كيف تأكل أقل دون الشعور بالحرمان؟

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

مشهدٌ من قصة لن يزعجك أنك لم تقرأ أولها!

استقبل الأستاذُ بطلنا همام في مكتبه كالعادة، بدت سعادة الأستاذ واضحة هذه المرة، بدا همام وكأنه قد خسر بعض الوزن. بادره الأستاذ قائلًا:

ما شاء الله، يبدو أن نصائحي الأخيرة بدأت تثمر!

رد همام:

الحمد لله على كل حال، ما زلنا نتصارع وسنرى من ينتصر!

أين توقفنا في آخر لقاء لنا؟

رد همام بحرج ممزوج بغيظ:

آخر مرة أخبرتني أني أجترّ الطعام مثل الجمل!

ضحك الأستاذ قائلًا:

لقد قلتُ الكثير ولكن يبدو أنك لا تتذكر إلا الكلام الجارح. «اللي على راسه بطحة».

المهم أنك وعدتني أنك ستعرّفني كيف أغيّر ذلك.

صحيح. إذًا سنكمل كلامنا عن الطعام، دعني أسألك: ما السبب الذي يجعلنا نفكر في الأكل باستمرار أو نفقد سيطرتنا على أنفسنا في حضور الطعام؟

لا أعلم. الجوع بلا شك.

كلنا نجوع! ولكن ليس كلنا يتناول الطعام بانفعال. إن هذا سلوك غير طبيعي، سلوك مغاير للنمط البشري السوي في التعامل مع الطعام، هل تظن أن أسدًا يأكل جيفة أو أن غرابًا يصطاد غزالة؟ لماذا سلوك الحيوانات الغذائي متطابق بين الفصيلة الواحدة، بينما نحن البشر متباينون جدًا في تعاملنا مع الطعام، معروف مثلًا أنّ: «الغراب يتبع الجيف، و الصقر لا يقع إلا على الحي، و الأسد لا يأكل البايت».

بدا مقصد الكلام عسيرًا على همام ولكن الأستاذ تابع موضحًا:

كل حيوان له همته وسلوكه وبرمجته الخاصة حين يتعامل مع طعامه، يقولون أن الطبع غلّاب، وحين تتعامل أنت مع الطعام، تلك الأوقات التي يكون طرفي القصة هما «أنت والطعام» فقط، فإن معدتك ليست هي سيدة الموقف هنا، حتى أنه ليس عقلك، إنها الغريزة الدفينة التي تتحكم في سلوكك، إنها الطبع الذي يتحكم في أعمق أعماق عقلك الباطن.

هذا الكلام أعسر من سابقه.

– حسنا سأكف عن هذه التوصيفات وأكلمك بتعبير أكثر سلاسة، سأختصر لك مقصدي، نحن نتوتر حين نتعامل مع الطعام لأننا نتعامل معه بعقلية وطبع «المحروم».

– غريب، لكننا فعليًا لسنا محرومين من الطعام.

– كلام صحيح تمامًا، لكن لا تنس أن البعض يحرم نفسه من الطعام لأجل خسارة الوزن وهذا يرسخ في ذهنه عقلية وغريزة المحروم، هذا المحروم الذي يتعامل بانفعال طاغٍ حين يريد تعويض حرمانه، كما أن بعضنا محروم من أمور أخرى!

– أية أمور؟

-كل الأمور. بعضنا محروم من التقدير أو التعاطف أو الحب أو الاحترام أو الوجاهة، أو تحقيق الذات… إلخ، عندي قاعدة لم يستطع أحد أن يكسرها للآن:

انفعالك في التعامل مع الطعام دليلٌ على أنك تعوّض حرمانًا ما، قد يكون تعويضًا لحرمانك الفعلي من الطعام، وقد يكون تعويضًا لحرمان آخر.

– هذا كلام خطير. كأننا كلنا نعاني من عقد دفينة؟

– ليست كلها ترتقي لتكون عقدة، هي فقط مشكلة منتشرة في عصرنا المشحون بالتوتر، تنشأ من «انعدام الرضا الذاتي»، هل تعلم مثلًا أن هناك نسبة ضخمة جدًا من الموظفين غير راضين عن أعمالهم ووظائفهم، وأن هذا يسبب لهم إحباطًا دفينًا حتى وإن لم يصرحوا بذلك أو يدركوه! هل تعلم ماذا يفعل هؤلاء الموظفون؟ ربما لا شعوريًا؟

– ماذا؟

– إنهم ينفقون كل رواتبهم على كماليات وأشياء غالية الثمن لا تناسب مستواهم المادي، إنهم ينفقون المال «القليل» الذي يكسبونه من وظائف «يكرهونها» في شراء أشياء «لا يحتاجون إليها» لإرضاء أنفسهم، وليشعروا أنهم يحظون بتقديرٍ ما، مثل ما نتناول أحيانًا طعامًا لا نحتاج إليه لإرضاء شيء ما داخلنا، لابد أن تعرف أن الإفراط غير المنطقي في الطعام ومثله الإنفاق هي إحدى أوجه البحث عن الإشباع الغريزي.

– إذا نحن نأكل كثيرًا، وبانفعال، وعنف، لأننا نريد أن نعوّض حرمانًا ما، نريد أن نصل إلى الإشباع؟

– نعم، لكن المشكلة أننا لا نصل ولن نصل إلى ذلك الإشباع، لذا نظل نأكل ونأكل، وحين نملُّ من أكل معين، نبحث عن أكل آخر بشكل مختلف، لقد استغل المسوقون ذلك، وهذا سر تجدد الأطعمة بشكل لا ينقطع. إنهم يعرفون أنك تأكل كثيرًا بسبب الملل، لذا فمهمتم ليست إنتاج طعام أطيب ولا أكثر فائدة، بل إنتاج طعام «أكثر إثارة»!

– لحظة، لماذا قلت إننا لن نصل إلى الإشباع باستخدام الطعام أو الترفيه المماثل له؟

– لأن الطعام يذهب لمعدتك وليس لقلبك! وقلبك الذي يحتاج الغذاء، وغذاء قلبك هو السكينة، لذا مهما استخدمت أشياء مادية لإشباع قلبك، فستظل جائعًا!

– هذا الكلام مرهق.

– أعلم ذلك، لكن لحسن الحظ أن المشكلة هي نفسها جوهر الحل!

-كيف؟

– سيتغير تفكيرك كثيرًا – وسلوكك لاحقًا – بعد معرفة هذا الكلام! إننا بشر مفكرون وواعون، ولسنا حيوانات تحكمها الغرائز فقط، وحين تدرك أنك تأكل بانفعال لأن بعض الأفكار كوّنت لديك غريزة «الحرمان»، سيضايقك ذلك، وستبدأ في محاربة هذه الأفكار وليس محاربة الجوع، ستحاول – لأجل أن تحترم نفسك – أن تفكر في نفسك بشكل أكثر إيجابية وحب، وبالتالي تتخلص – تدريجيًا – من شعور الضحية والمحرومية، وبعدها يصبح التغيير سهلًا. قد يضايقك هذا الوصف، ولكن حين تدرك و«ترى» نهمك غير المبرر بالطعام كدليل على أنك تضع نفسك في مستوى أدنى من المستوى اللائق بالبشر، فستثور على ذلك، لا أحد يحب أن يشبه الغراب!

– وما علاقة الغراب؟

– لماذا يأكل الغراب الجيف في نظرك؟

– لا أعلم.

– لأنه ليس صقرًا، هذه همّته، هذه برمجة عقلة الدفينة، هو لا يجسر أن يقع على كائن حي مثل ما يفعل الصقر، لذا فإنه يرضى بالجيف، حين تعلم أنك تظل تأكل بلا متعة لأن عقلك يخبرك أنك لن تستمتع بأي طعام، وأنك لا يمكن أن تصل إلى إشباع حقيقي دون أن تتحول لكائن مجترّ فإن هذا سيستفزك. لأن تقديم «الطعام» للقلب مثل تقديم الجيفة لصقر، هذا ليس غذاءه ولا مقامه، هذه ليست طباع بشر أسوياء، إن الأسوياء يشبعون أرواحهم وقلوبهم بقيم مطلقة معنوية، وأنت تشبع روحك بالطعام. لا أظن أن أحدنا يحب هذا. كما لابد أن يتضايق الصقر لو اضطرته همته إلى تناول الجيف! أراهن أنك الآن تشعر بالضيق.

– صحيح.

– هذه هي الخطوة الأولى أن تؤكد لنفسك أنك أرقى وأنضج من أن تشبع روحك بالأشياء المادية، وهذا سر التصالح مع الطعام الذي ظللت أطلبه منك.

– لكن هذا ليس سهلًا.

– وأنت لست خاسرًا فاشلًا، فقط فكر في الأشياء التي تعني لك قيمة حقيقية، كف عن التفكير أنك بلا موهبة ولا ميزة، كف عن التفكير فيما ينقصك وتأمّل فيما تمتلكه بالفعل! لا أدّعي أن هذا سهلًا، لكن حين تضع يديك على الحل، وتتحدى نفسك في التفكير في أشياء ترفع معنوياتك فستنجح، فقط قاوم تفكيرك المحبط، وسيضعفُ ذلك التفكير السلبي مع الوقت. تذكّر القصة التي حكيتها لك سابقًا: الذئب الذي ينتصر هوالذئب الذي تطعمه.

– ماذا سيحدث حين أتصالح مع نفسي ومن ثمّ مع الطعام.

– ستحل جميع مشاكلك مع الطعام، ستأكل أقل دون أن تشعر بالحرمان، ستستمتع بأي طعام تتناوله، وليس “طعامًا معينًا”، ستبدأ في وضع الطعام في مكانه المحدود اللائق به. إن روحك مشبّعة بقيمك وليس بوجبة من مطعم سريع! كان كاتبي المفضل يقول: “تجويف المعدة والقلب متحدان”. حين يشبع قلبك ستكفيك أقل وجبة. أكرر لك، هذا لا يحدث في يوم وليلة، وأيضًا حين يحدث لن تصل فيه للكمال، نحن بشر نضعف أمام الضغوط، ونستسلم للإحباط، المهم أن يكون الإحباط هو الطارئ وليس وصفًا دائمًا لك.

– حقًا أريد أن أتخيل كيف يتعامل هؤلاء المتصالحون مع طعامهم. كلامك السابق عن الفرنسيين محزن.

– ربما تحتاج أن تتعلم بروتوكلات الطعام.

– كيف تبدو هذه البروتوكلات؟

-سأحدثك عنها في لقائنا القادم، هل ستأتي أم مللت من كلامي عن الصقور والغربان؟

يرد همام مبتسمًا:

-أخبرتك سابقًا أني أظن أنك تعرف كل الأشياء. هل سآتي؟

يرد الأستاذ ببسمة باهتة:

-سأكون في انتظارك كالعادة.

يغادر همام مكتب الأستاذ مرهقًا.

انتهى المشهد.