ناسا تستكشف الأرض استعداداً لاستكشاف الفضاء

تخيل فني للمركبة الفضائية كاسيني وهي تغطس عبر فوارات إنسيلادوس في 2015. مصدر الصورة: ناسا/ مختبر الدفع النفاث – معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بدأنا استكشاف الكون منذ حوالي 60 سنة، ولكننا لم نعثر على أي دليل حتى الآن على وجود الحياة خارج كوكبنا في نظامنا الشمسي، وما زال العلماء يعتقدون بإمكانية وجود أشكال حياتية في الفضاء، ولكن بعض أفضل الأماكن المحتملة تختبئ تحت طبقات جليدية سميكة على أقمار مثل أوروبا وإنسيلادوس، وستقوم البعثات المقبلة -مثل أوروبا كليبر، وأية بعثات محتملة إلى إنسيلادوس- بالبحث عن أدلة على إمكانية وجود الحياة، وربما تبحث عن الحياة الميكروبية نفسها في المحيطات تحت الطبقات الجليدية، ولكن ناسا تحتاج -قبل أن نصل إلى تلك العوالم الفضائية لتحديد مدى صلاحيتها للحياة- إلى أن تفهم هذه البيئات بشكل أفضل، ويبدو أن أفضل مكان لهذا هو هنا على الأرض.

لذلك فسيستضيف قريباً قعر البحر البركاني -على عمق حوالي 4 كيلومترات تحت سطح الماء- قرب هاواي بعثة جديدة من ناسا تسمى سابسي (اختصاراً لعبارة المحاكاة المنهجية للاستكشاف والعمل العلمي البيولوجي الجيولوجي الكيميائي تحت سطح البحر)، وتهدف هذه البعثة إلى استكشاف إمكانية الحياة في الجبل البحري لو إيهي قرب ساحل الجزيرة الكبيرة؛ وذلك لمحاكاة العمل على الأقمار الجليدية مثل إنسيلادوس.

الفضاء على الأرض

ستنفذ سابسي عملياتها انطلاقاً من سفينة نوتيلوس لاستكشاف المنطقة بدقة، وستطلق غواصتين يتم التحكم بهما عن بعد باسم هيركيوليز وأرجوس؛ تقول الدكتورة دارلين ليم (وهي الباحثة الأساسية في سابسي): “سنجري الدراسة من وجهة نظر فهم علوم المحيطات بشكل عام، كما أن المنطقة تمثل محاكاة ممتازة لأنظمة مائية حرارية يحتمل وجودها في أماكن مثل إنسيلادوس وأوروبا”.

تأخر انطلاق نوتيلوس في بعثتها بسبب اقتراب الإعصار لين، والذي يتجه حالياً نحو منطقة البركان الكامن تحت الماء، ويمكنك أن تشترك مع د. ليم ونوتيلوس في البعثة عن طريق مشاهدة فيديوهات البث المباشر من السفينة هنا، أو في هذا المقطع حين يبدأ عمل البعثة العلمية.

عندما حلقت المركبة الفضائية كاسيني عبر فوارات إنسيلادوس، فإنها تشمَّمت وتذوقت وحلَّلت التركيب الكيميائي للسائل المائي، بل إنها أشارت إلى درجة الحرارة المحتملة عند مصادر الفوارات؛ تقول ليم: “لقد استخدمنا المحيط العميق كمحاكاة للأنظمة المحيطية الأخرى في النظام الشمسي، ولكن كانت تُستخدم أنظمة سلاسل جبلية في وسط المحيط (مثل المداخن السوداء) في العديد من المرات التي تم فيها هذا الأمر، ويخطر هذا على بال العديدين عندما يفكرون في المداخن في أعماق المحيط”.

ولكن المشكلة مع هذه المداخن السوداء -وهي مداخن مائية حرارية تطلق كبريت الحديد- هي أن حرارتها تتراوح حول 371 درجة مئوية، ووفقاً لبيانات كاسيني فإن حرارة فوارات إنسيلادوس تتراوح حول 149 درجة مئوية، وهو فرق كبير للغاية، ولكن من حسن الحظ أن لو إيهي به مداخن بيضاء تطلق الباريوم والكالسيوم والسيليكون، ولا تتجاوز حرارتها 200 درجة مئوية، بالإضافة إلى أن الضغط تحت الماء في موقعها قرب هاواي يُتوقع أن يماثل الضغط على إنسيلادوس.

ولا تتوقف التشابهات بين الأرض وإنسيلادوس عند هذا الحد؛ حيث إن المداخن البيضاء على الأرض تطلق مادة كيميائية تعرف باسم الهيدروجين الجزيئي، وهي المادة التي أعلنت ناسا هذه السنة أن كاسيني اكتشفت وجودها في فوارات إنسيلادوس قبل أن تنتهي مهمتها؛ تقول ليم: “إن هذه البيانات تدعم الفرضية القائلة بحدوث عمليات متشابهة على الأرجح في كلا الموقعين”.

 

المداخن البيضاء: مداخن مائية حرارية قرب بركان إيفوكو تحت سطح البحر في المحيط الهادي، وهي مماثلة للمداخن التي ستدرسها بعثة سابسي في هاواي.
مصدر الصورة: الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي

البحث عن الحياة

قد يذكرنا استكشاف أعماق البحار بصور سمك أبو شص والدودة الأنبوبية الكبيرة والمخلوقات ذات الإضاءة الحيوية، وغيرها من الصور التي تبدو خارجة من أعماق الكوابيس، ولكن المداخن المائية الحرارية مثل تلك الموجودة في تلك المنطقة الواقعة في قعر البحر تحتوي غالباً على أشكال ميكروبية من الحياة بدلاً من تلك المخلوقات المرعبة، وبما أن الحياة على الأقمار الجليدية في نظامنا الشمسي قد تكون مشابهة لتلك الميكروبات، فإن الباحثين يحاولون تعلُّم المزيد عن هذه التجمعات في أعماق البحار.

وستغطس الغواصتان من السفينة إلى عمق حوالي 4 كيلومترات تحت سطح الماء خلال فترة البعثة التي ستدوم ثلاثة أسابيع؛ وذلك لدراسة التفاعلات بين الماء والصخور قرب البركان، وبما أن هذه الظروف بالتحديد تدعم وجود الحياة على الأرض، فمن الممكن أن يحدث أمر مشابه في مكان آخر من النظام الشمسي؛ تقول ليم: “نريد أن ندرس تفاعلات الماء مع الصخور حتى نفهم ما يحدث، فمثلاً إذا حدث تفاعل بين هذا النوع من البازلت وذاك النوع من الماء، فسنتوقع حدوث شيء مماثل على إنسيلادوس. ونحن لا نعرف بالضبط أنواع الكائنات الميكروبية في المنطقة المجاورة وامتدادها، ولكننا نتوقع وجود اختلاف مثير للاهتمام عما هو موجود مباشرة قرب نقاط المداخن المائية الحرارية”.

كما ستقوم الغواصتان الروبوتيتان بجمع عينات الصخور والماء، وستتيحان للفريق دراسة البنية الجيولوجية للمنطقة لأول مرة كما يراها علماء الكواكب، ويمكن لفريق سابسي -بجمع هذه البيانات قرب لو إيهي- أن يبني نماذج وفرضيات حول ما يمكن أن نراه على إنسيلادوس وغيره من الأقمار الجليدية التي يُعتقد وجود أنظمة مائية حرارية في قيعان محيطاتها.

الاستعداد للفضاء

إن البحث عن الحياة في لو إيهي ليس الهدف الوحيد لفريق سابسي، بل إنهم سيبثُّون هذه البعثة التي ستدوم ثلاثة أسابيع بشكل مباشر، كوسيلة لدراسة التأخير الزمني الذي لا مفر منه في بعثات الفضاء العميق؛ حيث يوجد بين الأرض والقمر تأخير في الاتصالات لحوالي ثانيتين فقط، ولكن يجب على الضوء أن يسير لفترة 14 دقيقة حتى يصل إلى المريخ، وحوالي 90 دقيقة حتى يصل إلى إنسيلادوس، ويجب أن ننظر إلى هذه التأخيرات بعين الاعتبار عند تشغيل عربة جوالة أو غواصة عن بعد؛ تقول ليم: “إن الحصول على بعض المعلومات الأساسية حول استكشاف أعماق الفضاء لهو أمر يدعو للحماس بالنسبة لي؛ حيث سنستخدم محاكاة عالية الدقة للحصول على تصوُّر أولي حول كيفية اتخاذ القرارات عن طريق هذا البث التلفزيوني ببنية ذات تأخير منخفض، وسيمكِّننا هذا من العمل عن بعد ليس على المريخ فقط، بل على القمر والكويكبات وما شابه”.

ويتم تنفيذ المهمة على متن سفينة في هاواي، أما مركز التحكم في سابسي فيقع في رود آيلاند؛ أي على بعد أكثر من 8,000 كيلومتر، ويعمل الفريق عن طريق مراقبة البث المباشر من الكاميرات تحت الماء وجمع البيانات من مسافات بعيدة، مما يؤدي إلى تأخير زمني في العمل. ويمكن باختبار النظام على الأرض بهذه الطريقة أن تكتسب البعثات الأخرى المزيد من المعلومات حول تحديات إرسال البيانات من كوكب آخر، فإذا عجزنا مثلاً عن إرسال فيديو عالي الدقة إلى موقع آخر على الأرض، فكيف يمكن أن نفعل نفس الشيء في المريخ؟ حيث ستتضمن أولى البعثات المأهولة إلى المريخ غالباً تشغيل عربة جوالة أو آلة علمية مدارية عن بعد، ويمكن لاختبارات كهذه أن تساعد على تصميم هذه البنية التحتية الضرورية، قبل أن نحتاجها فعلياً في بعثة إلى إنسيلادوس.

وعندما تعود نوتيلوس إلى البحر في العام القادم، فستفعِّل ليم وفريقها تأخيراً زمنياً يحاكي التأخير الزمني بين الأرض والمريخ، ولكن مع تقليله إلى 10 دقائق بدلاً من التأخير الطبيعي البالغ 14 دقيقة؛ وذلك لاختبار الصعوبات الناجمة عنه بشكل أوَّلي. تقول ليم: “هذه البعثة مثيرة؛ لأننا نرغب في دراسة الوضع الحالي للحياة في هذه العوالم المحيطية في النظام الشمسي، وبالتالي فإن من الرائع أن نتمكن من استخدام هذه الأنظمة الأرضية كوسيلة لوضع بعض الفرضيات حول ما يمكن توقعه في عالم محيطي على كوكب آخر”.