باحثون يكتشفون إثباتاً على تزاوج إنسان النياندرثال مع أنواع بشرية أخرى

منظر الوادي من فوق موقع كهف دينيسوفا الآثاري، روسيا.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

منذ حوالي 90,000 سنة، دخل رجل وامرأة إلى كهف روسي، وأنجبا طفلة بعد تسعة أشهر، ليس هناك أي شيء غريب حول هذا الموضوع، باستثناء كون الرجل والمرأة من نوعين مختلفين من البشر؛ فقد أجرى مجموعة من الباحثين الألمان تحليلاً جينياً جديداً على قطعة عظم وُجدت في سيبيريا، وتبيَّن لهم أنها في الواقع تنتمي لفتاة مراهقة من أم نياندرثالية وأب دينيسوفي، وقد نشرت النتائج مؤخراً في مجلة Nature، وهي تمثل أول دليل معروف على وجود سلالة مباشرة من هذين النوعين، وهو ما يؤكد الشكوك القوية للعلماء في وجود تزاوج بينهما.

يقول إيان تاترسال (القيِّم السابق على قسم علم الإنسان في متحف التاريخ الطبيعي الأميركي، ولم يكن مشاركاً في الدراسة): “من المرجح أنه لم يوجد الكثير من هؤلاء الأفراد الهجينين، ولهذا تعتبر هذه النتيجة مذهلة، إنها أقرب إلى الفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب”.

ويعتبر إنسان نياندرثال والإنسان الدينيسوفي من أقرب الأقرباء المنقرضين للإنسان العصري، وكانت تجمعات كلا النوعين تجوب أوروبا وآسيا، وبعد اكتشاف الإنسان الدينيسوفي في 2010 في كهف دينيسوفا في جبال ألتاي في سيبيريا، أشارت التحاليل إلى أن سلالتَي الإنسان الدينيسوفي وإنسان نياندرثال تفرعتا عن سلف مشترك منذ حوالي 390,000 سنة، وبدأتا بالانقراض منذ حوالي 40,000 سنة، وقد كان العلماء شبه متأكدين من وجود تزاوج بين النوعين، وبين الإنسان العاقل أيضاً؛ نظراً لوجود آثار من الدنا لكلا النوعين لدى البشر العصريين.

ويتمتع كهف دينيسوفا نفسه بتاريخ غريب ومتقلب؛ فقد اكتشف الباحثون من قبل عظم إبهام قدم لإنسان نياندرثال بعمر 120,000 سنة تقريباً، مما يشير إلى احتمال تغيُّر سكان الكهف بسرعة عبر السنوات. وقد أمضى الباحثون بعض الوقت وهم يعملون على تحليل بضع أحفوريات للإنسان الدينيسوفي قد استخرجت من هذا الكهف، كما كان أيضاً موطناً لعظم الفتاة الهجينة.

وقد تمكن باحثو معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري من الحصول على قطعة العظم لإجراء التحاليل الجينية، وتوصلوا إلى أنها على الأرجح من ذراع أو ساق أنثى مراهقة ماتت بعمر حوالي 13 سنة، وقد لا تبدو هذه المعلومات مهمة، ولكنه مقدار جيد بالنسبة لقطعة عظمية بطول سنتمترين تقريباً.

غير أن الفريق لم يقف عند هذا الحد؛ فقد أجروا جولة أولية من التحليل على دنا المتقدرات (جزء الخلية المسؤول عن توليد الطاقة)، وأثبتوا بنتيجتها أن العظم ينتمي لإنسان بدائي من أم نياندرثالية، ثم بدؤوا بعد ذلك في دراسة الدنا للنواة، والذي يُورَّث بشكل متساوٍ من الأب والأم.

وتوصل الفريق إلى نتيجة مثيرة للدهشة؛ وهي أن العظم كان يحتوي على مقادير شبه متساوية من دنا إنسان النياندرثال ودنا الإنسان الدينيسوفي، وبعد التحقق من دقة التحليل أدرك الفريق أن النتائج تعني أن الأب كان دينيسوفياً، بالإضافة إلى أنه قد تشارك في المادة الجينية مع امرأة دينيسوفية أخرى عاشت في نفس الكهف بعده بعدة آلاف من السنوات، وقد اكتُشف عظم إصبع يدها الصغير في 2010، ومن ناحية أخرى كانت الأم النياندرثالية على قرابة غالباً مع مجموعة من النياندرثال الذين عاشوا في منطقة أبعد باتجاه الغرب -حيث توجد كرواتيا حالياً- بعد موت الأنثى الهجينة بحوالي 20,000 سنة.

ولا يمكن التقليل من أهمية وندرة هذا الاكتشاف، لكن المعلومات المحدودة التي يمكن الحصول عليها من هذا العظم تحدُّ بعض الشيء من حماسنا؛ حيث تقول تاترسال إن العثور على دليل محفوظ على تزاوجٍ بين أنواع مختلفة من البشر هو أمر نادر للغاية، ولكن هذه القطعة لا تقدم أية معلومات جديدة حول التركيب البيولوجي أو السلوك عند النياندرثال أو الدينيسوفيين، سواء من ناحية التجمعات المستقلة أو المختلطة. صحيحٌ أن الاكتشاف مذهل، غير أن من الصعب استغلاله في التوصل إلى معلومات جديدة حول أي من السلالتين.

وإنه لأمر مؤسف؛ فعلى الرغم من غِنى معلوماتنا عن فيزيولوجيا النياندرثال وأسلوب حياتهم، لكن تاترسال يقول إننا “لا نعرف أي شيء عملياً عن الإنسان الدينيسوفي، وتقتصر معلوماتنا عنه على الدنا فقط، كما نعلم أن البشر الدينيسوفيين قد تزاوجوا أيضاً مع البشر العصريين، ولكن ليس لدينا أدنى فكرة عما حلَّ بهم، باستثناء اختفائهم بطبيعة الحال، ولا شك في تزاوج بشر النياندرثال مع البشر العصريين أيضاً، ولكن لم يكن لهذا أي تأثير يذكر على أي من السلالتين، وقد انقرض النياندرثال على حالهم بشكل مؤكد”، والمعلومات الجديدة لا تضيف إلينا أي شيء عن الدينيسوفيين؛ سواء من ناحية المنظر أو الغذاء أو العادات الاجتماعية… لا شيء على الإطلاق.

غير أن الدراسة تقترح أن التزاوج بين السلالات البشرية البدائية كان -غالباً- أكثر شيوعاً مما كنا نعتقد؛ حيث يشير كهف دينيسوفا وعيِّناته إلى أن النياندرثال والدينيسوفيين كانوا يعيشون جنباً إلى جنب، ومن الممكن أنهم كانوا يشكِّلون مجموعات عائلية بوتيرة مرتفعة، وهو ليس بالأمر المفاجئ، حيث إن الأب الدينيسوفي للمراهقة الهجينة مثلاً يحمل دلالات جينية على وجود أسلاف من النياندرثال، ولكن هذه النتيجة تزيد من تعقيد الأمور؛ فإذا كان التزاوج بين النياندرثال والدينيسوفيين ممكناً -وربما شائعاً- فلماذا بقيت المجموعات السكانية لكلا النوعين متمايزة حتى الانقراض؟

من المرجح أن هناك المزيد من العظام الهجينة التي تنتظر من ينقِّب عنها ويدرسها، ومن المؤكد أن الحصول على المزيد من العيِّنات الدينيسوفية سيساعدنا على اكتشاف المزيد حول الصفات البيولوجية والسلوكية لهذا النوع… وربما المزيد من المعلومات حول علاقاتهم العاطفية أيضاً.