تاريخ دراسات الهجرة، كان علماء الطيور يضطرون للذهاب إلى مراكز الدراسة الميدانية، وإمساك الطيور ووضع علامات عليها أثناء توقفها. وكان الحصول على بيانات مجموعة واحدة من الطيور يستغرق عدة سنوات من المحاولات لإمساك الطيور التي تحمل العلامات مرة أخرى. ولكن مع ازدهار العلم الشعبي، الذي يقوم على مساهمة الناس العاديين وهواة العلم في الأبحاث العلمية، قام علماء الطيور بالاستعانة بالمتطوعين من أجل عدّ الطيور، ومن ثم استعانوا بالرادار لتتبع الطيور أثناء تحليقها، وعلى الرغم من كل هذا، بقيت هذه الدراسات عملاً شاقاً.

يقول مورجان تينجلي، عالم طيور في جامعة كونيكتيكيت: “لقد بدأنا نحصل على المعلومات على نطاق أكبر بكثير. وحتى منذ عشر سنوات فقط، كنت مضطراً للخروج وجمع المعلومات بنفسك إذا أردت إجراء دراسة. وعلى الأغلب، بعد عشرين سنة، سيصبح بإمكان علماء الطيور معرفة مكان تواجد أغلبية أنواع الطيور ونشاطها، في أي لحظة، وبشكل جيد”.

قرر علماء الطيور، وبدلاً من تتبع أنواع منفردة من الطيور في إطار دراسات معزولة، الاعتماد على أداة جديدة: نظام تلسكوب راديوي على محطة الفضاء الدولية، سيتمكن من تتبع الهجرات الموسمية من مكانه على حدود الفضاء.

أطلق على هذه البعثة اسم إيكاروس “ICARUS”، وهو اختصار لعبارة: التعاون الدولي في أبحاث الحيوانات بالاعتماد على الفضاء. وقد سمي هذا المشروع تيمناً بإيكاروس في الأساطير الإغريقية، والذي حاول الطيران قريباً من الشمس ووقع بعد أن تفككت أجنحته بسبب حرارتها، وذلك لأن الفريق اعتقد أن المشروع لن يتحقق فعلياً، ولكنهم سيحاولون منحه (أجنحة) ليحلّق على أي حال. وحالياً، من المقرر أن يبدأ العمل في أغسطس. وسيتمكن العلماء من ربط عدة مستويات من أبحاث الهجرة، بدءاً من تتبع طيور منفردة إلى دراسة تجمعات محددة وصولاً إلى رصد التحركات على مستوى العالم، للحصول على صورة موحدة ومترابطة، وذلك بفضل هذا المشروع، إضافة إلى تقنيات جديدة للتسوير للعلامات الراديوية (أي كشف دخول أو خروج الطيور التي تحمل العلامات الراديوية ضمن مساحة محددة، وكأنها محاطة بسور افتراضي)، والتحليل بالذكاء الاصطناعي للتتبع الراداري، ومشاركة بيانات الدراسات.

لطالما اعتمدت الطيور المغردة المهاجرة نفس المسار تقريباً في كل ربيع لمدة طويلة من تاريخها، متجهة من المناطق الجنوبية حيث تمضي الشتاء إلى مناطق التزاوج في الشمال. وعلى سبيل المثال، يحلق الدوري أبيض التاج من المكسيك إلى شمال كندا، كما اكتشف العلماء مؤخراً أن الهاجز ذهبي الجناح يهاجر من فنزويلا إلى جبال الأبالاش في شرق أميركا الشمالية. ولكن، وعلى غرار الكثير من الطيور التي تهاجر لمسافات بعيدة، فإن تعداد الهواجز ذهبية الجناح في تناقص حاد ومستمر، فقد انخفض بنسبة 68% منذ 1966.

يؤثر تراجع المَواطن للطيور المهاجرة، سواء في مناطق التزاوج أو المناطق الشتائية، على تعداد هذه الطيور، وبشكل جزئي على الأقل. يوجد هناك أيضاً مجموعة من الأبحاث التي تظهر أن التلوث الخفيف يمكن أن يشوش حركة واتجاهات الطيور، خصوصاً أثناء الهجرة الليلية. كما أن توقيت وصول الطيور وتوقيت حلول الربيع يتغيران بسرعة كبيرة، ويعود هذا بشكل رئيسي إلى آثار الاحتباس الحراري، ويبذل الباحثون جهوداً حثيثة لتتبع هذه التغيرات.

لاحظ تينجلي تفاوتاً جديداً بين وقت تجدد الغطاء النباتي لمناطق التزاوج ووقت وصول الطيور، ويقول: “بدأت الطيور بالوصول في وقت أبكر، وبدأ الربيع بالحلول في وقت أبكر أيضاً، غير أن وتيرة هذه التغيرات تتفاوت ما بين الحالتين”. يقول تينجلي أنه ما زال من غير الواضح ما هو التأثير على هجرة الطيور على نطاق واسع، وتعمل مجموعته حالياً على إجراء الأبحاث على بعض التجمعات المنفردة في محاولة لتحديد هذا.

نُشرت دراسة جديدة في مجلة The Condor تحمل بعض الأدلة على ما قد يعثر عليه تينجلي. فقد قام الباحثون بتسجيل مواعيد الوصول لخمس أنواع من الطيور المهاجرة في محطة ميدانية في شمال كاليفورنيا من 1987 وحتى 2008. ووجدوا أن الطيور قصيرة الهجرة، مثل صائد الذباب الباسيفيكي، وهاجز ويلسون، والهاجز برتقالي التاج، كانت أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات السنوية في الطقس، فقد كان هناك تفاوت كبير في أوقات وصولها في كل فصل. من ناحية أخرى، فإن الأنواع التي تهاجر من المكسيك وجبال الأنديز في أميركا الجنوبية، مثل سمّن سواينسون والهاجز الأصفر، لم تستجب للتغيرات السنوية على مدى فترة البيانات المجموعة والتي بلغت 22 عاماً، أي أنها كانت تصل في نفس الوقت سنوياً بغض النظر عن حالة الطقس.

يقول بريت ساندركوك، وهو عالم باحث أساسي في المعهد النرويجي للأبحاث الطبيعية، وقد أجرى هذه الدراسة بالاشتراك مع زميلته جينا بارتون: “لقد ظهر هذا النمط في العديد من الدراسات”، ويتابع قائلاً أن الطيور قصيرة الهجرة تميل إلى المرونة والتكيف مع التغير المناخي، ولكن الطيور بعيدة الهجرة بدأت بالتناقص، لدرجة أنه يقول أن لقاءات علماء الطيور أصبحت مدعاة للإحباط بسبب تكرار الشكوى من أن الأنواع التي يجرون عليها دراساتهم آخذة بالتراجع. غير أن ساندركوك يعتبر أن البيانات الكبيرة وسيلة لمساعدة جهود حماية الطيور بشكل أكثر تأثيراً.

في هذا الربيع، أطلق مختبر علم الطيور في جامعة كورنيل خرائط مباشرة البث لهجرة الطيور تحت اسم بيردكاست (الصورة أعلاه سجلت بتاريخ 17 مايو، 2018، وهي تقدمة من المختبر) تعتمد على الرادار لتتبع الطيور أثناء تحليقها، وستسمح للباحثين بتتبع الهجرة في الزمن الحقيقي.

يقول أندرو فارنزوورث، وهو باحث مساعد في برنامج علم المعلومات في مختبر علم الطيور في كورنيل: “يعتبر مشروع بيردكاست، وخصوصاً الجزء الذي أطلقناه هذا الربيع، نتيجة 20 سنة من العمل المتواصل”. ففي التسعينيات كان تحويل محتوى بضعة ليالٍ من البيانات إلى شكل مفيد يستغرق عدة أسابيع. غير أن الحواسيب العصرية وتقنيات التعلم الآلي تسمح بتحليل محتوى 20 سنة من البيانات المسجلة للحصول على خرائط توقعات الهجرة، كما يقول فارنزوورث: “بعد حوالي 10 أو 15 دقيقة من التقاط الرادارات لأي أهداف، نبدأ بتشغيل هذه الخوارزميات لاستخلاص المعلومات المتعلقة فقط بالطيور وتخزينها”.

يسمح الرادار للباحثين برؤية الحجم الإجمالي لسرب الطيور المهاجرة، وغالباً ما يصل هذا الحجم إلى ذروته في الليالي التي تهب فيها رياح جنوبية دافئة، غير أن معلومات الرادار ليست مفصلة بما يكفي لتحديد نوع الطيور. ولتحقيق هذا الغرض، يجب أن نصغي إليها أثناء سفرها.

تقول لورا جوتش، باحثة مساعدة في مختبر علم الطيور في متحف كليفلاند للتاريخ الطبيعي: “لقد نصبت بضعة ميكروفونات على سطوح المباني، وذلك لأن الكثير من الطيور التي تهاجر أثناء الليل تصدر أصواتاً أثناء الطيران”.

تلتقط الميكروفونات الأصوات الضعيفة التي تقول جوتش أنه يمكن سماعها على الأرض في المناطق الريفية عند الإصغاء بتركيز. وحتى في هذه الحالة، تقول جوتش أنه يمكن سماع صوت طير السمّن أو النمنمة، ولكن من المستحيل سماع السقسقة الخافتة للدوري بدون ميكروفون قادر على عزل الأصوات الأكثر ضعفاً.

تستطيع جوتش التمييز بين الأشكال المختلفة لأصوات الطيور على المطياف، والذي يعطي تمثيلاً مرئياً للأصوات. وهي تعمل ضمن مجموعة صغيرة من علماء الطيور تقوم بتسجيل الأصوات أثناء الليل في الهواء الطلق، ويمكنهم التعرف على هذه الأصوات وتحديد نوع الطيور التي تصدرها أحياناً. تمتلك بعض الطيور، مثل الحميراء، صوتاً مميزاً للغاية، على حين تصنف بعض الأصوات الأخرى ضمن مجموعة باسم “ثنائية الحزمة” مثلاً، وهو توصيف لشكل الصوت على المطياف، كما تقول جوتش: “توجد مجموعة أخرى من الهواجز، مثل هواجز بلاكبول وبلاكبورنيان والماغنوليا إلى حد ما، تعرف باسم هواجز (زيب)، ومن الصعب أن تميز بينها”. (يمكنك أن تسمع صوت زيب بنصف السرعة في الرابط أدناه، تقدمة من لورا جوتش).

 

على الرغم من أن جوتش تمتلك محتوى سنوات كاملة من البيانات، فهي تحتاج إلى ساعات فقط لتصنيف وتحديد جميع أصوات الطيور في فترة الذروة للهجرة. وقد يصل عدد أصوات الدوري والهاجز إلى 600 صوت في محطة تنصت واحدة، وفي إحدى الليالي التقطت 4,700 صوت للسمّن والنمنمة. تقول جوتش: “لدي الكثير من البيانات التي لم أقم بتحليلها لعدم توافر الوقت. آمل أن تقنيات التحليل الآلي ستصبح حقيقة واقعة يوماً ما، وستصبح البيانات عندها مفيدة”.

يعمل فارنزوورث في مختبر علم الطيور في جامعة كورنيل على بناء برنامج تعلّم آلي يحقق هذا الغرض بالضبط، ويأمل أن يتمكن من بناء نسخة أولية للتعامل مع بعض الأنواع في أميركا الشمالية على الأقل بعد حوالي سنة ونصف. ولن تصبح تقنيات كهذه هامة إلا عندما يصبح علماء الطيور قادرين على جمع المزيد من البيانات.

يقول تينجلي: “بفضل تصغير التكنولوجيا، خصوصاً تصغير البطاريات، بدأنا نشهد ثورة في حجم أجهزة تحديد الموضع التي تستخدم مع الحيوانات”. يمكن للطرازات الجديدة والصغيرة من أجهزة العلامات تسجيل موضع الطير في بداية ونهاية كل يوم عن طريق تسجيل مستوى وزاوية ضوء الشمس. وهذا يسمح لعلماء الأحياء بأخذ صورة عامة عن سفر هذه الطيور. ولا تعاني هذه الأجهزة حالياً إلا من مشكلة واحدة، وهي أنه يجب الإمساك بالطير مرة أخرى لاستخلاص المعلومات من هذه العلامات.

وللتغلب على هذه المشكلة، بدأت تظهر شبكة عالمية من أبراج الراديو. ويعتمد مشروع موتوس، التابع للمنظمة الكندية لدراسة الطيور، على علامات نانوية تبث إشارات راديوية مميزة لتتبع الطيور المنفردة أثناء هجرتها حول العالم، وتظهر في الصورة أعلاه خريطة لتتبع مسارات هجرة الدريجة الحمراء بين 2014 و 2016، تقدمة من مشروع نظام موتوس لتتبع الحياة البرية التابع للمنظمة الكندية لدراسة الطيور، مع مساهمات من مؤسسات أخرى مشاركة.

تشرح زوي كرايسلر، وهي أخصائية تقنية ومنسقة للبيانات في شبكة موتوس: “إنها شبكة تعاونية للغاية، فإذا مر طير وضعت عليه علامة قرب برج تابع لمؤسسة أخرى، سأحصل على هذه المعلومة. وبدلاً من الاتكال على خمسة أبراج يمكنني تحمل نفقاتها في مشروعي، سأتمكن من التواصل مع كافة المحطات في أميركا الشمالية، والجنوبية، وأوروبا، وأستراليا التي بدأت بإنشاء شبكة خاصة بها. لقد أصبح هذا ممكناً بفضل العلامات النانوية”.

يأمل الباحثون بأن كل هذه التقنيات –العلامات النانوية والرادار المباشر والأصوات الليلية- ستساهم في توضيح الصورة الإجمالية. يقول مارتن ويكيلسكي، وهو عالم طيور في معهد ماكس بلانك لعلم الطيور: “هذا ما أخبرنا به العالم القديم جورج سوينسون، وهو فلكي متخصص بالفلك الراديوي. حيث توجد لدينا خريطة للكون، ومناطق تختفي وتولد النجوم فيها. غير أننا لا نمتلك شيئاً مماثلاً بالنسبة للأرض، ولا نعرف المناطق التي تموت الحياة فيها أو تزدهر”.

هنا سيأتي دور مشروع إيكاروس، حيث سيعمل على التقاط إشارات أجهزة تحديد الموضع للحيوانات المهاجرة من مكانه في الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية. وقد تم تركيب الجزء الأول من إيكاروس في مكانه، ومن المقرر تشغيل الهوائي الراديوي في أغسطس المقبل. يقول ويكيلسكي ضاحكاً: “يحلق إيكاروس هذه المرة في المدار الأرضي الأدنى، وليس قريباً من الشمس. سنتمكن أخيراً من منحه زوجاً من الأجنحة”.

مع استمرار المساعدة التي يقدمها المواطنون والهواة، والذين قد يبدؤون قريباً بتثبيت أجهزة التتبع الصغيرة على الطيور، يأمل ويكيلسكي وزملاؤه أن دراساتهم ستتكامل أخيراً. يقول ويكيلسكي: “نرغب بالانتقال من المستوى المحلي والحركة المحلية إلى ما هو أكبر، وأيضاً إيجاد الصلة مع التنوع الأحيائي. نرغب بأن نجمع كل هذه النواحي معاً. وقد يؤدي هذا إلى تغيير كبير في فهمنا للأنظمة البيئية”.