كيف يحمل الإسلام والغرب وجهات نظر متباينة حول المعرفة؟ عالم يجيب

4 دقيقة
كيف يحمل الإسلام والغرب وجهات نظر متباينة حول المعرفة؟ عالم يجيب
حقوق الصورة: بوبيولار ساينس العربية. تصميم: عبدالله بليد.

تُعد كلمة "knowledge" الترجمة المباشرة بالإنجليزية للكلمة العربية "علم"، غير أن التسمية العربية تحمل معاني تتجاوز ما كانت تعنيه المعرفة (knowledge) بالنسبة إلى الفلاسفة والعلماء من أمثال أفلاطون وفيثاغورس وإقليدس في العصور القديمة، أو بالنسبة إلى علماء أوروبا في عصر النهضة في القرن السادس عشر، مثل غاليليو وكيبلر.

ثمة فجوة تمتد إلى نحو ألف عام في تاريخ العلم بين بداياته في العصور اليونانية القديمة، وأيام عصر النهضة الأوروبية. وغالباً ما يُشار إلى هذه الألفية باسم العصور المظلمة، إذ انطفأت خلالها شعلة العلم في أوروبا لكنها بقيت تنشر النور في الأراضي الخاضعة للإمبراطورية العربية والإسلامية.

يستمد مفهوم المعرفة -الذي تعبر عنه كلمة "knowledge"- معانيه من التفسيرات التي اكتسبتها هذه الكلمة في العصور اليونانية القديمة وعصر النهضة، كما يشير الأستاذ الفخري المختص بالفكر الإسلامي بجامعة ابن خلدون في إسطنبول، ألب أرسلان أتشك غينتش، ومؤلف كتاب "التراث العلمي الإسلامي عبر التاريخ" (Islamic scientific tradition in history)، الذي يتحدث فيه عن الازدهار الفكري الذي شهده العالم الإسلامي خلال العصر الذهبي للإسلام، خصوصاً من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر.

أطباق أو أقراص إضافية اخترعها العلماء العرب. وقد كانوا يستخدمونها بوصفها أدوات مُلحَقة يضعونها في الأجهزة الفلكية مثل الإسطرلاب لمنحه القدرة على إنجاز وظائف إضافية. حقوق التأليف والنشر: متحف الفن الإسلامي، الدوحة. (SI.5.1999)

قال الأستاذ أتشك غينتش، الذي كرمته جلالة ملكة ماليزيا رجا زاريث صوفيا مؤخراً بكرسي السيد محمد نقيب العطاس للفكر الإسلامي المرموقة: "لا يضاهي أي معنى من معاني كلمة ’knowledge‘ الإنجليزية كلمة ’علم‘ العربية من حيث عمق المعنى والانتشار الواسع لاستخدامها. لم يبقَ أي مجال من مجالات الحياة الفكرية الإسلامية، أو الدينية والسياسية، أو حتى الحياة اليومية للمسلم العادي، بمنأى عن التوجه السائد تجاه ’المعرفة‘ باعتبارها جانباً يتمتع بقيمة عليا بالنسبة إلى المسلمين".

طرح الأستاذ أتشك غينتش تعليقاته هذه خلال محاضرة ألقاها في الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة في أواخر شهر شباط/فبراير من عام 2025 بمناسبة إطلاق النسخة العربية من كتابه برعاية معهد الشارقة للتراث ومؤسسة الشارقة الدولية لتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين (SIFHAMS)، وهي مركز بحثي مرتبط بجامعة الشارقة.

يتناول كتاب الأستاذ أتشك غينتش، المترجم إلى لغات أخرى عديدة إلى جانب العربية، كيف كان تطور العلم في السياق الإسلامي متجذراً بعمق في الأفكار الميتافيزيقية والمعرفية الإسلامية، مثل مفهوم "التوحيد" (أي وحدانية الله سبحانه وتعالى) وتكامل المعرفة الإلهية مع المساعي الفكرية البشرية. يُبرز هذا المنظور عمل الأستاذ أتشك غينتش، إذ يضع العلم الإسلامي في إطار فلسفي ولاهوتي أوسع بدلاً من التركيز على الإنجازات العملية والتجريبية فحسب، كما ينص عليه المفهوم الغربي للمعرفة.

كتب الأستاذ أتشك غينتش في أحد عروضه التقديمية الذي يضم 35 شريحة باستخدام برنامج باوربوينت (PowePoint) يقول: "إن مفهوم العلم ‘knowledge’ في الإسلام في العصور الوسطى هو أن ’العلم‘ هو الإسلام، حتى وإن تردد علماء الدين في قبول صحة هذه المعادلة من الناحية العملية. ويمثل نقاشهم المحتدم حول هذا المفهوم دليلاً على أهميته الجوهرية بالنسبة إلى الإسلام".

يرى الأستاذ أتشك غينتش أن المفهوم الغربي للمعرفة كان مختلفاً عن مفهوم "العلم" الذي أرسى دعائم العلوم والمعارف الواسعة والمزدهرة في العالم الإسلامي. فحقبة الإسلام في العصور الوسطى هي الفترة التي أسست فيها السلالات الحاكمة الأموية والعباسية مراكز للتعلم في إمبراطوريتيهما المتراميتي الأطراف، وذلك في مدن مثل دمشق والقاهرة وسمرقند وغرناطة، وخصوصاً في بغداد، التي كانت آنذاك مقراً لأحد أعظم مراكز التعليم في العالم، بيت الحكمة. وبينما كانت أوروبا تشهد عصراً من التخلف خلال القرون الوسطى، كان العالم الإسلامي ينعم بعصره الذهبي، حيث كانت اللغة العربية هي اللغة العالمية المشتركة للتواصل في مجالات المعارف والعلوم والاكتشافات المزدهرة.

قدم الأستاذ أتشك غينتش في محاضرته دراسة لكلمة "علم" العربية، موضحاً أن الكلمة المكافئة الإنجليزية "knowledge" لا تشكل التمثيل الصحيح للمحتوى الديني والثقافي والموثق للوقائع، بل وحتى العاطفي، الذي أضفاه العلماء المسلمون على كلمة "علم".

يستند التراث العلمي الإسلامي إلى الكتاب المقدس لدى المسلمين، القرآن الكريم، وإلى ذكر مصطلح "علم" 25 مرة فيه، بالإضافة إلى استخداماته المختلفة. حيث قال الأستاذ أتشك غينتش: "يعتمد التصنيف المعياري للمعرفة في الإسلام على القرآن الكريم، ولهذا يجب أن نبدأ دراستنا من هذه النقطة"، مؤكداً أن القرآن الكريم يستخدم كلمة "علم" وفق أربعة معانٍ أو تصنيفات أساسية توفر لنا "فهماً معيارياً للمعرفة في الحضارة الإسلامية".

وفقاً للأستاذ أتشك غينتش، يمكن تصنيف المعرفة في الحضارة الإسلامية ضمن أربع فئات دلالية أو تفسيرات مفاهيمية رئيسية، وهي المعرفة المنزهة المكتسبة من الوحي الإلهي، والمعرفة المستنيرة بمساعدة النور الإلهي، والمعرفة العلمية أو العلم ببساطة، والمعرفة الشائعة في الحياة اليومية. حيث قال الأستاذ أتشك غينتش: "إذا اعتبرنا أن هذه التصنيفات تمثل نقطة انطلاق أولية، سنتمكن من تقييم مفهوم المعرفة في الحضارة الإسلامية". ويضيف: "إذا لم تكن المعرفة موجَّهة وفق هذه الفئات المعرفية، فقد تؤدي إلى معرفة خبيثة أو إلى الجهل"، حيث تمثل المعرفة الخبيثة أو الجهل الفئة الخامسة من "العلم" في الحضارة الإسلامية.

هذا هو سبب اختلاف المفهوم الغربي للمعرفة عن المفهوم الشائع في الحضارة الإسلامية، كما أضاف الأستاذ أتشك غينتش، الذي أشار إلى أن تفسير هذا المفهوم في الغرب اعتمد على الفلاسفة اليونانيين، خصوصاً أرسطو، الذي صنف المعرفة ضمن فئتين: المعرفة الشائعة في الحياة اليومية، والمعرفة العلمية.

قال الأستاذ أتشك غينتش إن هذا المفهوم وصفي، حيث يركز بصورة رئيسية على "المعرفة (έπιστήμη) العلمية أو الفلسفية التي تعنى بالأسباب (άρχαί)، المنهجية، والبرهان (άπόδειξις)، والمصدر، أي العلة (νοϋς)".

الجسم الرئيسي لأداة فلكية تعود إلى القرن العاشر وتسمى الأسطرلاب، أو "ماتر" (matter) وهي كلمة تعود إلى اللغة اللاتينية وتعني "الأم". طور العلماء المسلمون الأسطرلاب الذي كان الأداة الرئيسية المستخدمة لضبط الوقت، حيث كانت تستخدم في تحديد الأوقات المختلفة للصلوات الإسلامية الخمس، وقياس ارتفاعات أسطع النجوم في السماء وتحديد مواضعها خلال أوقات السنة المختلفة. حقوق التأليف والنشر: متحف الفن الإسلامي، الدوحة. (SI.5.1999)

 

لماذا اكتفى أرسطو بتوصيف المعرفة ولم يتحدث عما يمكن أن نفعله بها في حياتنا اليومية؟ طرح الأستاذ أتشك غينتش هذا السؤال في محاضرته، حيث شدد على أنه يمكن تعريف مفهوم المعرفة في الحضارة الإسلامية بأنه "تصور إسلامي للعالم، حيث يقدمه العلماء للمسلمين بأسلوب يرتكز في جوهره إلى العلم القرآني. ولهذا السبب، تحول المجتمع الإسلامي في مراحله الأولى إلى مجتمع معرفي".

وأضاف قائلاً: "لم يكن التركيز على المعرفة في الإسلام خالياً من الغايات، فقد كانت المعرفة غنية بالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية. إن هذا النوع من المعرفة لا يفضي فقط إلى السعادة الدنيوية في هذا العالم، فقبل كل شيء، كان الرضا الإلهي هو المعيار الأخلاقي الأسمى".

اعتبر الأستاذ أتشك غينتش أن طريقته تمثل "معالجة علمية" لتاريخ العلم في الحضارة الإسلامية، حيث قال: "يهدف هذا المنهج العلمي إلى تسليط الضوء على الدور المحوري الذي أداه العلماء المسلمون في الحفاظ على المعرفة العلمية القديمة لليونايين والهنود والفرس وترجمتها وتطويرها، وكيف أسهموا لاحقاً في مجالات مثل الفلك والرياضيات والكيمياء والطب والفلسفة".

من أهم نقاط القوة في أسلوب الأستاذ أتشك غينتش في دراسة المعرفة بوصفها مفهوماً علمياً، تأكيده الترابط بين العلم والدين والفلسفة في العالم الإسلامي، على نحو يعارض السردية الغربية التقليدية، التي تفصل بين هذه المجالات.

المحتوى محمي