بحث من جامعة الشارقة: كوبرنيكوس استلهم أفكاره من العالم العربي ابن الشاطر

4 دقيقة
جامعة الشارقة تتبع خيوط المعرفة: إرث ابن الشاطر في علم الفلك
حقوق الصورة: بيكسلز

يمثّل نموذج مركزية الشمس، الذي يُعزا غالباً إلى عالم الرياضيات والفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus)، تحولاً ثورياً في الأوساط العلمية من خلال تحدي النموذج الجغرافي لأرسطو وبطليموس الذي ساد زمناً طويلاً، والذي يقول بمركزية الأرض ودوران الكواكب حولها. ومع ذلك، كشف بحث جديد أجرته جامعة الشارقة أن كوبرنيكوس قد يكون استلهم من نموذج ابن الشاطر، عالم الفلك والرياضيات العربي الذي عاش في القرن الرابع عشر، أي قبله بقرنين تقريباً، مشيراً إلى أن انتقال المعرفة العلمية من العالم الإسلامي إلى أوروبا ربما كان له دور أساسي في تكوين نموذج كوبرنيكوس.

نقد نموذج بطليموس الكوني

افترض النموذج الجيولوجي لبطليموس وأرسطو، الذي سيطر على علم الفلك في العصور الوسطى، أن الأجرام السماوية تدور حول الأرض في مدارات دائرية معقدة. صُمِّمت هذه المدارات الدائرية لتفسير الحركات التراجعية المرصودة للكواكب، مثل المريخ أو المشتري، والتي تبدو كأنها تتحرك للخلف في مساراتها عبر السماء، كما تُرصد من الأرض. 

على الرغم من التعقيد الرياضي في نموذج بطليموس، فإنه لم يعكس بالضرورة الواقع الفيزيائي، بل كان أداة لملاءمة الأرصاد الفلكية. 

في البحث الجديد الذي يُمثّل أطروحة دكتوراة للباحثة سلامة المنصوري، ونشره موقع جامعة الشارقة لاحقاً، حلّلت المنصوري كتابات كوبرنيكوس "حول دورات الأجرام السماوية" (De revolutionibus orbium coelestium)، وابن الشاطر "نهاية السول في تصحيح الأصول"، مركزة على الأسس الرياضية والرصدية لأعمال كلٍّ من الفلكيين، لمعرفة أين يتفقان ويختلفان في عرض نظرياتهما على الرغم من الفجوة التاريخية بينهما التي تزيد على 200 عام.

وفقاً للباحثة، قدمت أطروحة ابن الشاطر، وهو عالم رياضيات وفلك عمل مُوقِّتاً للجامع الأموي في دمشق، تصحيحاتٍ رائدةً للأخطاء في مدارات الكواكب التي اقترحها نموذج بطليموس، مستخدماً تقنيات رياضية مبتكرة.

تقول المنصوري: "كان ابن الشاطر أول فلكي نجح في تحدي النظام الكوني البطلمي للكواكب التي تدور حول الأرض، وصحح أخطاء النظرية قبل قرنين تقريباً من كوبرنيكوس"، وتتابع: "كان ابن الشاطر رائداً في تطوير نموذج الكواكب وتصحيح أخطاء بطليموس.. وقد مهّدت أعماله الطريق لتطورات مستقبلية في علم الفلك، بما فيها نموذج كوبرنيكوس لمركزية الشمس".

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة من جامعة الشارقة تسلط الضوء على أهمية مؤلفات ابن الهيثم في الفيزياء الحديثة

القرابة الفكرية بين العالمين الفلكيين

كشفت الدراسة كيف أن نموذج ابن الشاطر، المُصمّم لتصحيح عيوب نظام بطليموس لمركزية الأرض، له أوجه تشابه كبيرة مع نظرية كوبرنيكوس لمركزية الشمس.

إذ بينما وضع نموذج كوبرنيكوس الشمس في المركز مع دوران الأرض والكواكب الأخرى حولها، استخدم ابن الشاطر الأرض في المركز، لكنهما استخدما تقنيات رياضية مماثلة لوصف حركات الكواكب، ومن أهم نقاط الاتفاق الرئيسية:

استخدام أفلاك التدوير

في نموذجه الجغرافي، استخدم بطليموس مفهوم خط الإكوينت (Equant) لشرح الحركات غير المنتظمة للكواكب (مثل ظاهرة الحركة التراجعية أو التباطؤ والتسارع الظاهري)، وهو نقطة افتراضية تقع بعيداً عن مركز الدائرة التي تمثّل مدار الكوكب. وفقاً لهذا النموذج، لا يدور الكوكب حول الأرض بسرعة منتظمة، بل يبدو أن مركز "الدائرة الصغرى" يتحرك بشكلٍ منتظم حول "خط الإكوينت" وليس حول الأرض مباشرة أو مركز المدار. 

لاحقاً، اعتبر كلٌّ من ابن الشاطر وكوبرنيكوس خط الإكوينت أداة غير طبيعية وغير متوافقة مع المبدأ القديم للحركات المنتظمة في الدوائر، واستبدلاه بحركات دائرية إضافية، ما أدّى إلى تحقيق حركة موحدة دون نقطة مرجعية اصطناعية.

اقرأ أيضاً: اليراعات الوامضة تحل لغزاً بحث عنه علماء الرياضيات منذ زمن طويل

تطبيق مزدوجة الطوسي

استخدم كلا الفلكيين آلية "مزدوجة الطوسي" لتحسين نماذجهما لحركات الكواكب، وهي أداة رياضية ابتكرها الباحث "ناصر الدين الطوسي"، والتي تُحوّل الحركة الدائرية إلى تذبذب خطي. 

تصحيحات حركة القمر

بالغ نموذج بطليموس في تقدير اختلافات مسافة القمر، مقدّراً إياها بضعف ما يُرصد، لكن نموذج كوبرنيكوس القمري في كتابه "حول دورات الأجرام السماوية"، ونموذج ابن الشاطر القمري، قللا من تذبذب المسافة القمرية إلى نطاق أكثر دقة، بالاعتماد على هياكل هندسية متماثلة.

قياس موقع الشمس بالنسبة للأرض

قدّم النموذج الشمسي لابن الشاطر تعديلات على انحراف مدار الشمس، ما قلّل الأخطاء في التنبؤ بحركة الشمس مقارنة بالنماذج السابقة مثل نموذج بطليموس. تشابهت هذه التحسينات إلى حد كبير مع حسابات كوبرنيكوس الشمسية، ما قد يشير إلى أن كوبرنيكوس ربما استعان بجداول ابن الشاطر العددية أو تقنياته الرياضية، مُكيّفاً إياها لتتناسب مع نظامه لمركزية الشمس.

دور ابن الشاطر في تاريخ علم الفلك

أكد الأستاذ مشهور الوردات، أستاذ الفيزياء الفلكية بأكاديمية الشارقة لعلوم وتكنولوجيا الفضاء والفلك (Saasst)، وجود أطروحات ابن الشاطر باللغة العربية في الأرشيفات الأوروبية، بما فيها كراكوف والفاتيكان، حيث أجرى كوبرنيكوس أبحاثه. ورغم كتابتها باللغة العربية، فإن وجود هذه النصوص بالقرب من كوبرنيكوس يُثير تساؤلات مُلحّة حول التبادل الفكري بين الثقافات، حيث تعتقد سلامة المنصوري أنه على الرغم من عدم وجود دليل قاطع على أن كوبرنيكوس قرأ أعمال ابن الشاطر مباشرةً، فإن التشابه القوي بين نماذج الكواكب التي وضعها ابن الشاطر وكوبرنيكوس، وخاصة تلك المتعلقة بمدارات عطارد والقمر، تشير إلى أنه من المرجح أن يكون قد اطلع على هذه الأفكار من خلال ترجمة النصوص العربية إلى اللاتينية.

اقرأ أيضاً: باحثون من جامعة الشارقة يطورون علاجاً للسرطان بالاعتماد على الجسيمات النانوية المعدنية

دور العصر الذهبي الإسلامي في علم الفلك: دعوة لإعادة كتابة التاريخ

على الرغم من أن ابن الشاطر ظل ملتزماً بنموذج مركزية الأرض، فإن نتائج هذا البحث تتحدى الرواية الأوروبية التقليدية التي تصور النموذج الكوني الشمسي على أنه إنجاز أوروبي فحسب. وبدلاً من ذلك، يُبرز الدور المحوري للعصر الذهبي الإسلامي في توفير الأسس الرياضية والرصدية للتقدم في علم الفلك، ما ينبغي له أن يدفع المؤرخين إلى إعادة تقييم تاريخ علم الفلك، وتحديث مناهج العلوم لتعكس تاريخاً أكثر شمولاً يعترف بمساهمات العلماء العرب مثل ابن الشاطر الذي صحّح عمله عيوب النموذج البطلمي قبل قرنين من كوبرنيكوس.

باختصار، توضّح الدراسة أن فضل ابن الشاطر على كوبرنيكوس لا يمكن إنكاره، مع وجود أدلة تشير إلى أن كوبرنيكوس ربما يكون قد طوّر أساليب ابن الشاطر العددية وحساباته الشمسية لتتلاءم مع نظام مركزية الشمس، ما يدل على قرابة فكرية راسخة لم يستطع قرنان من الانفصال محوها.

المحتوى محمي