لماذا نستمتع بحضور حفلة موسيقية أكثر من مشاهدتها عبر الإنترنت؟

الموسيقى
حقوق الصورة: شتر ستوك/ ياروسلاف ماشاسيك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لعدة أشهر، تم إعداد الجماهير لمشاهدة الحفلات الموسيقية للمطربين والموسيقيين المفضلين لديهم عبر تطبيق زووم (Zoom) أو عبر قنوات يوتيوب أو البث المباشر عبر الإنترنت. الآن، عادت الحفلات الموسيقية رسمياً، بدءاً من المهرجانات مثل «Lollapalooza» إلى مسرحيات «Broadway» الموسيقية.

قد تكون الحفلات الموسيقية التي شاهدتها وحضرتها عبر الإنترنت خلال جائحة كورونا قد حققت نجاحات كبرى، ولكن هناك شيء سحري حول رؤية الجماهير مجتمعة في حفلة موسيقية. أفاد بعض المعجبين بأنهم تأثروا بالحفلات التي حضروها لأول مرّة منذ ما يقرب من عامين لدرجة أنهم بكوا فرحاً.

كباحث في الموسيقى، فقد قضيت مسيرتي المهنية في محاولة اكتشاف ماهيّة هذا «السحر». وجزء من محاولة فهمه يتطلب التفكير في الموسيقى على أنها أكثر من مجرّد أصوات تغمر المستمع.

الموسيقى أكثر من مجرّد تواصل

غالبًا ما يُنظر إلى الموسيقى على أنها شقيقة توأم للغة؛ فالكلمات تميل إلى نقل الأفكار والمعرفة، بينما الموسيقى تنقل المشاعر.

وفقاً لهذا الرأي، فإن المطربين يبعثون رسائلهم -أي الموسيقى- لجمهورهم. يستقبل المستمعون هذه الرسائل ويستجيبون لها كشيفرة يعملون على حلّها وفقاً لعاداتهم الخاصة في الاستماع إلى الموسيقى. هذه هي الطريقة التي يفسّر بها المستمعون المشاعر التي يأمل المطربون في توصيلها لمستمعيهم.

ولكن إذا كانت كل أنواع الموسيقى تعبّر عن المشاعر، فلا ينبغي أن تكون مشاهدة حفلة موسيقية عبر الإنترنت مختلفة عن الذهاب إلى عرض حي؛ ففي كلتا الحالتين سمع المستمعون نفس الألحان ونفس التناغم ونفس الإيقاعات.

إذاً، ما الذي لا يمكن اختباره من خلال الأجهزة الذكية؟

الإجابة المختصرة هي أن الموسيقى تفعل أكثر بكثير من مجرد التواصل؛ فعندما تحضر حفلة موسيقية شخصياً مع أشخاص آخرين، يمكن أن يصنع ذلك روابط جسدية وعاطفية قوية.

علاقة «تناغم» متبادلة

تتأثر رفاهيتنا بدون تفاعلات جسدية. لقد فشلنا في تحقيق ما أسماه الفيلسوف «ألفريد شوتز» «التوليف المتبادل»، أو ما وصفه مؤخراً عازف البيانو والأستاذ في جامعة هارفارد «فيجاي آير» بعبارة «لنكُن معاً في الوقت نفسه».

في كتابي «Enacting Musical Time»، لاحظت أن للوقت شعور وملمس معين يتجاوز حقيقة مروره. بالطبع يمكن أن تتحرك بشكلٍ أسرع أو أبطأ. ولكن يمكن أيضاً أن تتأرجح مع الأمور العاطفية أو المشاعر التي تعتريك: هناك مثلاً أوقات تكون حزينة وأخرى مبهجة، ومليئة بالحيوية، مؤثرة… وهكذا.

عندما يتم اختبار مرور الوقت في وجود أشخاص آخرين، فقد يؤدي ذلك إلى ظهور شكل من أشكال الحميمية؛ إذ يبتهج الناس أو يحزنون معاً. قد يكون هذا هو السبب في أن التباعد الجسدي والعزلة الاجتماعية التي فرضها وباء كوفيد-19 كانا صعبين للغاية بالنسبة لكثير من الناس، وقد يفسّر لماذا أفاد العديد من الأشخاص الذين انقلب روتين حياتهم خلال الجائحة عن تغيير مقلق في إحساسهم بالوقت.

لذا فعندما نكون على مقربة جسدية من بعضنا، فإن التوليفة المتبادلة تجاه بعضنا بعضاً تولّد ايقاعات جسدية تجعلنا نشعر بالراحة، وتمنحنا إحساساً أكبر بالانتماء. وجدت إحدى الدراسات أن الأطفال الذين استجابوا للموسيقى بالتزامن مع عرض للبالغين أظهروا المزيد من الإيثار تجاههم، كما وجدت دراسة أخرى أن الأصدقاء المقربين يميلون إلى مزامنة حركاتهم عند التحدّث أو المشي معاً.

الموسيقى ليست ضرورية لظهور هذا التناغم، ولكن الإيقاعات تسهّل التناغم من خلال منحه شكلاً.

من ناحية؛ تشجّع الموسيقى الناس على القيام بحركات وإيماءات محددة أثناء الرقص أو التصفيق أو مجرد تحريك رؤوسهم على الإيقاع. من ناحية أخرى، تمنح الموسيقى الجماهير دعامة زمنية: مكان لوضع هذه الحركات والإيماءات بحيث تتم مزامنتها مع الآخرين.

اقرأ أيضاً: لماذا نشعر بالقشعريرة والمتعة حين نستمع إلى الموسيقى

الموسيقى كمزامن العظيم

نظراً للتأثير الممتع للتزامن أو التحرّك مع الأشخاص من حولك، فإن الرضا العاطفي الذي تحصل عليه من الاستماع أو المشاهدة عبر الإنترنت يختلف اختلافاً جوهرياً عن الذهاب إلى حفلة موسيقية، فهناك يمكنك أن ترى وتشعر بأجساد أخرى من حولك.

حتى عندما تكون حركة الأفراد مقيّدة، كما هو الحال في حفلة موسيقية كلاسيكية غربية نموذجية، فإنك تشعر بوجود الآخرين. بمعنى آخر: كتلة من الأجسام تقتحم فقاعتك الشخصية.

تشكّل الموسيقى هذه الكتلة البشرية وتعطيها هيكلًا، وتشير إلى لحظات من التوتر، الاسترخاء، التنفس، والتقلبات في الطاقة، لحظات قد تترجم إلى حركة وإيماءات بمجرد أن يتناغم الناس مع بعضهم بعضاً.


عادةً ما يتم نقل هذه البنية بالصوت، لكن الممارسات الموسيقية المختلفة حول العالم تشير إلى أن التجربة لا تقتصر على السمع فحسب. في الواقع، يمكن أن يشمل ذلك تزامن الرؤى واللمس.

على سبيل المثال، في مجتمع الصم فإن الصوت ليس سوى جزء صغير من التعبير. في مقطوعة «face opera ii» لـ «كريستين صن كيم» -وهي مقطوعة يؤديها فنانون صم– يغني المشاركون دون استخدام أيديهم، ويستخدمون بدلاً من ذلك إيماءات الوجه وحركات الجسد للتعبير عن المشاعر المختلفة. مثل سطر «fa-la-la-la-la» في ترنيمة عيد الميلاد الشهيرة «Deck the Halls»، يمكن أن تُحرم الكلمات من معناها ليصبح ما تبقى منها هو لهجتها العاطفية.

في بعض الثقافات، فإن الموسيقى، لا تختلف من الناحية المفاهيمية عن الرقص أو الطقوس أو اللعب. على سبيل المثال، يستخدم السكان الأصليون في مجتمع «بلاكفيت – Blackfeet» في أميركا الشمالية نفس الكلمة للإشارة إلى مزيج من الموسيقى والرقص والاحتفال. ويستخدم جماعة «Bayaka Pygmies» في وسط إفريقيا المصطلح نفسه لأشكال مختلفة من الموسيقى والتعاون واللعب. العديد من المجموعات الأخرى حول العالم تصنف الممارسات المجتمعية تحت نفس المظلة.

يستخدمون جميعاً علامات الوقت مثل إيقاع منتظم -سواء كان صوت خشخشة القرع أثناء احتفال «Suyá Kahran Ngere»، أو مجموعات الفتيات يرددون «Mary Mack dressed in black» في لعبة التصفيق- للسماح للمشاركين بمزامنة حركات.

ليست كل هذه الممارسات تستحضر بالضرورة كلمة «موسيقى»، لكن يمكننا اعتبارهم موسيقيين بطريقتهم الخاصة. إنهم جميعاً يعلّمون الناس كيفية التصرّف فيما يتعلق ببعضهم بعضاً عن طريق توجيههم وحتى حثّهم على التحرّك معًا.

.. في الوقت نفسه، كشخص واحد..