إذا كنت من أولئك الذين يضبطون المنبه على الخامسة صباحاً للاستمتاع بلحظات هدوء العالم قبل أن يستيقظ الجميع، فأنت تتبع إحدى القواعد الشائعة التي يُعتقد أنها تعزز الإنتاجية. هذه العادة تُعتبر سلاحاً سرياً يستخدمه العديد من الرؤساء التنفيذيين والرياضيين والفنانين لتحقيق النجاح. لكن في الجهة المقابلة، هناك من أنهوا للتو يومهم ويستعدون للخلود إلى النوم. فهل الاستيقاظ المبكر هو حقاً مفتاح النجاح، أم إن ذلك مجرد خرافة أخرى في عالم تطوير الذات؟ إليك ما يقوله العلم عن العلاقة بين الاستيقاظ المبكر والإنتاجية.
العلاقة بين الإنتاجية والاستيقاظ المبكر: هذا ما تقوله الأبحاث
ليس من قبيل المصادفة أن العديد من المهنيين أصحاب الإنجازات العالية، مثل تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة آبل، وآنا وينتور، من مجلة فوغ، مشهورون بصباحات مبكرة، حيث تدعم الأبحاث العلمية فكرة أن من يستيقظون مبكرين، والذين يُطلق عليهم غالباً "طيور الصباح"، يميلون إلى أن يكونوا أكثر انتاجية، للأسباب التالية:
الاستباقية في الإنتاجية
أجرى باحثون من جامعة بولونيا وجامعة هايدلبرغ للتعليم، بقيادة عالم الأحياء كريستوف راندلر، تحليلاً واسع النطاق لدراسات من أنحاء العالم جميعها، ونشروا النتائج في دورية التقارير العلمية (Scientific Reports volume). وفقاً للتحليل كانت أعلى مستويات الإنتاجية لـ "البوم الليلي" في فترة ما بعد الظهر أو المساء، بينما كانت "الطيور الصباحية" في أوج عطائها في وقت مبكر من اليوم. أي إن من يسهرون لوقت متأخر يميلون إلى أداء أسوأ في الصباح للقيام بالمهام الجسدية والذهنية.
بعبارات أخرى، إنّ من يستيقظون مبكرين كانت لديهم فرصة أكبر بكثير للنجاح المهني، لأنهم كانوا أكثر استباقية من أولئك الذين وجدوا أنفسهم في قمة نشاطهم في وقت متأخر من الليل، حيث تتوافق ذروة إنتاجيتهم مع جداول العمل والدراسة النموذجية، لذا لديهم فرصة أفضل للنجاح المهني.
اقرأ أيضاً: النوم والإنتاجية: ماذا تقول الأبحاث عن أفضل عدد ساعات نوم للمدراء؟
الثباتية في الإنتاجية
وفقاً للمهندس ينس ميشيل بوتهاست من معهد الإنتاج المتكامل في ألمانيا، يحافظ الصباحيون، أو الذين يستيقظون مبكرين، على مستوى ثابت من الأداء العالي والإنتاجية طوال اليوم. في المقابل، يشهد الليليون تقلبات ملحوظة في إنتاجيتهم، حيث يصلون إلى أفضل مستوياتهم في الليل. بعبارة أخرى، يتميز الصباحيون بثبات إنتاجيتهم، بينما يواجه الليليون تقلبات أكبر ويبلغون ذروتهم في وقت لاحق من اليوم.
تحسين الصحة النفسية: الطائر الصباحي أكثر سعادة
عندما يوجد تناقض بين الساعة البيولوجية للجسم، والالتزامات الاجتماعية أو المهنية (مثل العمل أو الدراسة)، فقد يصاب الفرد باضطراب التوقيت الاجتماعي (Social jet lag). بالنسبة لمن يستيقظ متأخراً، قد لا يتوافق نمطه الزمني مع التزاماته الاجتماعية، مثل الاجتماعات أو الدراسة، من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساءً، فيتراجع أداؤه، ويعاني القلق والمشكلات في علاقاته الشخصية والمهنية.
علاوة على ذلك، أظهرت دراسات حديثة أن الأشخاص الذين يسهرون ليلاً، أكثر عرضة للإصابة بأعراض الاكتئاب مقارنةً بمن يستيقظون مبكرين، بما فيها دراسة أجرتها جامعة سري، ونُشرت نتائجها في دورية بلوس ون (PLOS One)، حيث تبيّن أن الأشخاص الذين يسهرون ليلاً لديهم معدلات اكتئاب أعلى، وكانوا أكثر عرضة للتأمل في الأفكار السلبية، وأبلغوا عن ضعف جودة نومهم وزيادة استهلاكهم للكحول مقارنةً بمن يستيقظون مبكرين.
وجبة الإفطار معززة للإنتاجية والطاقة المستدامة
بالنسبة لمن يستيقظون مبكرين، عادةً ما يكون الإفطار جزءاً طبيعياً من روتينهم اليومي. يميل هؤلاء الأفراد إلى بلوغ ذروة إنتاجيتهم في ساعات الصباح، ما يوفر لهم طاقة مستدامة وأداءً مستقراً. أما بالنسبة لمن يستيقظون متأخرين، فغالباً ما يتجاهلون وجبة الإفطار أو يتناولونها في وقت متأخر، وأحياناً في وقت قريب من وقت الغداء. وهو ما قد يؤدي إلى انخفاض الطاقة والدقة في المهام الإدراكية المُرهقة، خاصةً في ساعات الصباح، وزيادة التوتر.
اقرأ أيضاً: كيف تسرع عملية الأيض في جسمك؟
كيف يزيد الاستيقاظ المبكر الإنتاجية؟
يُعرف الاختلاف في نمط نوم الناس بين الصباحيين الذين يستيقظون مبكرين، والمسائيين الذين يسهرون لوقت متأخر باسم "النمط الزمني"، وهو نزعة الجسم الطبيعية لأن ينام في وقت محدد، أي هو المسؤول عن تنظيم أوقات النوم والاستيقاظ، ولا يؤثر فقط في موعد النوم، بل أيضاً في الشهية وعادات ممارسة الرياضة ودرجة حرارة الجسم والإنتاجية.
ترتبط الأنماط الزمنية ارتباطاً وثيقاً بالإيقاع اليوماوي؛ وهو دورة من التغيرات الجسدية والسلوكية والذهنية على مدار 24 ساعة، مدفوعة على نحو رئيسي بالضوء والظلام. يُنظم هذا الإيقاع "الساعة الرئيسية" للدماغ، وهي النواة فوق التصالبية (SCN)، التي تُنسق إنتاج هرمون الميلاتونين استجابةً للإشارات البيئية.
في دراسة حديثة، نشرتها دورية نيتشر هيومان بيهيفيور (Nature Human Behaviour)، تبين أن اختلاف النمط الزمني ليس مجرد خيارٍ لأسلوب الحياة، بل هو سمة متأصلة في بنية الدماغ، وتؤثر في كيفية تكوين العادات وتنظيم العواطف والأداء الذهني.
في الدراسة الحديثة، لاحظ الباحثون اختلافات واضحة بين النمطين في مناطق الدماغ المرتبطة بتكوين العادات (العقد القاعدية)، والتنظيم العاطفي ( الجهاز الحوفي والحُصين)، ومعالجة المكافآت (المخيخ). على سبيل المثال، يمتلك نمط البوم الليلي حجماً أقل من المادة الرمادية في التلفيف الصدغي السفلي الأمامي الأيسر، وهي منطقة مرتبطة باللغة والمعالجة البصرية. كما أبدى الطائر الصباحي اتصالاً أقوى في المناطق التي تدعم اليقظة والأداء الإدراكي خلال ساعات العمل المعتادة. من ناحية أخرى، كان لدى من يسهرون الليل ترابطاً أقل في هذه المناطق خلال النهار، ما قد يؤدي إلى مزيد من النعاس، وبطء ردود الفعل، وانخفاض الانتباه عند اتباع جدول زمني ثابت.
اقرأ أيضاً: الصيام المتقطع وتأثيره في الطاقة والتركيز: دليل للقادة الشباب
كيف يمكن التحول إلى نمط حياة الاستيقاظ باكراً؟
يتطلب الانتقال من طائر ليلي إلى طائر صباحي يستيقظ مبكراً تعديلات تدريجية وعادات صحية ثابتة، بما فيها:
- اتبع عادات نوم صحية، بما فيها ممارسة الرياضة بانتظام، وتجنب الكافيين مساءً، وتقليل تناول الوجبات المتأخرة.
- حافظ على غرفة نوم باردة ومظلمة.
- أنشئ روتيناً مريحاً لوقت النوم يتضمن أنشطة مثل القراءة أو التأمل مع تقليل التعرض للشاشات الإلكترونية التي قد تؤثر في أنماط النوم.
- حافظ على جدول نوم منتظم، واستهدف 7-9 ساعات كل ليلة، حتى في عطلات نهاية الأسبوع، لتثبيت إيقاعك اليومي.
- زد تعرضك للضوء الطبيعي في الصباح لإعادة ضبط ساعة جسمك البيولوجية.
- غيّر مواعيد نومك واستيقاظك تدريجياً بزيادات مدتها 15 دقيقة على مدار عدة أيام.
- عطل المزامنة ما بين دورة النوم ودورة الأكل، من خلال تعديل مواعيد الوجبات لتتماشى مع جدولك الجديد للمساعدة على تنظيم عملية الأيض.