ذوبان جليد أكبر أنهار القارة القطبية الجنوبية يهدد مستويات البحار في كل العالم

نهر ثويتس الجليدي يذوب من الأسفل
نهر ثويتس الجليدي وكالة ناسا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إذا نظرت إلى القارة القطبية الجنوبية من السماء، لن تلاحظ أية مشكلة. إذ يبدو الجليد المتجمد فوق هذه القارة التي تعتبر أكبر صفيحة جليدية في العالم سويّاً وخالياً من العيوب وجميلاً وأبيض تماماً مثل كعكة زفاف عملاقة، مع وجود دوامات صغيرة من الكثبان الثلجية التي تغطي السطح.

لكن عندما تقترب من حافة هذه الصفيحة الجليدية، ستشعر بقوة كامنة هائلة. تظهر شقوق على سطح الصفحية تنتظم على شكل خطوط متوازية في بعض المناطق وتأخذ شكل قمم مدببة وحواف عشوائية في بعضها الآخر كاشفةً لب الجليد البلوري ذو اللون الأزرق الباهت تحتها.

اقرأ أيضاً: حدث لم يكن متوقعاً: انهيار جرف جليدي شرق القارة القطبية الجنوبية

يزداد حجم هذه الشقوق كلما اقتربت تجاه الأرض. ولكنها ليست مجرد شقوق، بل هي أخاديد كبيرة بما يكفي لتتسع طائرة نفاثة أو أبراج بحجم نصب تذكارية عالية. تظهر منحدرات وتجاويف تبدو كأنها تمزّقات في الصفيحة الجليدية تشير لوجود قوة تستطيع تحريك كتل الجليد هائلة الحجم في الأرجاء. إنها قارة ملتوية وممزقة ومشوهة. ستشعر أيضاً بأن هذه الصفيحة الكبيرة تتحرك بطريقة لا يمكن أن تشعر بها في أي منطقة أخرى لا تحتوي على الجليد في العالم، ويبدو أن هذه الحركة ليست جيدة بالنسبة للقارة.

تتألف القارة القطبية الجنوبية من عدد من الجزر الكبيرة التي تماثل مساحة إحداها مساحة قارة أستراليا، وكلها مدفونة تحت طبقة سميكة من الجليد يبلغ سمكها 3 كيلومترات. تحتوي طبقة الجليد على كمية من المياه العذبة تكفي لرفع مستوى سطح البحر بمقدار 61 متراً تقريباً.

لطالما كانت الأنهار الجليدية في القارة القطبية الجنوبية تتحرك. ولكن تحدث تغيرات تحت الجليد لها تأثيرات عميقة على مستقبل الغطاء الجليدي ومستقبل المجتمعات الساحلية حول العالم.

اقرأ أيضاً: نهر «يوم القيامة» الجليدي على وشك الانهيار

التكسّر والترقق والذوبان والانهيار

أنا أعمل في القارة القطبية الجنوبية. وزرت كعالم قطبي معظم المناطق في الصفيحة الجليدية خلال أكثر من 20 رحلة إلى القارة وقمت بإحضار أجهزة الاستشعار ومحطات التنبؤ بالطقس المحمولة وتجوّلت عبر الأنهار الجليدية وقمت بإجراء قياسات لسرعة تحرك الجليد وسماكته وبنيته.

أعمل حالياً كعالم منسق في جهد بحثي دولي كبير لدراسة أكثر نهر جليدي معرّض للخطر في القارة القطبية الجنوبية (وسأتكلم عنه لاحقاً في هذه المقالة). لقد عبرتُ الصدوع الجليدية بحذر شديد ومشيت بحذر على الجليد الأزرق القاسي الذي تضربه الرياح وقدت مركبة لأيام فوق أكثر التضاريس التي يمكنك تخيلها رتابةً.

حسب ما يعرفه علماء القطب، كانت الصفيحة الجليدية مستقرة خلال معظم القرون الماضية. أصبحنا قادرين على تتبع كمية الجليد المتدفق في الأنهار الجليدية وكمية الثلوج التي تتساقط على السطح منذ بضعة عقود فقط، واستنتجنا أن الصفيحة الجليدية في القارة القطبية الجنوبية كانت في حالة من التوازن النسبي حتى ثمانينيات القرن الماضي.

بدأت التغيرات المبكرة في هذه الصفيحة تظهر ببطء. إذ كانت الجبال الجليدية تنهار ولكن كان يتم تعويض الجليد بتدفق جديد. حسب ما نعرفه من دراسة اللب الجليدي، لم يتغير إجمالي تساقط الثلوج كثيراً منذ قرون، وكان يبدو تدفق الجليد وارتفاع الغطاء الجليدي بشكل عام ثابتاً لدرجة أن الهدف الرئيسي لأبحاث الجليد المبكرة في القارة القطبية الجنوبية كان إيجاد مكان وقعت فيه تغيرات شديدة.

التكسّر والترقق والذوبان والانهيار
تبين خريطة للقارة القطبية الجنوبية كما ترى من الأعلى (تُظهر في معظمها الصفيحة الجليدية) سرعة تدفق الجليد. يظهر نهر ثويتس الجليدي على اليسار. استوديو التصور العلمي في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا

ولكن الآن، مع ارتفاع درجة حرارة الهواء المحيط ومياه المحيط، فإن المناطق التي كانت مستقرة لآلاف السنين في الصفيحة الجليدية في القارة القطبية الجنوبية بدأت تتكسر أو تترقق أو تذوب أو حتى تنهار في بعض الحالات. ترسل لنا حواف الصفيحة الجليدية بتأثرها بالتغير المناخي تذكيراً مهماً. إذا انهار جزء صغير فقط من الصفيحة الجليدية تماماً، فسيكون التأثير على سواحل العالم كبيراً.

مثل العديد من علماء الأرض، أفكر في شكل الأرض كما يبدو تحت الأجزاء التي نراها. ويعني ذلك في حالة القارة القطبية الجنوبية التفكير في التضاريس الموجودة تحت الجليد. ما هو شكل هذه القارة المدفونة وكيف تؤثر هذه الطبقة السفلية على مستقبل الجليد في عالم يزداد احتراراً؟

تخيُّل العالم تحت الجليد

منحتنا الجهود في مزج البيانات التي تم تجميعها من مئات الدراسات التي أجريت في الجو وعلى الأرض خريطة للقارة القطبية الجنوبية الموجودة تحت الجليد. وتبين لنا هذه الخريطة نوعين مختلفين للغاية من التضاريس تفصل بينهما سلسلة من الجبال العابرة للقارة القطبية الجنوبية.

تكون القارة في الجهة الشرقية الأقرب إلى أستراليا وعرة ومخددة وتحتوي على عدد من سلاسل الجبال الصغيرة. تحتوي بعض هذه السلاسل على وديان جبلية تشكّلت بسبب الأنهار الجليدية الأولى التي ظهرت في القارة القطبية الجنوبية قبل 30 مليون سنة عندما كان المناخ هناك يشبه مناخ مقاطعة ألبيرتا في كندا ومنطقة باتاغونيا في أميركا الجنوبية. يقع الجزء الأكبر من الصخور القاعدية في شرق القارة القطبية الجنوبية فوق مستوى سطح البحر. وهذا هو المكان الذي انهار فيه جرف “كوغنر” الجليدي العملاق وسط موجة الحر التي مرت في مارس/آذار 2022 والتي كانت شديدة بشكل غير معتاد.

أما في غرب القارة القطبية الجنوبية، تختلف الصخور القاعدية بشكل كبير، إذ أن بعضها عميق للغاية. كانت هذه المنطقة ذات يوم هي قاع المحيط، وهي المنطقة التي امتطت فيها القارة وانقسمت إلى كتل أصغر مع قاع بحري عميق يفصل بينها. ترتبط الجزر الكبيرة المكونة من سلاسل جبلية بركانية ببعضها بواسطة غطاء كثيف من الجليد. ولكن يكون الجليد في هذا الغطاء أكثر دفئاً ويتحرك بسرعة أكبر.

كانت هذه المنطقة بحراً مفتوحاً على الأرجح منذ 120 ألف سنة، ومن المؤكد أنها كانت كذلك في المليوني سنة التي سبقت ذلك. هذه حقيقة مهمة لأن درجات الحرارة السائدة اليوم تقترب بسرعة من تلك التي كانت سائدة في الفترة قبل بضعة ملايين من السنين.

إن إدراك أن الغطاء الجليدي في غرب القارة القطبية الجنوبية لم يكن موجوداً في الماضي هو مصدر قلق كبير في عصر احترار الكوكب.

المراحل المبكرة للتراجع واسع النطاق

توجد مساحة كبيرة من الجليد باتجاه ساحل المنطقة الغربية من القارة القطبية الجنوبية تسمى نهر “ثويتس” الجليدي. ويعتبر هذا النهر الجليدي الأكبر في العالم، إذ يبلغ عرضه 112 كيلومتراً وتقارب مساحته مساحة ولاية آيداهو الأميركية.

تبين بيانات الأقمار الاصطناعية أن نهر ثويتس الجليدي يمر في المراحل الأولى من تراجع واسع النطاق. إذ أن ارتفاع سطحه ينخفض بمعدل متر واحد تقريباً كل سنة. تشكلّت شقوق كبيرة في الساحل الغربي للقارة القطبية الجنوبية، وبدأت العديد من الجبال الجليدية بالانجراف تجاه البحر. يتحرك نهر ثويتس الجليدي بسرعة تبلغ 1.6 كيلومتراً سنوياً، وتضاعفت هذه السرعة خلال العقود الثلاث الماضية.

لوحظ منذ زمن أن هذه المنطقة الجليدية مرشحة لتفقد اتصالها بالصخور القاعدية. ولذلك سميت “البطانة السفلية الضعيفة” للصفيحة الجليدية.

أظهرت بعض من القياسات الأولى لعمق الجليد والتي أجريت باستخدام السبر بالصدى أن الصخور القاعدية تحت مركز المنطقة الغربية من القارة القطبية الجنوبية كانت تقع على عمق 2.4 كيلومتراً تحت سطح البحر. كانت المناطق الساحلية أكثر ضحالة واحتوت على عدد من الجبال وبعض الأراضي المرتفعة وفجوة كبيرة بين الجبال تقع قرب الساحل. هذه هي المنطقة التي يلتقي فيها نهر ثويتس الجليدي بالبحر.

يعتبر هذا النمط الذي يتسم بوجود طبقة أكثر عمقاً من الجليد قرب وسط الصفيحة الجليدية وصخور قاعدية أكثر ضحالة ولكن منخفضة قريبة من الساحل وصفة للكارثة، وإن كانت كارثة بطيئة.

يتدفق الجليد تحت تأثير وزنه، وهي حقيقة تعلمناها في دروس العلوم في المدرسة الثانوية ولكن لا نفكر فيها كثيراً الآن. يصبح احتمال ازدياد سرعة التدفق أكبر بكثير بوجود كتل عالية وعميقة جداً من الجليد قرب المنطقة الوسطى من القارة القطبية الجنوبية. إذا كان الجليد أكثر ضحالة بالقرب من حواف النهر الجليدي، فستتم إعاقة تدفقه لأنه سيحتك بالصخور القاعدية أثناء حركته وسيحتوي على أعمدة من الجليد في الساحل تكون أقصر وتضغطه للخارج.

اقرأ أيضاً: علماء أبوظبي يكشفون لغز الجرف الجليدي الغامض

إذا تراجع الجليد بما فيه الكفاية، ستتحول الجهة المتراجعة من جليد “رقيق” تبلغ سماكته قرابة كيلومتر واحد إلى جليد أكثر سماكة تجاه المنطقة الوسطى من القارة. سيتدفق الجليد بسرعة أكبر عند الحافة المتراجعة لأنه أصبح أكثر سماكة. ونتيجة لازدياد سرعة التدفق، يسحب النهر الجليد خلفه ويسمح له بالطفو، ما يتسبب بالمزيد من التراجع. هذا ما يعرف بـ “حلقة التغذية الراجعة الإيجابية“، والتي تتسم في هذه الحالة بتراجع الجليد الذي يتسبب بازدياد سماكته عند مقدمة النهر الجليدي، ما يتسبب بدوره بازدياد سرعة التدفق التي تؤدي في النهاية إلى المزيد من التراجع.

المياه الأكثر دفئاً: خطر من الأسفل

لكن السؤال المهم هو كيف يبدأ هذا التراجع؟ حتى وقت قريب، لم تحصل أية تغيرات كبيرة في نهر ثويتس الجليدي منذ أن تم رسم خريطة له في أربعينيات القرن الماضي. اعتقد العلماء أولاَ أن التراجع قد ينتج عن ارتفاع درجة حرارة الرياح وذوبان الجليد على السطح. لكن ليس من السهل اكتشاف سبب التغيرات التي طرأت على نهر ثويتس والتي تظهر في بيانات الأقمار الاصطناعية من السطح.

لكن يصبح سبب التراجع واضحاً تحت الجليد في المنطقة التي تنفصل فيها الصفيحة الجليدية أولاً عن القارة وتبدأ في البروز فوق المحيط كجرف جليدي عائم. في هذه المنطقة، تتسبب المياه التي تتجاوز درجة حرارتها درجة الانصهار بتآكل قاعدة الجليد وزوالها كما يذوب مكعّب من الجليد في كوب من الماء.

تلتقي المياه القادرة على تذويب ما مقداره 15-30 متراً من الجليد سنوياً بحافة الصفيحة الجليدية في هذه المنطقة. ويتسبب التآكل بتدفق الجليد بسرعة أكبر، ما يدفع الجرف الجليدي العائم.

يعتبر الجرف الجليدي أحد العوامل التي تعيق تدفق الصفيحة الجليدية. لكن الضغط الذي يمارسه الجليد على اليابسة يتسبب في تكسّر هذا الجرف الجليدي ببطء. ما يتسبب بظهور شقوق كبيرة مثل تلك التي تظهر في لوح خشبي يتعرض لضغط كبير. عندما ينهار هذا الجرف (وتشير خرائط الشقوق وسرعة التدفق أن هذا سيحصل بعد بضع سنوات فقط)، سيمثل ذلك أحد العوامل التي ستدفع الجليد للتدفق بسرعة أكبر، ما سيعزز حلقة التغذية الراجعة.

اقرأ أيضاً: انفصال جبل جليدي بحجم ولاية ديلاوير الأميركية في القارة القطبية الجنوبية

ارتفاع في مستوى سطح البحر يبلغ 3 أمتار على الأقل

يبدو منظر القارة المغطاة بالجليد من معسكرنا هذا العام مهيباً. إذ يرتفع نهر جليدي ضخم يتدفق باتجاه الساحل ويمتد من الأفق إلى الأفق إلى منتصف الغطاء الجليدي الغربي في القارة القطبية الجنوبية. هناك شعور ملموس بأن الجليد يتحرك تجاه الساحل.

يبقى الجليد جليداً في النهاية، ولا يستطيع التحرك بسرعة كبيرة بغض النظر عن سبب حركته. لكن هذه المنطقة الكبيرة المسماة غرب القارة القطبية الجنوبية يمكن أن تمر قريباً في مرحلة من التراجع تستمر عدة قرون من شأنها أن ترفع مستوى سطح البحر بما يصل إلى 3 أمتار. سيزداد نتيجة لذلك معدل ارتفاع سطح البحر ليبلغ عدة أضعاف معدلاته السابقة، ما سيولّد تحدّيات كبيرة للأشخاص الذين يعيشون في المناطق الساحلية، والذين يمثّلون كل البشر تقريباً.