لمَ نحن بحاجةٍ إلى وجود ميكروبات داخل وخارج أجسامنا لكي نعيش حياة صحية؟

لمَ نحن بحاجةٍ إلى وجود ميكروبات داخل وخارج أجسامنا لكي نعيش حياة صحية؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Innovative Creation
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تبدأ الميكروبات النافعة أو ما تُسمى بـ “ميكروبيوم” باستعمار جلدنا وأجهزتنا منذ لحظة الولادة مهما كان نوع العمل التوليدي، فإن تمت الولادة بالطريق المهبلي ستبدأ الميكروبات المتعايشة هناك في استعمار جلد وأمعاء حديث الولادة. وإن تمت الولادة قيصرياً، عندئذ ستبدأ الميكروبات بالانتقال لحظة ملامسة حديث الولادة لجلد الأم.

بشكل عام، تتعلق بعض الاختلافات في حصيلة الميكروبات لدى الطفل بنوع الولادة، وعلى الرغم من أن هذه الاختلافات ضئيلة إلا أنها تبقى واضحة حتى يبلغ الطفل عمر 12 إلى 24 شهراً، لتتبدل بعد ذلك نظراً لتغير غذاء الطفل والبيئة التي يتفاعل معها.

أين يوجد الميكروبيوم؟

تعيش هذه الميكروبات على سطح الجلد وداخل تجويف الأنف والحلق والفم والمهبل، إلا أن معظمها يتواجد في الأمعاء إذ يوجد 1000 نوع مختلف منها هناك. في الحالة الطبيعية، لا يتسبب هذا النوع من الميكروبات في حدوث الإنتانات، بل على العكس، تساهم هذه الكائنات الدقيقة في الحفاظ على توازن العوامل المفيدة والضارة في الأمعاء وفي البيئة الداخلية للجسم بشكل عام.

لا تسبب هذه الميكروبات حدوث أي ضرر عادةً، إلا أنه عندما يضطرب توازن العوامل النافعة والضارة، والذي يحصل عند الاعتماد على الصادات أو المضادات الحيوية بشكل مطول أو نتيجة الإصابة بأحد الأمراض المزمنة، عندئذ ترجح الكفة لسيطرة العوامل الضارة الأمر الذي يؤدي لحدوث الأمراض والعدوى.

ما أهمية الميكروبيوم؟

الميكروبيوم جزء لا يتجزأ من تنظيم جهازنا المناعي و أعضائنا الداخلية، حيث تمثل نحو  0.9- 2.7 كيلوغراماً من متوسط وزن ​​جسم الإنسان، كما تشكل نصف العدد الإجمالي لجميع خلايا أجسامنا، إضافةً لأنها تغطي جلدنا وأشعارنا وكل زاوية أو ركن من داخل وخارج أجسامنا، حتّى أُطلق عليها اسم “العضو الافتراضي”.

تتجلى وظيفة الميكروبيوم في هضم الطعام والحفاظ على درجة حموضة واستتباب سوائل الجسم مثل اللعاب والصفراء وحمض المعدة والقنوات الدمعية، كما تشارك في عملية الموت الخلوي المبرمج وتتخلص من الخلايا الميتة لتسمح بذلك للخلايا الحية بأن تحل محلها.

يمكن وصف الميكروبيوم على أنها الحارس الذي يتصدى للبكتيريا المَرضية. على سبيل المثال، الجراثيم والفلورا الطبيعية التي تستعمر المهبل هي مثال على الميكروبيوم، والتي تحافظ على بيئة حمضية في المهبل تمنع نمو الكائنات الحية الدقيقة الأخرى التي قد تتسبب في حدوث الأمراض والالتهابات.

كما تشكل الميكروبيوم المُتعايشة على سطح الجلد حاجزاً منيعاً ضد العديد من الإنتانات الجلدية وخاصة أن الجلد هو العضو الأولى الذي يكون على تماس مع مسببات الأمراض. لكن في ظروف معينة، كحدوث جرح مثلاً، ستتمكن الميكروبيوم من الدخول من خلال الجرح لتصل إلى حيث لا تنتمي، الأمر الذي يظهر على شكل التهاب يشمل الألم والاحمرار والتورم والحمى مكان دخولها.

في علوم التطور، يُعتقد أن القوة الأكثر أهمية والتي ساهمت في تطور الحياة على سطح الأرض هي “الميكروبيوم” والسباق للتغلب على مسببات الأمراض المتطورة باستمرار، والتي لولاها ربما ما زالت العديد من الكائنات عبارة عن 8 خلايا تسبح في بركة ماء.

دور تنوع الميكروبيوم في المحافظة على استتباب عمل الأجهزة

للميكروبيوم المُتعايشة في القناة الهضمية أنواع عديدة، وترتبط مستويات التنوع هذه بالقدرة على تثبيط أو تعزيز تطوير بعض الأمراض والمشكلات الصحية. على سبيل المثال، يرتبط حدوث السمنة بانخفاض تنوع الميكروبيوم، وذلك من مرحلة الطفولة. كما يلعب التنوع غير الطبيعي في أنواعها دوراً في الإصابة بمرض السكري والربو والتهاب الأمعاء المزمن.

ما مدى ارتباط الميكروبيوم بـ “فرضية النظافة”؟

يساعد التعرض المنتظم للميكروبات ومسببات الحساسية في سن مبكرة في تحسين جهاز المناعة وتدريبه على التمييز بين العوامل الطبيعية المُتعايشة في الجسم ونظيرتها غير الطبيعية. تنص “فرضية النظافة” على أن الأطفال الذين يعيشون في المزارع أو مع الحيوانات الأليفة يصابون بالحساسية والربو بشكل أقل مقارنةً بأولئك الذين لا يتعرضون لبيئات مختلفة.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية في ظل جائحة كوفيد-19، ازدادت فرص تطوير الأمراض الالتهابية والتحسسية والمناعية الذاتية، والسبب هو قلة تعرض العديد من أطفال عالمنا الحديث شديد التعقيم إلى بيئات ذات أنماط متنوعة من الميكروبيوم. حيث أدت قلة التعرض للبكتيريا والفيروسات والمواد المسببة للحساسية لكبح التطور الطبيعي لجهاز المناعة، الأمر الذي تسبب في ازدياد فرص حدوث اضطرابات داخل أنظمة أجسامهم.

تقول “إريكا موتيوس“، أخصائية الحساسية عند الأطفال من جامعة ميونيخ وإحدى الأطباء الأوائل الذين بحثوا في هذه الفكرة: “يحتاج جهاز المناعة لدى الطفل إلى التعليم، تماماً مثل أي عضو آخر ينمو في جسم الإنسان، تشير فرضية النظافة إلى أن التعرض المبكر للميكروبات يساعد في تعليم الجهاز المناعي النامي للرضيع، وبدون هذا التعليم قد يكون جهازك المناعي أكثر عرضة لمهاجمة الهدف الخطأ، والذي هو أنفسنا وبذلك تظهر أمراض المناعة الذاتية”.

لا يعني أي من هذا أنه يجب عليك التوقف عن تنظيف منزلك أو غسل نفسك، أو البدء في شرب مياه يحتمل أن تكون ملوثة. إلا أن تعريض الطفل، وليس البالغين، إلى بيئات مختلفة مفيد في تحسين تنوع الميكروبيوم لديه.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن نحسن تنوع الميكروبيوم من خلال نظامنا الغذائي، إذ تحتاج بعض الميكروبات لدينا إلى نوع معين من الأغذية، يطلق عليها اسم “بريبايوتكس”، والتي تتضمن الخضار والألياف والفاصوليا والحُمص والحبوب والخبز الداكن والبذور. تساعد هذه الأغذية في نمو الميكروبيوم في الأمعاء، الأمر الذي يصب في صالح تحسين صحتنا.

 

ما مدى تأثير الجائحات والأوبئة مثل “كوفيد-19” على الميكروبيوم؟

في ظل جائحة كوفيد-19، فُرض علينا “فرط التعقيم” والحذر عند مساس أي شيء يُشك أنه غير نظيف، وفي الوقت الذي قد لا يتأثر فيه البالغون من هذه التغييرات نظراً لأن أجهزتهم المناعية مكتملة النمو، يتحمل الأطفال ثمن “فرط التعقيم” هذا وما يحمله من نتائج. فكما ذُكر سابقاً فإن عدم التعرض لـ “العوامل الممرضة” منذ سن صغير سيسمح بتطوير طيف أمراض المناعة الذاتية.

تلعب الميكروبيوم الخاصة بالأمعاء دوراً مهماً في الحفاظ على القلب والرئتين، وبالتالي يؤثر أي اضطراب في توازنها إلى تفاقم أمراض الجهاز التنفسي، بما في ذلك كوفيد-19، وبذلك ندخل في حلقة مغلقة بأن الوقاية من كوفيد-19 تفرض إحداث اضطراب في توازن الميكروبيوم، وهذا الاضطراب بدوره يفاقم من حدة الإصابة بكوفيد-19 بتأثيره السلبي على عمل القلب والرئتين.

كما أن استخدام الصادات الحيوية بشكل جائر في ظل هذه الجائحة زعزع من استتباب ميكروبيوم الأمعاء، الأمر الذي أدى إلى حدوث إسهالات تعود للإصابة بالتهاب القولون الغشائي الكاذب الناجم عن نقص الأعداد الطبيعية للميكروبيوم المتعايشة في الأمعاء، ما سمح للعوامل الممرضة الضعيفة بالسيطرة على الوسط المعوي. ومنه نجد أن أفضل دفاع ضد جائحة كوفيد-19 على المدى الطويل هي اللقاحات والتطعيم، وليس هوس التعقيم والنظافة.