كيف يمكن أن تساعد المواد الوراثية المحفوظة في فهم الأنظمة البيئية القديمة؟

قبل أكثر من مليوني عام، كانت جزيرة غرينلاند خضراء بالفعل. بيث زيكن (bethzaiken.com)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على الرغم من اسمها، فإن جزيرة غرينلاند ليست مكاناً تتوقّع أن تجد الحدائق فيه. تتجاوز مساحة هذه الجزيرة مساحة المكسيك. وهي تأوي أقل من 60 ألف مواطن يعيش معظمهم على طول الساحل جنوب الغربي للبلاد، وهذا ليس غريباً؛ إذ إن معظم المناطق الداخلية من هذه الجزيرة مغطّاة بالجليد، وفي العديد من المناطق يعتبر الهواء جافاً لدرجة تمنع حتّى تشكّل الثلوج.

مع ذلك، على الساحل الشمالي المقفر للجزيرة، اكتشف الباحثون وجود نظام بيئي قديم يبدو مختلفاً تماماً عن النظام السائد حالياً. قبل وقت طويل من وصول الإنسان الحديث إلى شواطئ هذه الجزيرة، سارت حيوانات الماستودون عبر غاباتها المورقة وازدهرت السرطانات في شعابها المرجانية.

جزيرة غرينلاند المزدهرة في الماضي

بدلاً من استخدام المستحاثات لاكتشاف ماضي غرينلاند، استخدم علماء الأحياء والجيولوجيا طريقة أخرى، وهي دراسة الحمض النووي الذي يصل عمره إلى 2.4 مليون سنة والمستخلص من أرض هذه الجزيرة. في ورقة بحثية نُشرت بتاريخ 7 ديسمبر/ كانون الأول 2022 في مجلة نيتشر (Nature)، حلل الباحثون أقدم المواد الوراثية التي تم إيجادها على الإطلاق لفهم طبيعة إحدى مناطق جزيرة غرينلاند في فترة كان فيها مناخ الأرض أكثر دفئاً.

يقول عالم البيئة في جامعة كوبنهاغن في الدنمارك وجامعة كامبريدج في المملكة المتحدة وأحد مؤلفي الدراسة الجديدة، إيسكيه ويلرسليف (Eske Willerslev): “تبيّن دراستنا وجود نظام بيئي لا مثيل له اليوم”.

اقرأ أيضاً: كيف تساعد دراسة الدببة القطبية في حدائق الحيوان على إنقاذها في القطب الشمالي؟

الحمض النووي البيئي

يعتبر أي نوع من الحمض النووي القديم اكتشافاً نادراً. وفي حين أن العلماء يستخرجون هذه المواد الوراثية من الحيوانات الحية، فإنها تتلف بسرعة بعد الموت. عندما يكون الكائن الحي على قيد الحياة، فهو ينتج الكثير من المواد ويطلقها في البيئة، من الشعر إلى البراز إلى الجلد الميت وغيرها. ويمكن أن يستخدم العلماء الحمض النووي الموجود في تلك المخلفات للتعلّم عن الأنواع التي يعود لها. يطلق العلماء على هذه الآثار اسم الحمض النووي البيئي (أو إي دي إن أيه اختصاراً).

يقول عالم الأحياء في جامعة غويلف في كندا، مهرداد حاجبابائي (Mehrdad Hajibabaei)، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: “تشبه هذه الطريقة في الدراسة التحليل الجنائي الذي يتم إجراؤه في مسرح الجريمة”، ويضيف: “تمكّننا هذه الطريقة من تحديد الأنواع التي عاشت في تلك البيئات”.

أثبتت هذه الطريقة في الدراسة، والتي تعتبر جديدة نسبياً، فاعليتها في تقييم التنوّع الحيوي واكتشاف الأنواع الجديدة وتعقّب الأنواع الغازية. لكن الدراسة الجديدة هي الأولى التي تستخدم الحمض النووي البيئي لإعادة بناء نظام بيئي قديم كامل. لا شك في أن المناخ القاسي لغرينلاند ساعد في حفظ المواد الوراثية.

الحمض النووي البيئي
إيسكيه ويلرسليف وزميله يستخلصان العينات من رواسب الحمض النووي البيئي في شبه جزيرة بيري لاند في غرينلاند. بإذن من نوفا، أتش أتش إم آي تانغلد بانك ستوديوز وهاندفول أوف فيلمز

في معظم الحالات، يتحلل الحمض النووي البيئي إلى غبار بمرور الزمن. ولكن في بعض الظروف الخاصة، مثل إذا بقيت هذه المواد جافة أو ملتصقة بالمعادن أو مجمدة، يمكن أن تبقى لآلاف أو ربما حتى ملايين السنين. تم إيجاد الحمض النووي البيئي الذي حُلل في الدراسة الجديدة من شبه جزيرة بيري لاند التي تقع على ساحل القطب الشمالي في غرينلاند، على بُعد نحو 724 كيلومتراً فقط جنوب القطب الشمالي.

قام ويلرسليف وعدد من زملائه أولاً باستخراج عينات من التربة الصقيعية في شبه جزيرة بيري لاند في عام 2006. في البداية، لم يكونوا متأكدين ما إذا سيتمكّنون من إيجاد الحمض النووي البيئي في هذه العينات. وعلى الرغم من أن الفريق حاول باستمرار تطبيق طرائق جديدة لاستخراج الأدلة من المعادن الموجودة في العينة، كانت معظم الجهود بلا جدوى. يقول ويلرسليف: “لقد راجعنا هذه العينات، وفشلنا مراراً وتكراراً حتى يوم ما منذ عامين”.

اقرأ أيضاً: هل يتشكل الشفق القطبي قرب القطب الشمالي فقط؟

كيف تمكن الفريق من استخراج الحمض النووي من العينات؟

إذاً ما الذي تغيّر؟ طوّرت عالمة الجيولوجيا وإحدى المتعاونين مع ويلرسليف، كارينا ساند (Karina Sand) طرائق أكثر فعالية لإيجاد المعادن المحددة التي يمكن أن تحمل الحمض النووي. أتاح ذلك للعلماء البحث في أجزاء معينة من الطين والكوارتز واستخراج الحمض النووي وسلسلته باستخدام الطرائق التكنولوجية التي تطوّرت كثيراً منذ عام 2006. أتاحت اكتشافات ساند أيضاً للعلماء دراسة عيّنات أصغر حجماً.

قبل هذه الدراسة، تم استخراج أقدم حمض نووي معروف من ماموثين صوفيين حُفظا في الجليد السيبيري. ويقدّر عمر هذه المادة الوراثية بين 1.2 و1.7 مليون سنة، لكن قدّر كل من ويلرسليف وساند أن عمر المادة الوراثية التي قاما باستخراجها يقترب من 2.4 مليون سنة.

اقرأ أيضاً: القطب الشمالي يصبح أكثر دفئاً نتيجة التغير المناخي

بعد ذلك، بدأ الفريق بفحص هذه المادة الوراثية بحثاً عن أدلة مفيدة. لم تكن هذه العملية سهلة، نظراً لطريقة تطوّر أشكال الحياة منذ بداية العصر الحديث الأقرب. لم يجد الباحثون أن الحمض النووي البيئي يرتبط بشكل مباشر بأي نوع من الحيوانات التي تعيش اليوم، أو حتى بالحيوانات في السجل الأحفوري. اضطر العلماء لتحديد الأنواع القريبة وراثياً من الأنواع التي تعود المواد الوراثية المدروسة لها. ما وجههم نحو حيوانات ما قبل التاريخ التي لم يتم إيجاد أي أدلة تبين أنها عاشت في القطب الشمالي.

باحث يحضّر صخرة رسوبية لاستخراج العينات منها في كوبنهاغن، الدنمارك.
بإذن من نوفا، أتش أتش إم آي تانغلد

آثار قد تعود إلى حيوان الماستودون

وجد الباحثون في الحمض النووي البيئي الذي درسوه آثاراً يمكن إرجاعها إلى حيوانات الماستودون، وهي حيوانات تقرب الفيلة المعاصرة وراثياً. بالإضافة إلى ذلك، وجد الباحثون آثاراً لحيوانات تقرب الغزلان والقوارض والإوز وحيوانات ترتبط بالنمل والبراغيث. وجد الباحثون أيضاً بقايا لأشكال الحياة البحرية مثل المرجان وسرطان حدوة الحصان، والتي عاشت في مياه القطب الشمالي في الماضي. لا تزال بعض الحيوانات الصغيرة تعيش في غرينلاند اليوم. ولكن بالنسبة للأنواع الأخرى، تعتبر هذه الجزيرة أبرد من أن يعيشوا فيها. وبالفعل، تشير السجلات المناخية إلى أنه قبل 2.4 مليون سنة، كانت جزيرة غرينلاند أكثر دفئاً بنحو 11-18 درجة مئوية مما هي عليه اليوم.

أما من ناحية النباتات، اكتشف الباحثون مزيجاً غريباً من الأشجار المورقة المتساقطة مثل أشجار الحور والقضبان (مثل تلك التي توجد في بريطانيا أو شرق الولايات المتحدة)، وشجيرات القطب الشمالي (والتي توجد في شمال كندا). من الواضح أن مناخ الفترة التي تأتي منها المادة الوراثية المدروسة هو مزيج من المناخ المعتدل والقطبي الذي لا وجود اليوم.

باحث يستخرج العينات من صخرة رسوبية لإجراء اختبارات سلسلة الحمض النووي.
بإذن من نوفا، أتش أتش إم آي تانغلد بانك ستوديوز وهاندفول أوف فيلمز

تقول عالمة الأحياء في جامعة تسمانيا في أستراليا، ليندا أرمبريشت (Linda Armbrecht)، والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة: “هذه دراسة مثيرة للغاية وتعتبر بمثابة إنجاز بارز من قبل المؤلفين. توضّح الدراسة مدى تطوّر هذا المجال البحثي فيما يتعلق بتطوير أدوات جديدة لدراسة مثل هذه الأنظمة البيئية القديمة”.

يقول حاجبابائي: “تسهم الدراسة بشكل كبير في فهمنا لاختلاف مناطق الأرض مثل القطب الشمالي في الماضي”. ويضيف قائلاً إن هذه الدراسة يمكن أن تبين للعلماء كيفية دراسة الأنظمة البيئية في هذا الوقت الذي يتغير فيه مناخ الأرض.

اقرأ أيضاً: القطب الشمالي يسخن وتبعات ذلك «خطيرة»

في الواقع، يوضح عالم غرينلاند الضائع أثر أحد العوامل المختلفة للتغيّر المناخي. بعد فترة وجيزة من ازدهار هذه المنطقة، شهدت الأرض سلسلة من العصور الجليدية. انخفضت درجات الحرارة في القطب الشمالي خلال هذه العصور، وأصبحت شبه جزيرة بيري لاند أرضاً قاحلة أكثر بمرور الزمن.

نشهد حالياً نفس هذه الظروف ولكن باتجاه معاكس وبسرعة أكبر بكثير. في جميع أنحاء الكوكب اليوم، تتكيّف مختلف الكائنات الحية مع الاحترار الشديد للكوكب، والذي يحدث بسرعات غير مسبوقة. يفترض العلماء في الكثير من الأحيان أن الأنواع يمكنها البقاء من خلال التوجه شمال المناطق الاستوائية والمعتدلة. ولكن هذا لا يعني أن قطعان الفيلة والغزلان ستتمكن من الوصول إلى شبه جزيرة بيري لاند والعيش فيها في نهاية المطاف.