ماذا تعلّمنا أدمغة النحل النشيط عن التطور البشري؟

ماذا تعلّمنا أدمغة النحل النشيط عن التطور البشري؟
تتشابه أدمغة الحشرات والبشر في بعض الجوانب. ديبوزيت فوتوز

يعتقد العلماء أن دراسة الحشرات مثل النحل والفراشات والذباب، يمكن أن توفر معلومات قيّمة لفهم وظائف الدماغ البشري وسلوكاته ذات المستوى الأعلى. كشفت دراسة نُشرت في 5 مايو/ أيار في مجلة "ساينس أدفانسز" (Science Advances) عن وجود 3 أنواع فرعية متنوعة ومتخصصة من خلايا كينيون (Kenyon) (الخلايا العصبية الجوهرية) في أدمغة نحل العسل، وتشير الدراسة إلى احتمالية تطور هذه الأنواع من خلية كينيون واحدة متعددة الوظائف.

ما هي خلايا كينيون؟

توجد خلايا كينيون (KCs) العصبية داخل جزء من دماغ الحشرات، وترتبط هذه الخلايا بعمليات التعلم والذاكرة، وبخاصة في الجزء الذي يسمَّى "الجسم الفطري" (mushroom body) من الدماغ؛ وهو مركز حاسة الشم لدى الحشرات. توجد هذه الخلايا في أدمغة الحشرات التابعة لرتبة غشائيات الأجنحة الكبيرة؛ بدءاً من الذبابات المنشارية "البسيطة" وصولاً إلى نحل العسل الأكثر تطوراً.

ويقول أحد المؤلفين المشاركين في هذه الدراسة الذي يتابع دراساته العليا في جامعة طوكيو، في بيان صحفي: "أشرنا في عام 2017 إلى أن تعقيد الأنواع الفرعية لخلايا كينيون في الجسم الفطري بأدمغة الحشرات يزداد مع تنوع سلوك الحشرات في رتبة غشائيات الأجنحة؛ أي أنه كلما زاد عدد الأنواع الفرعية من خلايا كينيون، زاد تعقيد دماغ الحشرات والسلوكات التي تنفذها. لكننا لم نكن نعرف كيف تطورت هذه الأنواع الفرعية المختلفة من الخلايا العصبية بالضبط؛ وهذا ما دفعنا إلى إجراء هذه الدراسة الجديدة".

اقرأ أيضاً: دراسة: النحل يتبع الخرائط الذهنية لبيئته للعودة إلى خلاياه

المسارات التطورية لخلايا كينيون وعلاقتها بتطور الوظائف الإدراكية

في هذه الدراسة، اختار فريق من الباحثين من جامعة طوكيو والمنظمة الوطنية اليابانية لأبحاث الزراعة والغذاء (NARO) نوعين من الحشرات من رتبة غشائيات الأجنحة لدراسة تنوع سلوك الحشرات. تتميز ذبابة اللفت المنشارية التي لا تعيش ضمن نظام اجتماعي بوجود نوع فرعي واحد من خلايا كينيون، في حين أن نحل العسل الأكثر تطوراً يعيش ضمن نظام اجتماعي يتميز بوجود 3 أنواع فرعية من خلايا كينيون في الدماغ.

يُعتقد أن دماغ الذبابة المنشارية البسيط قد يحتوي على بعض الخصائص الأساسية التي كانت موجودة في دماغ نحل العسل قبل تطورها، ولتحديد هذه المسارات التطورية المحتملة، استخدم الفريق تحليل النسخ الوراثية لتحديد النشاط الجيني الذي يحدث في الأنواع الفرعية المختلفة لخلايا كينيون وتخمين وظائفها.

يقول المؤلف المشارك في الدراسة وعالم الأحياء في جامعة طوكيو، هيروكي كونو (Hiroki Kohno) في بيان صحفي: "كانت المفاجأة في أن الأنواع الفرعية كافةً لخلايا كينيون لدى نحل العسل تُظهر تشابهاً مع النوع الوحيد الموجود في الذبابة المنشارية.  واستناداً إلى تحليلنا المقارن الأولي للعديد من الجينات، افترضنا سابقاً أن الأنواع الفرعية الإضافية لخلايا كينيون في دماغ نحل العسل أُضيفت تدريجياً واحدة تلو الأخرى في أثناء تطور النحل عبر الزمن. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن هذه الأنواع الفرعية انفصلت عن نوع سابق متعدد الوظائف من خلال فصل الوظائف وتخصيصها".

مع زيادة عدد الأنواع الفرعية لخلايا كينيون، ورث كل نوع بعض الخصائص المميزة من خلية كينيون واحدة سابقة بدرجة متساوية تقريباً، ثم طرأت عدة تعديلات على الأنواع الفرعية، وأدت هذه التغيرات إلى ظهور وظائف متنوعة أكثر في الحشرات التي نراها اليوم.

اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: نحل العسل يتمتع بقدرة البشر على التمييز بين الأرقام الزوجية والفردية

تأثير خلايا كينيون على السلوكات الاجتماعية

أجرى الباحثون تجربة لدراسة المثال السلوكي الذي يوضح وجود وظائف خلايا كينيون الأصلية في دماغ كلٍ من نحل العسل والذبابة المنشارية؛ ولذلك دربوا الذبابات المنشارية على المشاركة في اختبار سلوكي يخضع له نحل العسل عادة، فتمكّن كلٌ من النحل والذبابات المنشارية من تعلُّم ربط رائحة محفزة محددة مع مكافأة معينة. وعلى الرغم من التحديات التي واجهت الباحثين في بداية التجربة، فقد نجحوا في النهاية في تدريب الذبابات المنشارية على تنفيذ هذه المهمة.

كان تدريب ذبابة المنشار على إجراء هذه التجربة أمراً صعباً لأنها لم تستجب لمحلول السكر الحلو الذي يُستخدم عادةً في تدريب الحشرات الأخرى، بالإضافة إلى أنها تتظاهر بالموت عند لمسها. تمكّن الباحثون من تحفيز الذبابات المنشارية على المشاركة في الاختبار من خلال تقديم مكافأة لها عند تنفيذ المهمة المطلوبة من خلال إطعامها عينات من نباتها المفضل؛ شجرة المجد (شجرة زبدة الفول السوداني) (harlequin glory-bower)، عبر أجزاء فمها الحسية (الملماس). يُظهر هذا المقطع تدريب الذبابة المنشارية على مد خرطومها الفموي استجابة لمحفز مشروط؛ وهو رائحة فريدة تعلمت أنها مرتبطة بالحصول على المكافأة. حقوق الصورة: تاكايوشي كوابارا، 2023

بعد ذلك، عدّل الفريق جيناً في يرقات ذبابة المنشار يُسمَّى "بروتين كيناز البروتين المعتمد على الكالسيوم/ كالموديولين 2" (CaMKII)، المسؤول عن إنتاج الإنزيم الذي يساعد الدماغ على وظائف التعلم والذاكرة. يرتبط هذا الجين في نحل العسل بتكوين ذاكرة طويلة المدى؛ وهي وظيفة خلايا كينيون. بعد التعديل الجيني، ضعفت الذاكرة الطويلة المدى في اليرقات عندما أصبحت بالغة؛ ما يشير إلى أن هذا الجين يؤدي دوراً مماثلاً في الذبابة المنشارية. كانت عملية التعبير الجيني تحدث في النوع الوحيد من خلايا كينيون في ذبابة المنشار بأكمله، بينما كانت تحدث في نوع واحد من الأنواع الفرعية المتعددة من خلايا كينيون في نحل العسل. ووفقاً لمؤلفي الدراسة؛ يشير هذا إلى أن الدور الذي يؤديه هذا الجين في تشكيل الذاكرة الطويلة المدى انتقل إلى نوع فرعي محدد من خلايا كينيون في نحل العسل.

اقرأ أيضاً: دراسة: متوسط عمر النحل يتراجع والسبب قد يكون جينياً

على الرغم من أن أدمغة الحشرات وأدمغة الثدييات مختلفة جداً من ناحية الحجم والتعقيد؛ لكن أجهزتها العصبية تتشابه في بعض الوظائف والهيكلية، ويمكن أن تساعدنا دراسة كيفية تطور خلايا الحشرات وسلوكها على فهم كيفية تطور أدمغتنا. يهتم الفريق الآن بدراسة أنواع خلايا كينيون المكتسبة بالتوازي مع السلوكات الاجتماعية؛ مثل رقصة الاهتزاز (waggle dance) التي يشتهر بها نحل العسل ويستخدمها للتواصل.

يقول المؤلف المشارك وطالب الدكتوراة بجامعة طوكيو، تاكايوشي كوابارا (Takayoshi Kuwabara) في بيان صحفي: "نود توضيح ما إذا كان النموذج المقدَّم في هذه الدراسة ينطبق على تطور السلوكات الأخرى". ما يزال هناك العديد من الألغاز المتعلقة بالأساس العصبي الذي يتحكم في السلوك الاجتماعي، سواء كان ذلك في الحشرات أو الحيوانات أو البشر، وما تزال طريقة تطور هذا النظام العصبي مجهولة إلى حد كبير. من وجهة نظري، تمثل هذه الدراسة عملاً رائداً في هذا المجال".