متى وكيف اختُرع المشي؟

المشي على قدمين عند البشر
حقوق الصورة: بيتر شميدت ولي آر بيرغر/ ويكيميديا كومونز.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هذا سؤال مهم لأن العديد من علماء الأنثروبولوجيا يعتقدون أن المشي على قدمين هو أحد الخصائص المميزة لـ «أشباه البشر»، أو البشر المعاصرين وأسلافهم. من الصعب إيجاد إجابة بسيطة على هذا السؤال، وذلك لأن المشي على قدمين لم يظهر فجأة، بل إنه ناتج عن تطوّر تدريجي بدأ منذ عدة ملايين من السنين.

اقرأ أيضاً: هل حان الوقت لتغيير الطريقة التي نتكلّم بها عن تطوّر البشر؟

ما النهج الذي يتبعه العلماء للإجابة عن هذا التساؤل؟

بالطبع، لا يوجد مقطع فيديو لأول شخص يسير منتصباً. إذن كيف يحاول العلماء الإجابة عن أسئلة حول كيفية تحرك البشر في الماضي القديم جداً؟

لحسن الحظ، يمكن أن يكشف لنا شكل عظام الكائن وبنيتها عن كيفية تحرك جسمه عندما كان على قيد الحياة. كما يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا العثور على أدلة أخرى في البيئة تشير إلى الطريقة التي كان يمشي بها البشر القدماء.

في عام 1994، عُثر على الحفريات الأولى لأشباه البشر المجهولين في إثيوبيا. أطلق علماء الأنثروبولوجيا الذين عثروا على هذه البقايا على الاكتشاف الجديد، وهو بقايا هيكل عظمي لأنثى بالغة، اسم «أرديبيثيكوس راميدوس»، أو «آردي» اختصاراً. على مدى السنوات العشر التالية، اكتشفت أكثر من 100 حفرية أخرى من هذا النوع، وقُدّر أنها تعود إلى ما بين 4.2 و 4.4 مليون سنة.

عندما فحص العلماء هذه المجموعة من العظام، حددوا بعض الخصائص التي تشير إلى أن هذا الكائن كان يمشي على قدمين. على سبيل المثال، كان للقدم بنية تسمح بالانحناء بالزاوية التي تنحني بها أقدام البشر اليوم، والتي لا تمتلكها القردة ذات الأرجل الأربعة. شكل عظام الحوض، وكيفية تموضع الرجلين تحت الحوض وكيف تتصل عظام الساق معاً، كلها تشير إلى أن هذا النوع كان يمشي منتصباً أيضاً. ربما لم يكن أفراد هذا النوع يمشون كما يمشي البشر اليوم، ولكن المشي على قدمين كطريقة طبيعية للحركة يبدو كسمة من سمات هذه الأحافير التي تعود إلى 4.4 مليون سنة.

اقرأ أيضاً: ما الذي تخبرنا به الحفريات وعينات الحمض النووي عن تطور ذكاء البشر؟

لوسي: كنزنا الأحفوري في الإجابة عن مختلف التساؤلات

وجد علماء الأنثروبولوجيا في إثيوبيا أيضاً ما يقرب من 40% من الهيكل العظمي لفرد من نوع من أشباه البشر التي عاشت بعد حوالي مليون سنة من آردي. بسبب تشابهه مع الحفريات الأخرى التي وجدت في جنوب وشرق إفريقيا، أطلق العلماء على النوع الذي تعود إليه هذه الحفريات اسم «أسترالوبيثيكوس أفارينيسيس»، وهو مصطلح يعني في اللغة اللاتينية «القرد الجنوبي من المنطقة البعيدة». كان هذا الفرد أنثى، لذا أطلقوا عليها لقب «لوسي» نسبة لأغنية لفرقة «ذا بيتلز» كانت شائعة في ذلك الوقت.

عُثر على العديد من الحفريات من هذا النوع – أكثر من 300 فرد – وأضيفت إلى هذه المجموعة، واليوم، يعرف الباحثون الكثير عن لوسي وأقاربها.

المشي على قدمين بين البشر
صورة لنموذج يستند إلى بقايا «لوسي» وحفريات أخرى لهيكل عظمي يرجع لـ «أسترالوبيثيكوس أفارينيسيس» وجدت في شرق إفريقيا في عام 1974.حقوق الصورة: سميثسونيان.

كان جزء من حوض لوسي محفوظاً بشكل جيد، وهذا هو السبب الذي جعل علماء الأنثروبولوجيا يستنتجون أنها أنثى. تتصل عظام الحوض والجزء العلوي من الساق معاً بطريقة أظهرت أن لوسي كانت تمشي منتصبة على قدمين. لم يُعثر على عظام قدمي لوسي، ولكن الحفريات التي وُجدت لاحقاً لنفس النوع تشمل القدمين، وتشير أيضاً إلى أن أفراد هذا النوع كانوا يمشون على أقدامهم منتصبين.

اقرأ أيضاً: إلى أي مدى كان أسلاف البشر أذكياء؟

المشي على قدمين ربما كان شائعاً بين أفراد الأسترالوبيثيكوس أفارينيسيس

بالإضافة إلى البقايا من الحفريات، وجد العلماء أدلة أخرى رائعة تبين الطريقة التي كان أفراد هذا النوع يتحرّكون بها في منطقة «ليتولي» في تنزانيا. وجد علماء الأنثروبولوجيا تحت طبقة من الرماد البركاني تعود إلى 3.6 مليون سنة آثار أقدام متحجرة على ما كان ذات يوم سطحاً رطباً من الرماد البركاني. تمتد هذه الآثار لمسافة 30 متراً تقريباً، وتشير 70 بصمة فردية إلى وجود 3 أفراد على الأقل كانوا يسيرون بانتصاب على قدمين. بالنظر إلى العصر الذي يفترض أن تعود إليه هذه الآثار، من المرجح أن يكون من صنعها هم أفراد من نوع أسترالوبيثيكوس أفارينيسيس.

تثبت الآثار أن هؤلاء البشر كانوا يمشون على قدمين، لكن يبدو أن طريقة مشيهم تختلف قليلاً عن طريقة مشي البشر اليوم. مع ذلك، تمثّل الحفريات التي وجدت في ليتولي أدلّة حاسمة على وجود كائنات تمشي على قدمين قبل 3.5 مليون سنة.

الهومو إريكتوس: أول من كان يمشي مثلنا

لم يظهر أي نوع من أشباه البشر ذو بنية تشريحية شبيهة بنظيرتها لدى البشر (لدرجة أنه يمكننا القول أنه كان يمشي مثلنا) في إفريقيا إلا منذ 1.8 مليون سنة. كان «هومو إريكتوس» (الإنسان المنتصب) أول من امتلك أرجلاً طويلة وأذرعاً أقصر، مما سمح له أن يمشي ويجري ويتحرك في مناطقه كما نفعل اليوم. كان يتمتّع الإنسان المنتصب أيضاً بدماغ أكبر بكثير من أدمغة الأنواع الأخرى الأقدم من أشباه البشر التي كانت تمشي على قدمين. كما أنه صنع واستخدم أدوات حجرية تسمى «الأدوات الأشولينية». يعتبر علماء الأنثروبولوجيا الإنسان المنتصب قريباً لنا وعضواً مبكراً في جنسنا «هومو» (أي الإنسان).

لذلك، كما ترى، استغرق تطوّر المشي البشري وقتاً طويلاً. إذ أنه ظهر في إفريقيا منذ أكثر من 4.4 مليون سنة، قبل وقت طويل من ظهور صناعة الأدوات.

اقرأ أيضاً: المستعرات العظمى وقدرة البشر على المشي منتصبين: هل هناك علاقة؟

لماذا كان يمشي أشباه البشر بانتصاب؟

ربما مكّنهم ذلك من رؤية الحيوانات المفترسة بسهولة أكبر، أو الجري بشكل أسرع، أو ربما تغيرت البيئة وانخفض عدد الأشجار التي يمكن أن يتسلقها أشباه البشر كما فعل أسلافهم الأوائل.

على أي حال، بدأ البشر وأسلافهم في المشي في وقت مبكر جداً من تاريخهم التطوري. على الرغم من أن المشي على قدمين تطوّر قبل صنع الأدوات، فإن الوضعية المنتصبة حررت اليدين، مما مكّن هذه الأنواع من صنع واستخدام الأدوات، وهي سمة أصبحت في النهاية واحدة من السمات المميزة للبشر.