الفن العالمي يتعرض للهجوم من قبل الميكروبات

الأبواغٍ الفطرية تسبب ظهور البقع على لوحة "الملاك والمريمات الثلاث"، التي رسمها الفنان لويس كومفورت تيفاني (المصمم المعروف بأعماله على الزجاج المزخرف)، وذلك قبل استحواذها من قبل متحف العاصمة للفنون في نيويورك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

 

تعوّدنا على رؤية الأعمال الفنية المشهورة والآثار التاريخية المتأثرة بالعوامل المختلفة، إذ يمكن أن تتآكل بالرياح والمياه، أو أن تبهت بأشعة الشمس، أو أن تقضمها الحشرات. لكن يمكن أيضاً للآثار المهمّة أن تتضرّر بحشودٍ من الغزاة الصغار، كالبكتيريا والفطور والأشنيّات.

يقول فرانكو بالا، المتخصّص بالتكنولوجيا البيولوجية في جامعة بالميرو في إيطاليا: “تعدّ الأحياء الدقيقة خطراً كبيراً على الإرث الثقافي”. فقد سبّب أولئك الغزاة الصغار ضرراً بالغاً للمواقع الأثرية، مثل لوحات كهف لاسكو في فرنسا، كما تعرضّت السفينة المشهورة تيتانيك للالتهام من قبل نوعٍ من البكتيريا المستعصية الشرهة للمعادن.

من أجل ذلك يعمل العلماء وحماة الآثار على تحديد أنواع البكتيريا التي تهاجم الآثار وتُضّر بها، والتأكّد من عدم عودتها. حتى أن البعض يجنّد البكتيريا للمساعدة في حماية المواقع التاريخية.

 

 

يكرس باحثون -مثل بالا- جهودهم لحماية كنوز العالم الثقافية. يقول بالا: “في دولٍ مثل إيطاليا ومناطق مثل صقلية، تعتبر الأعمال الفنية مصدراً للرزق والأموال. فأنت تقوم بدراسة أمرٍ مهمٍ للمدينة والناس وتاريخ الدولة”.

الفن تحت الحصار

لقد وجدت الميكروبات طريقها إلى المتاحف، الكهوف، والآثار القديمة. كتبت آنا زيليا ميلر، عالمة الأحياء الأرضية الدقيقة في معهد الموارد الطبيعية وعلم أحياء التربة التابع لمجموعة أبحاث العلوم البيئية للأحياء الدقيقة والتراث الثقافي في إشبيلية-إسبانيا: “إن أي أثرٍ ثقافيٍ مهددٌ باستعمار الأحياء الدقيقة له”.

إن بعض الآثار كالريش، الخشب، ورق البرشمان، والمنسوجات مصنوعةٌ من المواد العضوية التي تحب الميكروبات التغذية عليها. من الشائع أن يقوم الفنانون باستخدام ألوان “تِمبرا البيض” -وهي أصباغٌ ممزوجةٌ بصفار البيض- وهو ما عرّض لوحاتهم إلى خطر الاجتياح من قبل الميكروبات. ويمكن أيضاً تكوّنُ العفن على اللوحات المثبّتة على الجدران الباردة التي يتكاثف عليها الماء.

هناك حالاتٌ أخرى تقوم فيها الميكروبات بإفراز مركباتٍ حامضيةٍ يمكنها نخر المعادن.

إن الآثار الحجرية والتماثيل غير آمنةٍ أيضاً، إذ يمكن للميكروبات قاطنة الصخور أن تغطيها بمواد لزجةٍ مشوِّهة، أو أن تدمرها من الداخل. ففي المتحف الأميركي الهندي في واشنطن دي سي، قامت البكتيريا الزرقاء (المعروفة أيضاً بالطحالب الزرقاء-الخضراء) باستعمار الأماكن التي تدفقت عليها المياه ضمن واجهة البناء.

تعتبر هذه المستعمرات إزعاجاً بسبب البقع الداكنة التي تخلفها، والتي تشبه بقع الحبر الملقاة على الحيطان. لكن البكتيريا تولد أيضاً طبقةً طينية تنبّه المجتمع على أهمية الاهتمام بالمكان. تجتذب هذه البيئة الرطبة الميكروبات الأخرى التي تثقب الحجر وتضعفه. تقول باولا ديبريست، نائبة مدير معهد سميثسونيان لحماية المتاحف في سوتلاند-ميريلاند: “تؤمّن هذه الرطوبة الظروف المناسبة لاستيطان أي شيءٍ ممكن”.

تمثال حجري من قصر كويلوز الوطني في البرتغال، وقد استعمرته الأشنيات والطحالب.

في الحقيقة، تعتبر المياه عاملاً رئيسياً للكوارث الميكروبية، بحسب قولها. وتضيف: “إننا نربط بين الرطوبة العالية ومعظم الأضرار التي تسببها الميكروبات”. تقع بعض الآثار الخارجية والمواقع الأثرية ضمن بيئاتٍ عالية الرطوبة. وفي حالاتٍ أخرى، قد تتعرض الكنوز المحمية سابقاً لهجوم الميكروبات.

خلال عمليات استخراج الكنوز من الثلوج أو المياه، يتم جلب الأجسام المبتلّة إلى الهواء المليء بالأبواغ. وعند إخراج السفن الغارقة إلى السطح، تنجذب الميكروبات إلى الخشب المشبع بالمياه. كما يمكن للأعاصير أو الكوارث الأخرى أن تغمر الآثار الثمينة بالمياه أيضاً. ففي عام 2005، غمر إعصار كاترينا الجامعة الجنوبية في نيو أورلينز، الأمر الذي عرّض مجموعتها من الفنون الإفريقية إلى الاجتياح. تقول ديبريست: “نمت الفطريات في كل مكان لأن أحداً لم يستطع الوصول إلى هناك لمدة أشهر”.

يمكن أيضاً للزوار من البشر أن يسبّبوا اجتياح البكتيريا والفطريات. ففي الكهوف القديمة، يمكن للسياح أن يحملوا معهم الميكروبات المؤذية ضمن جلودهم، وثيابهم، وموادهم المختلفة. كما أن تواجد البشر داخل الكهوف يغيّر من درجة الرطوبة والظروف المحيطية الأخرى، والذي قد يؤدي إلى نمو الآفات. هذا ما حصل في لاسكو، حيث دمرت الفطريات بعض أقدم اللوحات الكهفية في العالم. وتساعد الأنوار الموضوعة لتسهيل حركة السياح على نمو الميكروبات أيضاً، بحسب قول سيزاريو سيز-جيمينيز، وهو عضوٌ آخر في مجموعة أبحاث العلوم البيئية للأحياء الدقيقة والتراث الثقافي.

رسم لثور أميركي في قاعة بوليكروم في كهف ألتاميرا في إسبانيا. نمت الميكروبات ضمن مستعمرات على شكل بقع بيضاء على اللوحات في هذا الكهف.

قام سيز-جيمينيز وميلر وزملائهما بتفحص الكوارث في لاسكو والجداريات والأقبية والمقابر الأخرى. ففي كهف ألتاميرا في إسبانيا، وُجدت مستعمراتٌ بيضاء من الميكروبات على لوحات العصر الحجري. وقد أوصى سيز-جيمينيز وفريقه بإبقاء الكهف مغلقاً عن العموم لكيلا يلقى مصير كهف لاسكو. لم تُقبل هذه النصيحة دائماً، وقد أصبح هناك نسخٌ جديدةٌ من لاسكو، ألتاميرا، وغيرهما من الكهوف التي تستهوي محبي علوم الآثار.

حالما يصبح الأثر التاريخي تحت قبضتها، تبدأ الميكروبات بعملها مباشرةً. يمكن أن تظهر الأضرار المتعلقة بالفطريات خلال 48 ساعة. وعندما يتعرض الأثر للهجوم مرةً، يصبح عرضةً لهجماتٍ أخرى. تقول ديبريست: “يتفسخ ويهترئ الأثر شيئاً فشيئاً. ويؤدي تفكّك ألياف ومكوّنات الآثار إلى ظهور الفتحات الجديدة التي تسمح بدخول مزيدٍ من الحشرات والميكروبات”.

يمكن أيضاً للميكروبات التي تستعمر الأعمال الفنية أن تسبّب المشاكل التنفسية للزوار، لكن ما زالت هذه المخاطر غامضة، بحسب قول بالا.

مقاومة الخطر

الخبر الجيد هو أنه يمكننا تجنب الاجتياح الميكروبي من خلال حفظ الآثار ضمن ظروفٍ محدّدة، من شأنها منع الأبواغ من الاستقرار والنمو. هذا يعني حفظها في مناطق باردةٍ وجافة. يقول بالا: “يمكننا ضمن بيئةٍ مغلقةٍ، كالمتحف أو المكتبة، أن نتحكم بالحرارة، الرطوبة والضوء”. كما يستخدم حماة الآثار مراوح الأشعة فوق البنفسجية لتنقية الهواء من الأبواغ والتخلص منها.

بالنسبة للمجموعات المعروضة للعموم، فلا يمكن تبريدها كثيراً. تقول ديبريست: “الأمر غير عملي بالنسبة لمجموعات المتاحف، إذ لا يمكن عرض الأشياء للزوار وتبريدها في نفس الوقت”. لكن هناك استثناء، هو أوتزي رجل الثلج، وهو مومياء طبيعية تجمدت في جبال الألب الإيطالية منذ 5300 سنة. وقد تم حفظ هذه المومياء ضمن حجرةٍ باردةٍ في متحف جنوب تيرول لعلوم الآثار في إيطاليا، وذلك لمحاكاة الجليد الذي اكتُشف فيه سابقاً.

عندما تتعرض القطعة الفنية إلى الاستعمار من قبل الميكروبات، يجب تجفيفها وتنظيفها قبل أن يقوم الحماة بالعمل على استعادتها كما كانت. يمكن وضع الآثار ضمن غرفةٍ مليئةٍ بالغازات مثل الأرغون، وسيؤدي نقص الأوكسجين إلى موت معظم الميكروبات.

هناك كنوزٌ أخرى تحتاج إلى حمايةٍ طويلة الأمد. على سبيل المثال: يتم تخزين النيازك ضمن النيتروجين السائل لمنع الميكروبات. تقول ديبريست: “لا يريد العلماء الخلط بين الميكروبات الأرضية وأي إشارةٍ عن شكل منشأ النيازك”.

بالنسبة لحماة الآثار، يعتبر التحكم بالآثار الخارجية أكثر صعوبةً، وذلك على الرغم من إمكانية استخدام المبيدات الحيوية لمنع نمو الميكروبات.

من الصعب تعقب جميع الأحياء الدقيقة التي تتغذى على أنواع الآثار المختلفة، بحسب ميلر. لكن من المهم جداً تحديد أنواع الميكروبات التي سيطرت على القطع الفنية وأضرّت بها من أجل التخلص منها، دون إحداث المزيد من الضرر. على سبيل المثال: قام حماة الآثار باستخدام مبيداتٍ حيويةٍ للقضاء على الفطريات المسبّبة للبقع الداكنة على اللوحات الشهيرة في كهف لاسكو. لكنّ ذلك أدى إلى ازدياد عدد أنواع الفطريات في الكهف، بحسب ما اكتشفه سيز-جيمينيز ورفاقه.

كما تعتبر هذه المواد الكيميائية مُضرّةً بالبيئة، والعمل الفنيّ، بل وحتى صحة الحماة والسيّاح. لذلك اقترح بالا ورفاقه حلاً بديلاً: وهو إبطال عمل الميكروبات المزعجة باستخدام مستخلصاتٍ نباتيةٍ. وهم يعملون على اختبار الثوم والنعناع وزيوت شجرة الشاي. تعتبر هذه المركبات جزءاً من الدفاعات الطبيعية للنباتات ضد الآفات، بحسب بالا.

يختبر الفريق حالياً الزيوت النباتية على الفسيفساء في حديقة سولونتو الأثرية، وهي مدينةٌ أثريةٌ موجودةٌ في صقلية.

ليس هناك الكثير من الحالات التي تعتبر فيها البكتيريا المجتمعة على اللوحات الفنية أمراً جيداً، لكن يمكن في بعض الأحيان أن تكون الميكروبات مرحبّاً بها. حيث يدرس بعض العلماء إمكانيةَ استخدام البكتيريا والفطريات لإزالة الرسومات الجرافيتية على المعالم الأثرية. بحسب بالا: يمكن أن تساعد البكتيريا في إزالة الطلاء الأسود الملوِّث للمنحوتات الرخامية، حيث تفرز الميكروبات مركباتٍ تقوم بتعديل البنية الكيميائية للقشور، ليتمّ إزالتها بسهولة.

يمكن أيضاً استخدام الميكروبات لحفظ واستعادة المعالم الأثرية، لكن جدوى ذلك غير واضحةٍ بعد. تقول ديبريست: “إن المسألة المعقّدة هي كيفية إجبار الميكروبات على مهاجمة ما نريد التخلص منه، دون الإضرار بالمعلم الأثري”.

تكمن أحد العقبات في صنع نسخٍ من الآثار لاختبار هذه الميكروبات عليها، قبل وضعها على الكنوز الحقيقية. تقول ديبريست: “يمكنك صنع نماذج شبيهة، لكن قد تكون هذه النماذج مختلفةً عن الظروف الحقيقية التي تواجهنا”.

وفي بعض الأحيان، قد تكون الميكروبات ذاتها هي الفن. فقد بدأ بعض الفنانين باستخدام البكتيريا -كاختيارٍ غير تقليدي- لتزيين لوحاتهم. الأمر يعود إلى كيفية رؤيتك للأشياء.