النسيان قد يشير إلى أن ذاكرتك تعمل بالشكل الأمثل

كفاءة الذاكرة البشرية
حقوق الصورة: فيليس ستوديو/ شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما سُئلت منذ أيام عن مخبز بالقرب من بيتي، أجبت بأني تذوّقت مؤخراً بسكويت رقائق الشوكولاتة اللذيذة الذي حُضّر هناك. صححت زوجتي كلامي، قائلة إن البسكويت الذي تناولته كان بطعم الزبيب ودقيق الشوفان.

لماذا ارتكبت هذا الخطأ في التذكّر؟ هل هذه علامة على الخرف الوشيك؟ هل يجب علي أن اتصل بطبيبي؟

أم أن نسيان تفاصيل عن الحلويات هو أمر جيد، نظراً لأن الحياة اليومية مملوءة بعدد هائل من التفاصيل، أكبر من أن يستطيع دماغ البشر محدود القدرات تذكّره؟

أنا عالم معرفي وقد درست قدرة البشر على الإدراك الحسي والمعرفي لأكثر من 30 عاماً. نطوّر أنا وزملائي طرقاً نظرية وتجريبية جديدة لاستكشاف هذا النوع من الأخطاء في الذاكرة. هل تعتبر هذه الأخطاء سيئة وناتجة عن معالجة عقلية معيوبة؟ أم، على عكس ما هو متوقع، قد تكون شيئاً جيداً، أي أنها آثار جانبية لجهاز إدراكي له قدرة محدودة ولكن يعمل بكفاءة؟ نميل لأن نجيب أن الخيار الثاني هو الأقرب للصحة، أي أن أخطاء التذكّر قد تشير في الواقع إلى أن الجهاز الإدراكي البشري يعمل على النحو الأمثل، أو بشكل عقلاني.

هل البشر عقلانيون؟

تساءل علماء الإدراك لعقود فيما إذا كان الإدراك البشري عقلانياً تماماً. في ستينيات القرن العشرين، أجرى عالما النفس «دانييل كانمان» و«آموس تفيرسكي» بحثاً رائداً حول هذا الموضوع، واستنتجوا أن البشر يستخدمون عادة آليات عقلية «سريعة واحتيالية»، تسمى «الاستدلال».

مثلاً، عندما سُئل الناس ما إذا كانت اللغة الإنجليزية تحتوي على كلمات تبدأ بحرف «كاي» أكثر من الكلمات التي يكون فيها هذا الحرف هو الثالث، أجاب أغلبهم أن عدد الكلمات التي تبدأ بحرف كاي أكبر. حاجج كانمان وتفيرسكي أن البشر يصلون إلى هذا الاستنتاج عن طريق التفكير السريع بالكلمات التي تبدأ بحرف كاي، والكلمات التي يكون هذا الحرف فيها هو الثالث، ثم ملاحظة أنهم يستطيعون تذكّر عدد أكبر من تلك التي تبدأ بحرف كاي. أشار الباحثان إلى هذه الآلية بمصطلح «إرشادية التوفر»- الأشياء التي يمكن تذكّرها بسهولة تؤثر على الاستنتاج.

على الرغم من أن آلية الاستدلال تؤدي إلى نتائج جيدة، إلا أنها لا تفعل ذلك دائماً. بالتالي، حاجج الباحثان بأن الإدراك البشري لا يعمل على النحو الأمثل. لا شك بأن اللغة الإنجليزية تحتوي على عدد أكبر بكثير من الكلمات التي يكون فيها حرف كاي هو الحرف الثالث مقارنة بتلك التي تبدأ بحرف كاي. 

اقرأ أيضاً: ما هو السبب الذي يجعل دماغك ينسى كلمات السر الجديدة؟

دون المستوى الأمثل أم أفضل ما قد يكون؟

في ثمانينيات القرن الماضي، بدأت تظهر أبحاث في الأدبيات العلمية تبين أن الإدراك  البشري الحسي والمعرفي قد يعمل على النحو الأمثل في أغلب الأحيان. مثلاً، وجدت العديد من الدراسات أن البشر يركّبون المعلومات باستخدام عدد من الحواس، مثل البصر والسمع، أو البصر واللمس، بطريقة تعتبر مثالية إحصائياً، على الرغم من أنها لا تخلو من العيوب.

كفاءة الذاكرة البشرية
إلى أي مدى يمكنك تقدير سرعة هذه الكرة وهي تندفع نحوك؟ تي دي يو بي فوتو/ مومينت/ غيتي إيميدجيز.

ربما ما هو أكثر أهمية أن الأبحاث بينت أن بعض الحالات التي يبدو فيها الأداء المعرفي ليس مثالياً هي في الواقع عكس ذلك. مثلاً، كان من المعروف أن الأشخاص يسيئون تقدير سرعة جسم متحرك. لذا، افترض العلماء أن الإدراك البصري الحركي البشري لا يعمل بشكل مثالي.

لكن بينت أبحاث حديثة أن التفسير أو الإدراك الحسي الأمثل إحصائياً يمزج بين المعلومات البصرية المتعلقة بسرعة الجسم مع المعلومة التي تنص على أن معظم الأجسام في العالم تميل لأن تكون ساكنة أو متحركة ببطء. وأيضاً، ينتج عن هذا التفسير المثالي سوء تقدير لسرعة الجسم عندما تكون المعلومات البصرية غير واضحة.

نظراً لأن التفسيرات المثالية نظرياً وتلك التي يقوم بها البشر في الواقع تنتج الأخطاء في ظروف متشابهة، من المحتمل أن يكون ارتكاب هذه الأخطاء حتمياً عندما تكون المعلومات البصرية غير مثالية، ويُحتمل أيضاً أن البشر يدركون سرعات حركة الأجسام بأفضل طريقة ممكنة.

خلص العلماء إلى نتائج تتعلق بهذا الموضوع عند دراسة الإدراك المعرفي عند البشر. يرتكب البشر الأخطاء عادة عند محاولة تذكّر الأمور أو التفكير أو اتخاذ القرارات أو التخطيط أو التنفيذ، وخصوصاً عندما تكون المعلومات مبهمة أو غير مؤكدة. كما هو الحال في مثال إدراك سرعة جسم متحرك، تكون الآلية المثلى إحصائياً لأداء المهام المعرفية هي المزج بين المعلومات، مثل الأمور التي رصدها المراقب أو اختبرها، والمعارف العامة عن طبيعة العالم. وجد الباحثون أن الأخطاء التي تنتج عن الآليات المثالية، وهي أخطاء حتمية سببها الغموض أو عدم التيقّن، تشبه الأخطاء التي يرتكبها البشر بالفعل، مما يشير إلى احتمالية أن البشر يؤدّون المهام المعرفية بأفضل طريقة ممكنة.

تتزايد الأدلة التي تبين أن ارتكاب الأخطاء هو أمر حتمي عند الإدراك والتفكير في ظل معلومات غامضة وغير مؤكدة. إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فهذا يعني أن ارتكاب الأخطاء لا يعني بالضرورة أن عملية المعالجة العقلية معيوبة. في الواقع، قد تكون الآليات الإدراكية الحسية والمعرفية لدى البشر تعمل بشكل جيد جداً.

اقرأ أيضاً: من الأطعمة إلى الألعاب: إليك أبرز الطرق لتقوية الذاكرة

دماغك مُقيّد

غالباً ما تكون هناك قيود على السلوك العقلي البشري. بعض هذه القيود داخلي: لدى الأشخاص قدرات محدودة على الانتباه، أي، لا يمكنك أن تعير انتباهك لكل شيء في نفس الوقت. كما أن للبشر ذاكرة ذات سعة محدودة، أي، لا يمكنك أن تتذكر كل شيء بالتفاصيل الكاملة. بعض القيود الأخرى خارجي، مثل الحاجة للتفكير والتصرف بسرعة. نظراً لوجود هذه القيود، قد لا يستطيع البشر إنجاز عمليتي الإدراك الحسي والمعرفي على النحو الأمثل دائماً.

ولكن، وهذا أمر مهم للغاية، على الرغم من أن الإدراك الحسي والإدراك المعرفي قد لا يكونا مثاليين بسبب وجود القيود، إلا أنهما يمكن أن يكونا على أكبر قدر ممكن من المثالية نظراً لوجود القيود.

خذ بعين الاعتبار مسألة يتطلب حلها التفكير بعدّة عوامل معاً. إذا لم تستطع التفكير بكل العوامل معاً بسبب محدودية قدرتك على الانتباه، فلن تستطيع أن تفكّر بالحل الأمثل. ولكن إذا استطعت أن تفكر بأكبر عدد ممكن من العوامل التي تستطيع التفكير بها معاً، وإذا كانت هذه العوامل هي الأهم لحل هذه المسألة، فستكون قادراً على إيجاد أفضل حل يمكنك إيجاده نظراً لقدرتك المحدودة على الانتباه.

كفاءة الذاكرة البشرية
مثل درج الملفات، للدماغ البشري حد لكمية المعلومات التي يستطيع تخزينها. ستيفاني فيليبس/ إي+/ غيتي إيميدجيز.

اقرأ أيضاً: الذاكرة العضلية هي أمر حقيقي، ولكنها على الأرجح ليست كما تعتقد

حدود الذاكرة

يُدعى هذا النهج أحياناً، والذي يركز على «المثالية المقيّدة»، بالنهج «العقلاني المعتمد على الموارد». طورت مع زملائي نهجاً عقلانياً معتمداً على الموارد لفهم الذاكرة البشرية. ننظر إلى الذاكرة ضمن هذه المقاربة على أنها نوع من قنوات الاتصال.

عندما تخزّن معلومة في ذاكرتك، يكون الأمر وكأنك ترسل رسالة إلى نفسك المستقبلية. ولكن هذه القناة لها قدرة محدودة، وبالتالي فهي لا تستطيع نقل كل تفاصيل الرسالة. النتيجة هي أن الرسائل التي نسترجعها من الذاكرة لاحقاً قد لا تكون مطابقة لتلك التي خزّناها من قبل. هذا السبب الذي يجعل الأخطاء في الذاكرة تقع.

إذا لم تستطع ذاكرتك الاحتفاظ بكل التفاصيل المخزّنة فيها نتيجة لسعتها المحدودة، سيكون من الحكمة إذن أن تضمن أن التفاصيل التي ستبقى مخزّنة هي التفاصيل المهمة فقط. أي يجب أن تكون الذاكرة بأفضل شكل لها ضمن الظروف الصعبة.

وجد الباحثون أن البشر يميلون إلى أن يتذكّروا التفاصيل المتعلقة بالمهمة التي ينجزوها، وأن ينسوا تلك التي لا تتعلق بالمهمة. بالإضافة إلى ذلك، يميل البشر إلى تذكّر الفكرة العامة عن العنصر الذي خزّنوه في ذاكرتهم، بينما ينسون التفاصيل الدقيقة المتعلقة به. عندما يحدث ذلك، يميل البشر عادة إلى أن يملأوا الفراغات بأكثر التفاصيل تكراراً أو شيوعاً. أي أنه بمعنى من المعاني، فإن استخدام التفاصيل الشائعة عندما تكون التفاصيل الحقيقية مفقودة هو شكل من أشكال  الاستدلال، أي أنه آلية سريعة احتيالية تكون عملية عادة، ولكنها تفشل أحياناً.

لماذا تذكّرت أني تناولت بسكويت رقائق الشوكولاتة على الرغم من أني تناولت تلك التي تحتوي على دقيق الشوفان والزبيب؟ لأني أتذكّر فكرة عامة عن تجربتي، وهي تناول البسكويت، ولكني نسيت التفاصيل الدقيقة، وملأ دماغي هذه الفراغات بتفاصيل شائعة، مثل البسكويت برقائق الشوكولاتة. بتعبير آخر، يبين هذا الخطأ أن ذاكرتي تعمل بأفضل شكل ممكن نظراً للقيود الموجودة عليها، وهذا أمر جيد دون شك.