ما أسباب انفصال البشر عن الطبيعة وكيف يمكن ردم الهوة بينهما؟

ما أسباب انفصال البشر عن الطبيعة وكيف يمكن ردم الهوة بينهما؟
علاقتنا مع الطبيعة تتغير. أنسبلاش
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل أصبح الناس اليوم أقل ارتباطاً بالطبيعة مقارنة بالأجيال السابقة؟ وهل يؤثر الانفصال عن الطبيعة على مدى اهتمامنا بتغيّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والقضايا البيئية الأخرى؟

إن هذه الأسئلة هي محور دراسة جديدة من المركز الألماني لأبحاث التنوع البيولوجي التكاملي (the German Centre for Integrative Biodiversity Research) ومحطة علم البيئة النظري والتجريبي (the Theoretical and Experimental Ecology Station) في فرنسا. فقد اطّلع العلماء على الدراسات الحالية التي تدرس علاقة الإنسان بالطبيعة، ووجدوا أننا بشكلٍ عام، كنا نتفاعل مع الطبيعة بدرجة أقل على مدى العقود القليلة الماضية. وكشفوا أيضاً أن البشر في جميع أنحاء العالم يعيشون بعيداً عن الأراضي غير المستصلحة، ويعيشون بشكل متزايد في المدن، التي فقدت الغطاء النباتي بمرور الوقت. نُشرت النتائج في ديسمبر/ كانون الأول في مجلة فرونتيرز إن إيكولوجي آند ذا إنفايرونمينت (Frontiers in Ecology and the Environment).

اقرأ أيضاً: تريد فهم التنوع الحيوي للغابة بشكلٍ أفضل؟ اسأل السكان المحليين

تضييق الفجوة بين الإنسان والطبيعة

وفقاً لنظرية انقراض التجربة، فإن التفاعلات مع الطبيعة تتلاشى في المجتمعات الحديثة، ما يؤدي إلى احتمال فقدان الاهتمام بها. لطالما كانت هذه النظرية شائعة في علم النفس البيئي، لكن الأدلة التجريبية لإثباتها قليلة. وتحاول هذه الدراسة الأخيرة تضييق هذه الفجوة.

حيث يقول المؤلف الرئيسي للدراسة، فيكتور كازاليس، باحث ما بعد الدكتوراة في المركز الألماني لأبحاث التنوع البيولوجي التكاملي (the German Centre for Integrative Biodiversity Research) وجامعة لايبزيغ (Leipzig University)، في بيان صحفي: “إنّ معرفة التفاعلات بين الإنسان والطبيعة أمرٌ بالغ الأهمية، لأنها أساسية في بناء سلوكياتنا وعلاقتنا مع الطبيعة”.

وقد استعرض الباحثون دراسات من جميع أنحاء العالم تقيس تفاعل الإنسان مع الطبيعة. كما قاموا أيضاً بحساب مؤشرات أخرى يمكن أن تدل على تلك العلاقة، مثل المسافة التي يعيشها الشخص العادي بعيداً عن الأراضي غير المستصلحة، وعدد الأشخاص الذين يعيشون في المدن وعدد الأشجار الموجودة فيها. وقد عرّفوا تجربة الطبيعة على أنها أي تفاعل يقوم به شخص ما مع الطبيعة، مثل زيارة حديقة وطنية، أو رؤية ثعلب في حديقة المدينة، أو مشاهدة المناظر الطبيعية في أفلام ديزني.

اقرأ أيضاً: 5 أمور من حياتنا اليومية يمكن أن تجعل بيئتنا أكثر استدامة وصحة

ووجدوا أن تفاعل الإنسان مع الطبيعة قد انخفض في العقود القليلة الماضية. يقول كازاليس لمجلة العلوم للعموم (Popular Science): “ما أظهرناه بشكل أساسي هو أن أميركا الشمالية وأوروبا الغربية أكثر انفصالاً عن الطبيعة مقارنة ببقية العالم، لكن تلك البقية تسير في الاتجاه نفسه أيضاً”.

تمثيل أقل للطبيعة في الناتج الثقافي البشري

إن أحد المقاييس الرئيسية التي برزت هو أن هناك تمثيلات أقل للطبيعة في النتاج الثقافي. فعلى سبيل المثال، تصوّر أفلام ديزني بشكل متزايد مناظر حضرية فقط. يقول كازاليس: “بالنسبة لسكان المدن، يمكن أن تكون هذه المنتجات الثقافية وسيلة مهمة حقاً لتكوين فكرة عن الطبيعة، ليس فقط لدى الأطفال، ولكن أيضاً لدى البالغين”.

ومع ذلك، يحذّر الفريق من أنه لا تزال هناك فجوات كبيرة في البحث. ويوضّح كازاليس أنه لا توجد أدلة كافية لإصدار أي بيانات قاطعة حول نطاق ومدى تراجع التفاعلات البشرية مع الطبيعة. بعد البحث في ملايين الدراسات في قاعدة البيانات، تبين وجود نحو 18 دراسة فقط تناسب معايير البحث، وقد نُشرت غالبية تلك الدراسات في أميركا الشمالية، أو أوروبا الغربية، أو اليابان.

كما أن الدراسة لم تأخذ في الاعتبار تأثير جائحة كوفيد-19 على تفاعلات الإنسان مع الطبيعة. وبينما وجدت دراستان أن الجائحة قد زادت من تفاعل الناس مع الطبيعة، فإن تأثير الجائحة لم يكن ممثلاً لما أردنا قياسه، مع التنويه بأن هذا التفاعل ربما يكون مؤقتاً، وبعد ذلك، يبدأ الناس في العودة إلى ما كانوا عليه، على حد قول كازاليس.

اقرأ أيضاً: 4 أسباب تجعل الحفاظ على البيئة أهم أهدافنا

أمل ضئيل في زيادة تواصل الناس مع الطبيعة

قام مؤلفو الدراسة أيضاً بدراسة الاتجاهات العامة حول الفرص المتاحة للناس للتواصل مع الطبيعة. حيث يعيش الناس في جميع أنحاء العالم بعيداً بعض الشيء عن الأراضي غير المستصلحة، أو الأراضي ذات الأنشطة البشرية المحدودة، مقارنة بما كانوا عليه سابقاً. من عام 2000 إلى عام 2020، عاش الفرد على بعد نحو 5.6 أميال من الأراضي غير المستصلحة، وارتفع هذا الرقم إلى نحو 6 أميال بحلول عام 2020. يقول كازاليس: “رغم أن هذه الزيادة بنسبة 7% قد تبدو صغيرة، فإنها لا تزال تغيّراً ملحوظاً عند النظر إلى المشهد الكلّي، وأعتقد أن هذه النسبة مهمة كمتوسط عالمي لأنها حدثت في غضون 20 عاماً، كما أنها مسألة لا يمكن تغييرها، وبالنسبة لبعض البلدان فإن هذه الزيادة أكثر أهمية”.

وقد وجدوا أيضاً أن عدداً أكبر من سكان العالم يعيشون في مدن أكثر من أي وقتٍ مضى. في عام 1960، كان 34% فقط من الناس حول العالم يعيشون في المناطق الحضرية، ولكن بحلول عام 2020 ارتفع هذا العدد إلى 56%. وفي تلك المدن، أصبحت المساحات الخضراء أقل من السابق. فمن بين المدن التي تم مسحها في 133 دولة في عام 2000، كانت الأشجار تكسو 5% على الأقل من المناطق الحضرية. ولكن بحلول عام 2020، شهدت جميع تلك المناطق تراجعاً طفيفاً في الغطاء الشجري.

نظرية انقراض التجربة

تقول أستاذة علم النفس في كلية ووستر، سوزان كلايتون، التي كتبت عن علم النفس البيئي، لمجلة العلوم للعموم  في تصريحٍ لها: “أعتقد أنها دراسة قيّمة ودقيقة، المؤلفون محقّون في أن نظرية انقراض التجربة تحتاج إلى مزيد من الدعم التجريبي، والمزيد من التوضيحات حول المقصود بتجربة الطبيعة، ومن المؤكد أن هناك تغييرات في الطرق التي نختبر بها الطبيعة، ولكن كما توضّح هذه الدراسة، فإن الأمر ليس بهذه السهولة”.

يعتقد علماء النفس البيئي أن التفاعلات مع الطبيعة مهمة لأنها تحدد كيف نقدّر هذه المساحات، التي يمكن أن تؤدي إلى سلوكيات مناصرة للبيئة. يقول كازاليس: “إن هذا معترف به بشكل متزايد على الصعيد العالمي”. في أحدث مؤتمر عالمي حول فقدان التنوع البيولوجي في مونتريال، كوب 15 (COP15)، قالت حكومات العالم إن أحد أهدافها هو زيادة المساحات الخضراء في المناطق الحضرية.

ويقول كازاليس: “تقول جميع الدراسات في علم النفس البيئي إن هناك تأثيراً لتجارب الطبيعة على الطريقة التي نتصرف بها، والأهم من ذلك، على قيمنا وآرائنا السياسية، وهذا لا يعني ألّا يكون لدينا اهتمام بالطبيعة إذا لم نختبرها، ولكنه يُظهر أن الاهتمام بالطريقة التي نتفاعل بها مع الطبيعة هو أساس التحدّيات المجتمعية الكبيرة التي نواجهها”.

اقرأ أيضاً: هل تكفي إضافة المزيد من المساحات الخضراء للمدن لمواجهة التغير المناخي؟

يقول كازاليس: “رغم أن فقدان التفاعل مع الطبيعة قد يكون نتيجة حتمية للتنمية إلى حدٍّ ما، فإن هناك أشياء يمكن أن يفعلها الناس للحد من ذلك، مثل زيادة المساحات الخضراء في المناطق الحضرية، وزيادة تمثيل الطبيعة في النتاج الثقافي مثل الروايات وكتب الأطفال وأفلام ديزني”.

ويضيف: “إنّه ليس أمراً عاجلاً، إذ نحتاج أولاً إلى وقف تدهور التنوع البيولوجي، ولكن على المدى البعيد، نحتاج إلى الاهتمام بهذا التفاعل وبالطريقة التي نتواصل بها مع الطبيعة”.