حتى الحيوانات تلجأ لـ «التباعد الاجتماعي» للوقاية من الأمراض

التباعد الاجتماعي, أمراض معدية, النمل, عالم الحيوان
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

فُرض التباعد الاجتماعي خلال أزمة كورونا للحد من انتشار الفيروس، حيث يؤثر تأثيراً عميقاً على المجتمع، تاركاً الكثيرين يتساءلون حول ما إذا كانت هذه الإجراءات ستعمل بالفعل أم لا. بصفتنا علماء أمراض، نعلم بأن الطبيعة لديها إجابة حول هذا التساؤل أيضاً.

يمكن لحيوانات متنوّعة، مثل القرود والكركند والحشرات والطيور اكتشاف وتجنب الأفراد المريضة بينها. ولكن لماذا طوّرت أنواع عديدة من الحيوانات مثل هذه السلوكيات المُعقّدة للتصدي للأمراض؟ ببساطة لأنّ التباعد الاجتماعي يحميها ويساعدها على البقاء.

من الناحية التطورية؛ فإن التباعد الاجتماعي الفعّال أثناء تفشّي مرضٍ ما بين الحيوانات؛ يعزز من فرصها في الحفاظ على صحتها، والاستمرار بالتكاثر وإنتاج نسل جديد. هذا النسل سيقوم بذات المهمة عند مواجهة مرضٍ معد ما.

نحن ندرس مختلف السلوكيات التي تلجأ إليها الحيوانات لتجنّب العدوى، ولماذا تُعدّ هذه السلوكيات مهمة عند انتشار الأمراض بينها. ففي الوقت الذي طوّرت فيه الحيوانات مجموعةً مختلفة من السلوكيات التي تحدّ من العدوى، يخبرنا انتشار سلوكيات التباعد الاجتماعي بين الحيوانات في مجتمعاتها؛ أن الأنواع التي تواجه احتمالاً كبيراً لانتشار الأمراض المعدية فيما بينها قد اتّبعت هذه الإستراتيجية التي اتبعتها مراراً وتكراراً.

إذاً، ماذا يمكننا أن نتعلّم من التباعد الاجتماعي عند الحيوانات؟ وكيف تتشابه وتختلف سلوكياتهم مع سلوكيات البشر الآن؟

اهتم بالمرضى، ولكن احمِ الملكة

تمارس الحشرات الاجتماعية التباعد الاجتماعي بشكلٍ كبير في الطبيعة. على سبيل المثال، تعيش أنواع عدّة من النمل في أماكن ضيّقة تعج بمئات أو حتى الآلاف من أفرادها. كما يمكن لهذه المُستعمرات أن تكون بيئة مثالية لانتشار الأمراض المعدية تماماً؛ مثل دور الرعاية الصحية والتمريض، ومهاجع النوم في المعسكرات لدينا نحن البشر.

واستجابة لخطر انتشار العدوى، طوّر النمل سلوكيات تعتمد على التباعد الاجتماعي. عندما ينتشر مرض معدٍ في مجتمعها، يقوم أفراد النمل المصابين والأصحاء على حدّ سواء بتغيير سلوكياتهم سريعاً، بطريقةٍ تبطئ انتقال المرض. يقوم النمل المريض بعزل نفسه، ويقلل الأفراد الأصحاء من تفاعلهم مع بعضهم البعض عند انتشار مرض معد في المستعمرة.

حتى أفراد النمل الأصحاء يقومون بحماية أفراد المستعمرة الأكثر ضعفاً، أي الملكات والممرّضات، من خلال إبقائهم معزولين عن النملات العاملات المُكلّفة بجمع الغذاء، حيث يُحتمل أن يجلبوا العوامل الممرضة معهم من الخارج. بشكلٍ عام، تُعد هذه التدابير فعّالة جداً في الحد من انتشار المرض، وضمان استمرارية المستعمرة وصحة أفرادها.

كما تحدّد العديد من أنواع الحيوانات الأخرى عدد الأفراد الذين ينبغي أن يكونوا معزولين اجتماعياً، ومتى يمكن أن يعرضوا أنفسهم لخطر العدوى. على سبيل المثال، يواصل قرد «الماندريل» رعاية أفراد العائلة المرضى، ويتجنبون المرضى الذين لا يرتبطون بهم. من الناحية التطورية، قد تسمح رعاية أحد أفراد الأسرة المرضى للحيوان بنقل جيناته؛ من خلال نسل ذلك الفرد من العائلة على أمل شفائه.

علاوة على ذلك، تحافظ بعض الحيوانات على التفاعلات الاجتماعية الأساسية في مواجهة المرض، بينما تتخلى عن التفاعلات الأقل أهمية. على سبيل المثال، تستمر الخفافيش مصاصة الدماء في توفير الطعام لأفراد مجموعتها المرضى، ولكنها تتجنب الاقتراب منها والاعتناء بها. يقلل ذلك من مخاطر العدوى، مع الحفاظ على أشكال الدعم الاجتماعي الضرورية للحفاظ على أفراد المجموعة المرضى على قيد الحياة؛ مثل تقاسم الطعام.

تقلل هذه الأشكال الدقيقة من التباعد الاجتماعي من أثر المرض إلى أدنى حدّ، وتحافظ في الوقت نفسه على فوائد الحياة الاجتماعية. إذاً لا غرابة في أن هذه الحيوانات تستفيد من التطور أكثر من باقي الأنواع.

التباعد الاجتماعي, أمراض معدية, النمل, عالم الحيوان
اكتشفت بعض أنواع النمل التي تعيش في مستعمرات كثيفة طرقاً للوقاية من الأمراض المعدية.

الإيثار يجعل منّا بشراً

في الواقع، يحمل السلوك البشري في ظلّ وجود الأمراض علامة تطورية. يشير هذا إلى أن أسلافنا واجهوا العديد من الضغوط نفسها من الأمراض المعدية التي نواجهها اليوم.

فنحن، مثل النمل الاجتماعي، نقوم بحماية أفراد مجتمعنا الأكثر ضعفاً في مواجهة عدوى فيروس كورونا. يتم ذلك من خلال إبقاء كبار السن ومن يعانون من مشاكل صحّية مزمنة بعيداً عن الأشخاص الذين يتحمل أن ينقلوا العدوى إليهم. ونحن -مثل القرود والخفافيش- نمارس تباعداً اجتماعياً تفضيلياً، حيث نقلّل من التقارب الاجتماعي/ الجسدي غير الضروري، وفي نفس الوقت نستمر بتقديم الرعاية الأساسية للأفراد المرضى.

لكّن هناك اختلافاتٌ أخرى مهمة على صعيد البشر مقارنة بسلوكيات الحيوان. على سبيل المثال، بالإضافة إلى رعاية أفراد الأسرة المرضى، يزيد البشر أحياناً من تعرضّهم لخطر العدوى من خلال رعاية الأفراد الذين لا يقربونهم بصلة، مثل الأصدقاء والجيران. ويذهب العاملون في مجال الرعاية الصحية إلى أبعد من ذلك، حيث يبذلون جهوداً أكبر في تقديم الرعاية الصحية للآخرين الغرباء عنهم.

الإيثار ليس السلوك الوحيد الذي يميّز الاستجابة البشرية لتفشي الأمراض. فالحيوانات الأخرى تعتمد على إشاراتٍ دقيقة للكشف عن المرض بين أفراد المجموعة. لكن نحن بالمقابل نمتلك أحدث التقنيات التي تكشف مسببات الأمراض بسرعة، ومن ثم عزل الأفراد المرضى وعلاجهم. كما يمكن للبشر أن ينبّهوا باقي أفراد المجتمع إلى التهديدات الصحية عالمياً في وقتٍ قصير جداً، مما يسمح لنا بتأسيس السلوكيات واتخاذ الإجراءات التي تخفف من المرض بشكلٍ استباقي. وذلك في الواقع ميزة تطورية هائلة.

أخيراً، يمكن للبشر الحفاظ على التواصل الاجتماعي بفضل المنصات الافتراضية دون الحاجة إلى الاتصال الجسدي. هذا يعني أنه، على عكس الحيوانات الأخرى، يمكننا ممارسة «التباعد الجسدي» بدلاً من «التباعد الاجتماعي»، مما يتيح لنا الحفاظ على بعض الفوائد المهمة للحياة الجماعية، مع تقليل مخاطر المرض.

تكلفة التباعد الاجتماعي

الدليل من الطبيعة واضح: التباعد الاجتماعي أداة فعالة للحد من انتشار المرض، كما أنه أداة يمكن اللجوء إليها بسرعة، وعلى مستوى واسع النطاق أكثر من أيّ أداة أخرى تقريباً. وعلى العكس من اللقاحات والأدوية، لا يحتاج تغيير السلوكيات إلى تطوير أو اختبار.

ومع ذلك، يمكن أن يتسبب التباعد الاجتماعي أيضاً في تحمّل تكاليف كبيرة، وأحياناً غير مستدامة. في الواقع، لا تتباعد بعض الحيوانات الاجتماعية، مثل النمس المُنطّق، عن بعض أفرادها، حتى عندما تمرض لأن التكلفة التطورية للتباعد الاجتماعي عن أقاربها قد تكون مرتفعة للغاية. وبالمثل، قد يفرض التباعد الاجتماعي الحالي على البشر تكاليف باهظة للعديد من المجتمعات البشرية، وغالباً ما يتحمّل الأشخاص الأكثر ضعفاً هذه التكاليف بشكلٍ غير متناسب.

إذا كان من المحتمل أن يكون التباعد الاجتماعي مكلفاً، فلماذا تمارسه العديد من الحيوانات إذاً؟ باختصار، لأن السلوكيات التي تحمينا من الأمراض تسمح لنا بالاستمتاع بالحياة الاجتماعية. وهو نمط الحياة الذي يقدّم لنا فوائد كثيرة، ولكنّه يحمل أيضاً بعض المخاطر. فمن خلال ممارسة التباعد الاجتماعي عند الضرورة، يمكن للبشر والحيوانات الأخرى الاستمرار في جني الفوائد المتنوعة للحياة الاجتماعية على المدى الطويل، وفي نفس الوقت تقليل تكاليف الأمراض التي قد تكون مميتة عند ظهورها.

يمكن أن يكون التباعد الاجتماعي مدمراً جداً لمجتمعنا، ولكنه يمكن أن يوقف تفشّي المرض في مساراته.