نجاح تفاعل الاندماج النووي في مفاعل جيت الأوروبي: خطوة صغيرة أم قفزة كبيرة؟

تفاعل الاندماج النووي: الحلم بطاقة نظيفة وغير محدودة بات قريباً
حقوق الصورة: شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لعقود من الزمن، سعى العلماء لإنجاز تفاعل الاندماج النووي. هو حلمٌ في حال تحققه سنحصل على مصدر نظيف وغير محدود للطاقة، لذا حاول العلماء من كل مكان دراسة هذه التفاعل وفهمه، والأهم من ذلك، إنجازه لمدّ العالم باحتياجاته من الطاقة. اليوم يخبرنا مفاعل الاندماج النووي التجريبي والمعروف بـ “مفاعل الطاقة الأوروبي المشترك اختصاراً “جيت”” (JET) في المملكة المتحدة، أننا أصبحنا على مشارف تحقيق الحلم.

مفاعل جيت: رقم قياسي جديد في الاندماج النووي

في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، استطاع علماء مفاعل الطاقة الأوروبي المشتركة (جيت) في أوكسفورد شاير في المملكة المتحدة، إنتاج 59 ميغا جول من الطاقة لمدة خمس ثوان، وهي أقصى حد تمكنوا من الوصول إليه، وفق ما أعلنه علماء جيت في 9 فبراير/ شباط لعام 2022 على تويتر. وقد استطاعوا توليد أعلى نبضة طاقة مستدامة تم إنشاؤها عن طريق دمج الذرات معاً، أي أكثر بـ 2.5 ضعفاً من آخر تجاربهم الناجحة في عام 1997.

يُعد جيت حالياً أكبر توكاماك في العالم، والتوكوماك جهاز يمتص الحرارة الناتجة عن تفاعل الاندماج النووي ويحولها إلى بخار لإنتاج الكهرباء، بواسطة التوربينات والمولدات.

قال إيان تشابمان، رئيس مركز كولهام لطاقة الاندماج (CCFE) والذي يدير منشأة جيت في بيان: “لقد دفعتنا هذه النتائج البارزة إلى خطوة كبيرة نحو التغلب على أحد أكبر التحديات العلمية والهندسية على الإطلاق”.

أنتج المفاعل النووي طاقة تعادل أربع توربينات للرياح، وهو مستوى جديد فيما يخص الكمية المنتجة. ما يميز هذه التجربة عن تجارب سابقة مماثلة هو أن سبب التوقف بعد خمس ثوان لم يكن بسبب فشل منهجي أو اضطرابات في الوقود، كما حدث في التجارب السابقة، وإنما خوفاً من الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، والذي قد يؤثر على معدات المخبر غير المُجهزة، لذا فإن العلماء يخططون في التجربة القادمة لاستخدام مفاعلات تحتوي على معدات وجهاز تبريد لإطالة مدة تفاعل الاندماج النووي لفترات أطول.

مفاعل جيت السلف المباشر لمفاعل إيتر الدولي

مع هكذا إنجاز يبدو اليوم أن مشروع مفاعل الطاقة الحرارية النووية الدولي (إيتر) ITER، والذي يتم بناؤه حالياً في جنوب فرنسا بمشاركة 35 دولة، وبتكلفة 22 مليار دولار، واعداً أكثر مما مضى.

إذ يعتمد كل من جيت وإيتر على نفس المبدأ والتكنولوجيا، وذات المزيج من الوقود وهو مزيج من الديوتيريوم والتريتيوم، إلا أنه في جيت يُستخدم مغناطيس نحاسي يُسخن بسرعة، ما ينتج عنه نبضات صغيرة للبلازما لا تتجاوز 5 ثوان، لذلك ستستبدل في مفاعل إيتر بمغناطيس فائق التوصيل للحصول على نبضات طاقة أكثر استدامة.

وبذلك، تشكل نتائج مفاعل جيت قاعدة تجريبية متينة، حيث يقول برنارد بيجوت، المدير العام لإيتر: “بالنسبة لمشروع إيتر، فإن نتائج منشأة جيت هي عامل بناء قوي للثقة بأننا نسير على الطريق الصحيح بينما نمضي قدماً نحو إظهار قوة الاندماج الكاملة”.

اقرأ أيضاً: اليد التي شاركت بها الفيزياء الفلكية في صناعة القنبلة النووية

تفاعلات الاندماج النووي: نجوم مصغرة على الأرض

تحدث تفاعلات الاندماج في الشمس والنجوم، بدمج ذرتي هيدروجين لينتج ذرة هيليوم، لذلك لتنفيذها على الأرض لا بد من توفير ظروف مشابهة لها في التطرف من حيث الحرارة والضغط.

في المفاعلات، ينطوي تفاعل الاندماج النووي على دمج نواتي ذرتين من نظائر الهيدروجين، ما ينتج عنه نوى أثقل. بعبارة أخرى، يمكن القول إن تفاعل الاندماج النووي هو تحويل للمادة إلى ضوءٍ وحرارة، وتوليد كميات هائلة من الطاقة دون إنتاج الغازات الدفيئة أو نفايات مشعة طويلة الأمد.

من أجل التغلب على قوى التنافر الكهروستاتيكية بين نواتي الذرتين، والنجاح في دمجهما معاً، يجب توفير درجات حرارية عالية جداً. في الواقع، يجب أن تزيد درجات حرارة التفاعل عن حرارة مركز الشمس بـ 5-10 أضعاف، أي أن تصل إلى 100-150 مليون درجة مئوية، لأن الجسيمات على الأرض أخف كثافة منها في النجوم.

تساعد درجات الحرارة المرتفعة على تجريد الذرات من إلكتروناتها، وتحولها إلى مزيج ساخن من نوى موجبة الشحنة وإلكترونات سالبة الشحنة، أو ما يُعرف بـ “البلازما“. تُعرف البلازما بأنها غاز مشحون وموصل كهربائياً، وهي الحالة الأكثر شيوعاً للمادة في الكون.

من خلال شحنة البلازما يمكن التحكم في حركتها، وذلك بتطبيق مجالات مغناطيسية قوية، وتعدّ هذه الخاصية أساس جهاز توكاماك لتشكيل حلقة دائرية من البلازما وحصرها للوصول إلى شروط الاندماج، وحدوث تفاعل الاندماج بين النوى بأعداد كبيرة، كما في مفاعلي جيت وإيتر، فهما في الأساس توكاماك حلقي (على شكل دونات).

في مفاعل جيت، استُخدم وقود من الديوتيريوم والتريتيوم، وتم تسخينه عبر موجات الراديو التي بلغت استطاعتها 4 ميغاواط، وبحقن شعاع سريع من ذرات الهيدروجين لتحويله إلى بلازما، ثم حُصرت البلازما داخل الفراغ الحلقي لمفاعل جيت بتطبيق مجالات مغناطيسية قوية تصل إلى نحو 4 تسلا، وتيارات بلازما شدتها نحو 5 مليون أمبير.

اقرأ أيضاً: الطريقتان الأفضل وفقاً للفيزيائيين لتوليد الطاقة عبر الاندماج النووي على غرار النجوم 

أرقام قياسية أخرى لتفاعل الاندماج النووي

قبل هذا الإنجاز، كان هناك محاولات وخطى صغيرة في هذا المجال؛ مثل مرفق الإشعال الوطني في الولايات المتحدة الأميركية، والذي استطاع إنتاج 1.3 مليون جول من الطاقة، إلا أنه استمر تسعين جزءاً من تريليون جزء من الثانية.

لاحقاً، استطاعت الصين تحطيم الرقم القياسي الجديد لمفاعل جيت، من خلال “الشمس الاصطناعية”. حيث سخن العلماء حلقة البلازما لدرجة حرارة تفوق حرارة الشمس بخمس مرات (70 مليون درجة مئوية) ولمدة 17 دقيقة، في مفاعل الاندماج النووي التجريبي (توكاماك المتقدم فائق التوصيل) في الصين.

تلت الصين شركة الاندماج النووي توكوماك إنيرجي (Tokamak Energy) في المملكة المتحدة، حيث توصلت لرقم قياسي عالمي جديد من خلال تسخين درجة حرارة البلازما حتى 100 مليون درجة مئوية. حققت شركة توكوماك إنيرجي إنجازها بتكلفة أقل من 70 مليون دولار، وباستخدام “جهاز اندماج أكثر إحكاماً”. 

قد لا تكون المفاعلات التجارية متاحة قبل عقود من الزمن، إلا أن إنجاز منشأة جيت أعاد الثقة بالتكنولوجيا المتقدمة لإنتاج طاقة حرارة الشمس على الأرض ونجاح تفاعل الاندماج النووي كمصدر لا نهائي للطاقة في المستقبل القريب، وحلٍّ لأزمة الطاقة.