مع احتفال الملايين من المسلمين في أنحاء العالم بشهر رمضان المبارك، يخضع الروتين اليومي لتحول كبير. يصبح الصيام من الفجر حتى غروب الشمس أسلوب حياة، يجلب معه شعوراً عميقاً بالتجديد الروحي والانضباط. لكن وسط الرحلة الروحية، هناك أيضاً جانب عملي يجب مراعاته: كيف يمكن للمرء الحفاظ على الأداء المعرفي والتعامل مع المهام الفكرية المتطلبة في أثناء الصيام؟
تأثير صيام رمضان في الدماغ والمهارات المعرفية
في حالة التغذية، يكون الغلوكوز هو الوقود الأساسي للخلايا، بما في ذلك الخلايا العصبية، لكن في أثناء الصيام، يستنفد الجسم مخازن الغلوكوز في الكبد، ما يدفع الخلايا الدهنية إلى إطلاق الدهون، حيث تتحول الدهون إلى ما يدعى كيتونات بوجود الإنسولين، والتي تعمل باعتبارها مصدراً بديلاً للطاقة في الدماغ، وعليه يمكن أن يكون للصيام آثار سلبية وإيجابية على المهارات المعرفية.
تتضمن الآثار الإيجابية لصيام رمضان تحسين الوظائف الإدراكية مثل التعلم واليقظة، ويرجع هذا إلى سببين:
- إنتاج عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ (BDNF)، وهو بروتين يدعم بقاء الخلايا العصبية الموجودة ويشجع نمو الخلايا العصبية والمشابك العصبية الجديدة، حيث أكد باحثون في المعهد الوطني لبرنامج أبحاث الشيخوخة داخل الأعصاب في الولايات المتحدة، في دراستهم التي نُشرت في دورية "مراجعات نيتشر في علوم الأعصاب" (Nature Reviews Neuroscience)، أنه يمكن للصيام المتقطع أن يزيد نسبة هرمون "عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ" (BDNF)، والذي يساعد على نمو خلايا عصبية جديدة، ما يعزز الوظائف الإدراكية ويحمي الدماغ من الأمراض العصبية التنكسية.
- تعزيز اللدونة العصبية، حيث أظهرت الدراسة المنشورة في دورية مراجعات التغذية (Nutrition Reviews)، والتي أجريت على الحيوانات، أن الصيام يعزز اللدونة العصبية، وهي قدرة المشابك بين الخلايا العصبية على التكيف والتغيير استجابةً للتجارب والخبرات، والتي تعد أساسية لعمليات التعلم والذاكرة.
أما الآثار السلبية فتتضمن انخفاض القدرة على التركيز، حيث أسفرت دراسة استقصائية أجراها فريق من الباحثين في جامعة النيلين وجامعة الحدود الشمالية السعوديتين، حول تأثير شهر رمضان في الأداء الأكاديمي للطلاب، عن النتائج التالية:
- شعر 73% من الطلاب بالنعاس في أثناء الصيام.
- عانى 82.5% منهم التعب والإرهاق في أثناء ساعات الصيام.
- عانى 73.7% من الطلاب الصداع في أثناء الصيام.
- أثّر الصيام سلباً في تركيز 68.5% من الطلاب.
- تأثرت نتائج الاختبارات سلباً لنحو 60% من الطلاب في أثناء صيام رمضان.
اقرأ أيضاً: 6 طرق تساعدك على تنظيم الوقت وزيادة الإنتاجية خلال شهر رمضان
الوقت الأفضل لتنفيذ المهام الفكرية الصعبة في رمضان
تتطلب عملية إنجاز المهام الفكرية الصعبة إحدى القدرات المعرفية، وتتضمن مجموعة من الوظائف الفكرية، مثل الذاكرة أي القدرة على تخزين المعلومات واسترجاعها واستخدامها، والتركيز والتفكير بما فيه القدرة على تحليل المعلومات واستخلاص النتائج وحل المشكلات، والمهارات اللغوية.
عموماً، تتأثر هذه الوظائف على مدار النهار خلال الصيام، وتعد أفضل الأوقات لإنجاز المهام الفكرية الصعبة ما يلي:
الصباح الباكر: خلال فترة السحور وما بعدها
تعد وجبة السحور بمثابة وجبة إفطار مبكر، إذ إن تناول سحور صحي يوفر مستويات متوازنة من الكربوهيدرات والبروتين والدهون الصحية، ويحافظ على مستويات السكر في الدم أطول فترة ممكنة، وبما يضمن إطلاقاً تدريجياً وثابتاً للطاقة. علاوة على ذلك تعد هذه الفترة، بهدوئها وحالة صفاء الذهن التي ترافقها، هي الأنسب لاستيعاب المعلومات وتحليلها.
لذا يعد هذا الوقت هو الأنسب لأداء المهام الفكرية الصعبة لتوفر المغذيات الأساسية لنشاط الدماغ والوعي والصفاء الذهني.
منتصف الصباح
مع تقدم اليوم، قد تتقلب مستويات الطاقة بسبب غياب الطعام والماء. ومع ذلك، فإن فترة منتصف الصباح، عادةً ما تكون من الساعة 9:00 وحتى 11:00 صباحاً، لا تزال وقتاً جيداً للمهام الفكرية الصعبة. خلال هذه الفترة، لا يزال الجسم يستفيد من احتياطيات الطاقة والترطيب من السحور. في المقابل، مع اقتراب فترة ما بعد الظهر، تصبح تأثيرات الصيام أوضح؛ يمكن أن يؤثر الجفاف وانخفاض سكر الدم والتعب على الوظائف الإدراكية، ما يجعل أداء المهام الفكرية الشاقة أمراً صعباً. لذا ينبغي استغلال هذا الوقت لمهام أقل إرهاقاً ولا تتطلب تركيزاً قوياً، مثل العمل الإداري الروتيني، أو رسائل البريد الإلكتروني، أو القراءة الخفيفة.
بعد الإفطار
بعد الإفطار بنحو ساعتين، أي بفترة زمنية كافية لتجديد الجسم بالعناصر الغذائية والترطيب، يستعيد الدماغ طاقته وقدرته على التركيز، وتعد فترة ممتازة للمهام الفكرية الصعبة.
قبل السحور
خلال ساعات الليل المتأخرة تكون الأجواء هادئة، مع مخزون من الطاقة والترطيب الكافي، لذا يعد هذا الوقت مناسباً لأداء المهام المكثفة التي تتطلب تحليلاً وحلولاً إبداعية.
اقرأ أيضاً: أطباق غير مكلفة وغنية بالعناصر الغذائية لإفطار رمضان
الأوقات التي تتناسب مع الإيقاع البيولوجي لكل فرد
على الرغم من كل ما سبق، فإن لكل فرد إيقاعه البيولوجي الخاص، فبينما قد يشعر البعض بأن فترة الصباح مناسبة للنشاط الذهني، فإن البعض الآخر قد لا يستطيع التركيز فيها، خاصة مع اضطراب موعد النوم الذي يحدث في رمضان، لذا فإن لكل فرد وقته الخاص وفقاً لساعته البيولوجية، والذي يستطيع فيه إنجاز المهام الصعبة على النحو الأكثر فعالية، ووفقاً لطاقته في رمضان.