هل تساعد دراسة الخفافيش على الوقاية من جائحة جديدة؟

هل تساعد دراسة الخفافيش على الوقاية من جائحة جديدة؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Independent birds
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من المقرَّر استخدام نحو 50 خفاشاً من خفافيش الفاكهة الجامايكية الموجودة في مختبر في مدينة بوزمان في ولاية مونتانا الأميركية في تجربة علمية لها هدف طموح للغاية، وهو التنبّؤ بالجائحة العالمية التالية.

تُعتبر الخفافيش حول العالم من الكائنات الأساسية التي تنقل الفيروسات من الحيوانات إلى البشر. غالباً تكون هذه الفيروسات غير ضارة بالخفافيش ولكنها قد تكون قاتلة للبشر. على سبيل المثال؛ تُعتبر خفافيش حدوة الفرس الصينية مصدر انتشار فيروس كورونا الذي تسبب في جائحة كوفيد-19، ويعتقد الباحثون أن الضغط الذي تعرضت له الخفافيش نتيجة للتغيّر المناخي وانتهاك البشر للمناطق التي تعيش فيها أدى إلى ازدياد معدّل انتقال الفيروسات من الخفافيش إلى البشر مسبباً بعض الأمراض حيوانية المنشأ (Zoonotic Diseases).

اقرأ أيضاً: هل تدخل الفيروسات السلسلة الغذائية كمغذيات لأحياء أخرى؟

ما أسباب انتقال الأمراض من الخفافيش إلى البشر؟

قالت عالمة بيئة الأمراض والمؤلفة المشاركة لدراسة جديدة نُشرت مؤخراً في مجلة نيتشر (Nature)، ولدراسة أخرى نُشرت في مجلة إيكولوجي ليترز (Ecology Letters) حول دور التغيرات البيئية في انتشار الأمراض، راينا بلورايت (Raina Plowright): “ينتج انتقال الأمراض من الخفافيش إلى البشر من العديد من عوامل الإجهاد؛ مثل إزالة مواطن الخفافيش وازدياد شدة آثار التغير المناخي ما يؤدي إلى انتقال هذه الحيوانات للعيش في مناطق البشر بحثاً عن الغذاء”.

لهذا السبب؛ تخطط عالمة المناعة في جامعة ولاية مونتانا، أغنيشكا ريندا-آبل (Agnieszka Rynda-Apple)، لإحضار خفافيش الفاكهة الجامايكية إلى مدينة بوزمان خلال شتاء عام 2023 لتشكيل مستعمرة تكاثر وتسريع وتيرة عمل مختبرها الذي يُعتبر نشاطه جزءاً من نشاط فريق يتألف من 70 باحث في 7 بلدان حول العالم. تأمل هذه المجموعة البحثية التي أسستها بلورايت والتي تحمل اسم بات ون هيلث (BatOneHealth)، في إيجاد طرائق للتنبّؤ بالمواقع المحتملة لانتقال الفيروس المميت التالي من الخفافيش إلى البشر.

تقول ريندا-آبل: “نحن نتعاون أملاً في إيجاد جواب للسؤال: لماذا تنقل الخفافيش الفيروسات بهذه الدرجة من الفعالية؟”، وتضيف: “نحاول أن نفهم ما العوامل التي تميز الأجهزة المناعية لهذه الحيوانات والتي تجعلها تحتفظ بالفيروسات، وما الظروف التي تتسبب في خروج الفيروسات من خلايا هذه الحيوانات”.

تقول ريندا-آبل أيضاً إنه لدراسة الدور الذي تؤديه عوامل الضغط الغذائية، يصمم الباحثون أنظمة غذائية مختلفة للخفافيش، “ويحقنوها بفيروسات الإنفلونزا ثم يقومون بدراسة معدل خروج الفيروس من الخلايا واستجابة هذه الحيوانات المضادة للفيروسات”.

اقرأ أيضاً: فطريات تقتات على حرائق الغابات تثير فضول العلماء

تأثير التغييرات البيئية في انتقال الفيروسات من الخفافيش إلى البشر

على الرغم من أن ريندا-آبل وزملاءها قاموا بإجراء هذه التجارب من قبل، فإن تربية الخفافيش ستتيح لهم توسيع بحثهم.

يتطلب كل من الفهم العميق لآلية تأثير التغيرات البيئية في عوامل الضغط الغذائية والتنبؤ بشكل أكثر دقة بانتقال الفيروسات الكثير من العمل المجهد. يقول الأستاذ المساعد في الإحصاء في جامعة ولاية ميشيغان والذي يقوم بإنشاء نماذج لسيناريوهات انتقال الفيروسات المحتملة، أندرو هوي (Andrew Hoegh): “إذا تمكنا من فهم العوامل المؤثرة جميعها، سيمنحنا ذلك القدرة على إيجاد طرائق لاتخاذ إجراءات المكافحة البيئية التي يمكننا تطبيقها لحماية أنفسنا من انتقال الفيروسات من الحيوانات إلى البشر”.

يعمل الفريق الصغير من الباحثين في جامعة ولاية ميشيغان مع أحد الباحثين في مختبرات روكي ماونتن التابعة للمعاهد الوطنية للصحة في مدينة هاملتون في ولاية مونتانا الأميركية.

دراسة فيروس هيندرا

وترّكز الدراستان الحديثتان المنشورتان في مجلتيّ نيتشر وإيكولوجي ليترز على فيروس يحمل اسم فيروس هيندرا، ينتشر في أستراليا حيث وُلدت بلورايت. فيروس هيندرا هو فيروس تنفسي يتسبب في أعراض تشبه أعراض الإنفلونزا وينتقل من الخفافيش إلى الخيول، ثم قد ينتقل من الأخيرة إلى البشر الذين يعالجون الخيول. هذا الفيروس مميت؛ إذ يبلغ معدّل الوفاة الذي يتمتع به 75% بين الخيول. بالإضافة إلى ذلك، مات 4 أشخاص من أصل الأشخاص السبعة الذي أُصيبوا بهذا الفيروس.

السؤال الذي حفّز بلورايت على البدء في عملها هو “لماذا بدأ هذا الفيروس بإصابة الخيول والبشر في تسعينيات القرن الماضي، على الرغم من أن الخفافيش احتوت عليه لعصور طويلة”؟ تبين الأبحاث أن السبب هو التغيرات البيئية.

بدأت بلورايت بإجراء الأبحاث على الخفافيش في عام 2006، ولم تجد هي وزملاؤها آثاراً لهذا الفيروس إلا نادراً في العينات التي أُخذت من الخفافيش الأسترالية التي تحمل اسم الثعالب الطائرة. بعد أن قضى إعصار لاري المداري (Tropical Cyclone Larry) الذي وقع قبالة سواحل الإقليم الشمالي الأسترالي على مصدر غذاء هذه الخفافيش في عاميّ 2005 و2006، اختفت مئات الآلاف منها. مع ذلك، وجد الباحثون جماعة صغيرة من الخفافيش الضعيفة والتي تعاني من المجاعة وتحتوي على كميات كبيرة من فيروس هيندرا؛ ما دفع بلورايت للتركيز على عوامل الضغط الغذائية كعامل أساسي في انتقال الفيروسات.

عوامل الضغط الغذائية كمسببات لانتقال الفيروسات

قامت بلورايت وزملاؤها بدراسة البيانات التي تم جمعها على مدى 25 عاماً والمتعلقة بتدمير المواطن الطبيعية وانتقال الفيروسات والمناخ، واكتشفت رابطاً بين زوال مصادر الغذاء الناجم عن التغيّر البيئي والأحمال الفيروسية المرتفعة في الخفافيش التي تعاني من الإجهاد الغذائي (نقص موارد الغذاء).

في العام الذي يلي ظاهرة إل نينيو (El Niño) المناخية التي تحدث كل بضعة سنوات وتتسم بارتفاع درجات الحرارة، تتوقف الكثير من أشجار الأوكالبتوس عن إنتاج الأزهار التي تحتوي على الرحيق الذي تتغذّى عليه الخفافيش. كما أدى تعدي البشر على المواطن الطبيعية الأخرى، والمتمثّل في مختلف النشاطات من إنشاء المزارع إلى التنمية الحضرية، إلى القضاء على مصادر الغذاء البديلة للخفافيش. لذلك تميل الخفافيش للانتقال إلى المناطق الحضرية التي تحتوي على أشجار التين والمانجو والأشجار الأخرى التي تحتوي مستوى دون المطلوب من المواد الغذائية؛ ما يؤدي إلى تعرضها للإجهاد الغذائي وخروج الفيروسات من خلاياها. عندما تطرح الخفافيش البول والبراز، تستنشق الخيول هذه المواد في أثناء شم الأرض.

ويأمل الباحثون أن تكشف أبحاثهم على الخفافيش المصابة بفيروس هيندرا مبدأً عالمياً يبيّن كيف يمكن أن يؤدي تدمير الطبيعة وتغييرها إلى زيادة احتمال انتشار مسببات الأمراض القاتلة من الحيوانات البرية إلى البشر.

المصادر الثلاثة التي يُعتبر احتمال انتقال الفيروسات منها إلى البشر هو الأكبر هي الخفافيش والثدييات ومفصليات الأرجل، وخصوصاً القراديّات. وتُعتبر نسبة 60% تقريباً من الأمراض المعدية الناشئة التي تصيب البشر حيوانية المنشأ، وانتقل نحو ثلثي هذه النسبة من الحيوانات البرية.

الفكرة التي تنص على أن كلاً من إزالة الغابات وانتهاك البشر للأراضي البرية يتسبب بالجائحات ليست جديدة. على سبيل المثال؛ يعتقد الخبراء أن فيروس العوز المناعي البشري الذي يتسبب في مرض الإيدز، أصاب البشر لأول مرة عندما تناولوا لحم قرود الشمبانزي في وسط إفريقيا. انتقل فيروس نيبا الذي تحمله الخفافيش والذي تسبب في حالة تفشي في ماليزيا في أواخر عام 1998 وأوائل عام 1999 من الخفافيش إلى الخنازير. ضاعفت الخنازير كمية هذا الفيروس ونشرته بين البشر؛ ما أدى إلى إصابة 276 شخصاً ووفاة 106 أشخاص خلال فترة التفشي. ويكشف الباحثون اليوم عن العلاقة بين انتشار الفيروسات والإجهاد الغذائي الناجم عن التغيرات البيئية.

الأجهزة المناعية للخفافيش

يتمثّل أحد العوامل الرئيسية لهذا اللغز المعقّد في الأجهزة المناعية للخفافيش، و ستساعد خفافيش الفاكهة الجامايكية المحفوظة في جامعة ولاية ميشيغان الباحثين على تعلّم المزيد عن آثار الإجهاد الغذائي على كمية الفيروسات التي تحتوي عليها.

يبحث رئيس وحدة البيئة الفيروسية في مختبرات روكي ماونتن والعضو في مجموعة بات ون هيلث، فينسنت مانستر (Vincent Munster) في الأنواع المختلفة للخفافيش للوصول إلى فهم أعمق للعوامل البيئية المتعلقة بانتقال الفيروسات من هذه الحيوانات إلى البشر. يقول مانستر: “هناك 1,400 نوع مختلف من الخفافيش، وهناك اختلافات كبيرة للغاية بين الخفافيش التي تحمل فيروسات كورونا وتلك التي تحمل فيروس الإيبولا“، ويضيف: “كما أن هناك اختلافاً كبيراً بين الخفافيش التي تعيش في جماعات تتألف من عشرات الآلاف من الأفراد وتلك التي تعيش حياة منعزلة نسبياً”.

يتمثّل أحد أهداف زوج بلورايت ورئيس مركز الحفاظ على التضاريس الطبيعية الكبيرة؛ وهو منظمة غير ربحية تطبق أبحاث علم بيئة الأمراض لحماية مواطن الحيوانات البرية، غاري تيبور (Gary Tabor)، في ضمان حصول الحيوانات البرية على ما يكفي من الغذاء للوقاية من انتقال الفيروسات إلى البشر.

اقرأ أيضاً: ماذا سيحدث للمناخ إذا استبدلت مزارع الماشية بالغابات؟

يقول تيبور: “يُعتبر تجزؤ المواطن من المشكلات الكبيرة على مستوى الكوكب والتي لا تتم معالجتها بالشكل الملائم نظراً لاستمرار إزالة الغطاء النباتي بمستويات غير مسبوقة في أنحاء العالم جميعها”.

مع زيادة قدرة العلماء على التنبؤ بتفشي الأمراض، يصبح من الممكن تطبيق استراتيجيات أخرى. على سبيل المثال؛ يمكن تلقيح الخيول التي تعيش في المناطق التي تنبأت النماذج الجديدة بأنها ستشهد انتشاراً لفيروس هيندرا.

يتمثّل حل محتمل آخر في مجموعة “إجراءات المكافحة البيئية” التي أشار إليها هوي؛ مثل زراعة أشجار الأوكالبتوس المزهرة حتى لا تُجبَر خفافيش الثعالب الطائرة على البحث عن الرحيق في المناطق الحضرية.

وتقول بلورايت: “حالياً، يركّز العلماء على إيجاد طرائق للوقاية من الجائحة التالية”، وتضيف: “لسوء الحظ، فإن الحفاظ على البيئة وإصلاحها ليس من الأولويات”.