كيف يمكننا التخفيف من الآثار البيئية للاستهلاك المفرط؟

كيف يمكننا التخفيف من الآثار البيئية للاستهلاك المفرط؟
إذا اتبع البشر نمط حياة الأميركيين، فسنحتاج إلى موارد تعادل 5 أضعاف موارد الأرض. حقوق الصورة: أنسبلاش
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أصبح للشلل التحليلي، والذي ينطوي على العجز عن اتخاذ القرار المناسب نتيجة وجود الكثير من الخيارات، معنى جديداً بسبب التغير المناخي. لم يكن اتخاذ القرار «الصحيح» أكثر تعقيداً مما هو عليه اليوم. ولكن نحن هنا لمساعدتك. أهلا بك في «إمباكت»، سلسلة جديدة حول الاستدامة من موقع العلوم للعموم (بوبيولار ساينس).  

تم إنتاج أكثر من 20 مليار زوج من الأحذية عالمياً في عام 2021 فقط. وينتهي المطاف بنحو 300 مليون من هذه الأزواج سنوياً في مكبّات النفايات عبر الولايات المتحدة. 

تُصنع الأحذية من المطاط الذي تستخلصه معظم مصانع الأحذية من الأشجار في تايلاند وإندونيسيا والصين وغرب إفريقيا. يعتمد قطاع صناعة الأحذية على ملايين العمال لتلبية الطلب، ما أدى إلى إنتاج أكثر من 13 مليون طن متري من المطاط في عام 2020. 

تناقصت أعداد الأشجار آنفة الذكر مؤخراً، ولكن يمثل ذلك أحد جوانب المشكلة فقط،  إذ اتضح أن الأحذية تبقى في مكبات النفايات لمدة أطول بكثير مما كنا نعتقد من قبل. يستغرق تحلل زوج من الأحذية 30-40 عاماً وسطياً. ويمكن أن يبقى أحد المركبات الكيميائية التي تستخدم عادة في تصنيع الأحذية، والذي يدعى “أسيتات إثيلين الفينيل”، لمدة تصل إلى 1000 عام في مكبات النفايات قبل أن يتحلل

الأحذية هي أحد المنتجات التي نميل كبشر إلى الإفراط في استهلاكها. يمكن أن يتسبب أي قطاع بالاستهلاك المفرط للمنتجات، والذي يُعرَّف بأنه استهلاك كمية من المنتجات أكبر من الكمية التي يمكن إنتاجها من موارد العالم. تجعل الزيادة المفرطة في الطلب على الغذاء والطاقة والأدوات والأجهزة المختلفة والملابس وغيرها مهمة محاربة الآثار السلبية لتغير المناخ أكثر صعوبة. 

ما هو الاستهلاك المفرط؟

تسبب البطء في إنتاج السلع والبضائع على مدى معظم التاريخ البشري بجعل معدّلات الاستهلاك معتدلة على الرغم من أن النهم لاستهلاك مختلف المنتجات ليس ظاهرة حديثة. لم يكن مجدياً في أغلب الحالات شراء المنتجات من مكان بعيد، ناهيك عن شرائها بناءً على الرغبة فقط وليس الحاجة. ولكن بدأ ذلك بالتغير تدريجياً مع نمو القطاع الصناعي وازدياد ترابط العالم. خلال الثورة الصناعية التي امتدت من عام 1760 تقريباً إلى قبيل الحرب العالمية الأولى، كانت المصانع الأميركية تنتج سلعاً رخيصة نسبياً، وكانت السكك الحديدية تنقل هذه السلع بسهولة أيضاً. ثم بدأ الاستهلاك يزداد منذ ذلك الحين.

لقد أصبح هذا أكثر وضوحاً في العقود القليلة الماضية. إذ أنه على سبيل المثال، كان المواطن الأميركي العادي خلال ستينيات القرن الماضي يشتري أقل من 25 قطعة من الملابس وسطياً كل سنة. ولكن بعد 60 سنة، أصبح المواطن الأميركي يشتري نحو 70 قطعة من الملابس سنوياً، أي أكثر من قطعة واحدة أسبوعياً. هذا له ثمن باهظ، إذ يقول “ألفارو كاستانو غارسيا”، طالب في مرحلة الدكتوراه في مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية في جامعة شيفيلد هالام إن الاستهلاك المفرط يؤدي إلى تفاقم مجموعة من المشكلات البيئية مثل الاحتباس الحراري وانهيار النظم البيئية وتراجع التنوع الحيوي. 

اقرأ أيضاً: الاحتباس الحراري: بين القوة الدافعة والتخفيف البيئي

يقول غارسيا: “تساهم المنتجات التي نشتريها والأنشطة التي نقوم بها في انبعاثات الغازات الدفيئة. وكلما ازداد الاستهلاك، ازداد معدل الانبعاثات الناتجة عن أنماط الحياة والتي تؤدي إلى تفاقم المشكلات البيئية الأخرى”. 

وفقاً لشركة محاسبة الموارد “غلوبال فوت برينت نتورك“، إذا اتبع جميع البشر نمط حياة المواطن الأميركي العادي، فسنحتاج إلى موارد تعادل موارد 5 كواكب مثل الأرض لتلبية الطلب الناتج عن نمط حياة البشر.  ولن يكون نمط الحياة هذا فائق الرفاهية أيضاً. إذ يبلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي لكل من هؤلاء البشر المفترضين أكثر من 60 ألف دولار، ولكن في الواقع، يمتلك نحو 10% فقط من الأميركيين 70% من ثروة البلاد.

يستهلك نحو 20% من البشر 80% من الموارد الطبيعية في العالم. قام “ستيفن باكالا”، مدير معهد برينستون البيئي في جامعة برينستون بحساب أن أغنى 500 مليون شخص مسؤولون عن نصف انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم. تستهلك أغنى الدول ما يصل إلى 10 أضعاف الموارد الطبيعية التي تستهلكها الدول الأكثر فقراً. ويؤدي عدم المساواة الاجتماعية عبر بلدان ما يُدعى بـ “الشمال العالمي” (وهي البلدان المتقدّمة اقتصادياً مثل الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية وجنوب إفريقيا وغيرها) بشكل عام إلى ارتفاع مستويات التلوث ومعدلات استهلاك اللحوم ومبيعات تذاكر الرحلات الجوية والاستهلاك المنزلي للمياه وكمية النفايات المنزلية.

تقول “فيفيان فريك”، باحثة في الاستدامة في معهد أبحاث الاقتصاد البيئي في ألمانيا: “يميل الكثير من الناس في الشمال العالمي إلى الاعتقاد بأن هذا حقهم وأنه من الطبيعي أن يستهلكوا الكميات التي يستهلكونها اليوم”،  وتضيف: “غالباً ما ينسى هؤلاء تماماً أن مستوى الاستهلاك يعتمد على استغلال موارد البلدان الأخرى والحصول على موارد وأيدي عاملة رخيصة من بلدان أخرى. ستكون أسعار المنتجات مختلفة للغاية لو كانت عادلة”.

اقرأ أيضاً: هل كل ما نعرفه خاطئ؟ حقيقة الاستهلاك الآمن للكافيين أثناء الحمل

لا يخضع هوسنا باستهلاك السلع إلى التدقيق كما هو الحال بالنسبة لعوامل الانهيار البيئي الأخرى. على سبيل المثال، تتسبب المدن بارتفاع معدلات انبعاثات الغازات الدفيئة، إذ بيّنت البيانات من بعض الأبحاث أن المدن مسؤولة عن أكثر من 70% من انبعاثات غاز ثنائي أوكسيد الكربون العالمية الناتجة عن استهلاك الوقود الأحفوري. ولكن مع تزايد النمو الحضري في جميع أنحاء العالم، تغير فهمنا لتأثير هذا النمو على تغير المناخ على مر السنين. تبين أبحاث جديدة كيف أن المدن النامية في الجنوب العالمي (أي بلدان أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وأوقيانيا) لا تتسبب بالضرورة بالكثير من الانبعاثات. تُظهر إحدى الدراسات التي نُشرت عام 2016 كيف أن التنمية الحضرية في المناطق الاستوائية التي بدأت تتشكل فيها العديد من “المدن الضخمة” تساهم بنسبة 5% فقط من الانبعاثات العالمية السنوية الناتجة عن تغيير استخدام الأراضي.

خذ ولاية “تاميل نادو” الجنوبية في الهند كمثال. وفقاً لبحث أجرته “كالا سيتارام سريدار”، الأستاذة في معهد التغيير الاجتماعي والاقتصادي في مدينا بنغالور في ولاية تاميل نادو، الولاية الأكثر تمدّناً في الهند لعام 2011، لم يكن للنمو الحضري تأثير كبير على انبعاثات الكربون في عام 2011. بالإضافة إلى ذلك، ارتبطت الزيادة في معدل معرفة القراءة والكتابة ومعدل المشاركة في قوة العمل بانخفاض انبعاثات الكربون.

تقول سريدار: “هذه هي الخصائص المرغوبة التي نود أن نراها في أي اقتصاد ينمو ويدفع النمو الحضري وزيادة دخول المواطنين”. بيّنت دراسة أخرى نتائج مشابهة عند تحليل 93 من الدول النامية. وتتمثّل خلاصة هذه النتائج بأن الثراء ساهم في زيادة الانبعاثات أكثر من النمو الحضري. 

اقرأ أيضاً: إذا أردنا احتجاز انبعاثات الكربون، فيمكننا الاستفادة منها أيضاً

أظهرت أبحاث تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي باستمرار أن المجموعات السكانية التي تكون أكثر فقراً لأسباب سياسية واجتماعية في المجتمع الأميركي غالباً ما تكون أكثر عرضة للمخاطر البيئية الناتجة عن النمو الحضري. يعيش أكثر من مليون أميركي من أصل إفريقي في الولايات المتحدة في مناطق لا يتجاوز بعدها عن منشآت النفط والغاز 0.8 كيلومتراً، وتصدر هذه المنشآت المواد السامة الملوِّثة للهواء.  تعاني هذه المجتمعات عادة كنتيجة من ارتفاع معدلات الأمراض مثل السرطان والربو.

تقول سريدار إن نمطاً مشابهاً يظهر في بلدان الجنوب العالمي حيث يعاني السكان الإقليميون من زيادة نسبة النفايات التي تنتجها بلدان الشمال العالمي. تلوث بلدان الشمال العالمي بلدان الجنوب العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي عن طريق شحن النفايات التي يمكن أن تؤدي إلى تدهور النظم البيئية وتعريض المجتمعات لمخاطر صحية. طالبت عدة دول من الجنوب العالمي بتحقيق العدالة في هذه المسألة، إذ نفذت دول مثل ماليزيا والفلبين مبادرات لإعادة شحن النفايات. وقد أدى هذا بدوره إلى اعتماد تدابير دولية جديدة لإدارة النفايات

ما هي الخطوات المتاحة واللازمة للحد من الآثار السلبية لعادات الاستهلاك؟

تعتبر عادات الاستهلاك المفرط نتيجة طبيعية لنمو الثروة وازدياد القدرة الشرائية، كما أنها تؤدي إلى آثار بيئية كارثية. ولكن لماذا نرغب دائماً بشراء أحدث الأجهزة الإلكترونية والملابس وأجمل الأزياء حتى عندما نعرف أن ذلك يؤثر سلباً على الكوكب؟ 

يقول غارسيا: “لا أعتقد أن المستهلكين يتّبعون سلوكاً غريباً”، ويضيف: “تسمح الأنظمة العالمية بهذا السلوك وتعززه لجعل زيادة الاستهلاك تصبح مقبولة بل ومرغوبة أيضاً بالنسبة للعديد من الأشخاص”. 

تشير فريك أيضاً إلى أنه يتم ترغيب حتى المستهلكين الذين يهتمون بالقضايا البيئية بشراء المزيد من المنتجات الجديدة. بينما يرغب البعض بشراء الأدوات والأجهزة العصرية، يستخدم البعض الآخر أجهزة إلكترونية تُصمم برمجياتها لتصبح غير قابلة للاستخدام أو أجهزة تم تصميمها لتنكسر بسهولة وتُعتبر صعبة الإصلاح. 

اقرأ أيضاً: سلوكيات مذهلة: كيف تؤثر الأجهزة الإلكترونية القديمة على الأطفال؟

يوافق كل من غارسيا وفريك على أن المشكلة تتجاوز سلوك المستهلك. الاستهلاك المفرط متأصل في المؤسسات ولا يتمثّل أثره السلبي الحقيقي على البيئة في زيادة الاستهلاك الناتج عن انخفاض أسعار الأجهزة الحديثة أو تكاليف الإقامة في منتجع شامل فقط. 

تقول فريك: “النظام برمّته خاطئ”، وتضيف: “ليس منطقياً أن تتمكن من شراء تذكرة طيران مقابل 20 يورو في حين أن رحلة الطيران هذه لها آثار بيئية واجتماعية أكبر”.

تقول فريك أيضاً إن المستهلكين ليس لديهم تأثير كبير على السوق لأنهم لا يستطيعون التحكم بالطريقة التي يتم فيها إنتاج السلع والخدمات التي يشترونها. هذا هو أحد أكبر التحديات التي تواجه جعل المستهلكين يتبعون طرقاً مستدامة في الاستهلاك، الأمر الذي يتطلب تنظيم عادات الشراء لتجنّب إلحاق الأذى بالآخرين واستنفاد الموارد. 

تضيف فريك أنه لا يمكن حل هذه المشكلة إلا عن طريق إجراء إصلاحات مؤسساتية شاملة وثورات على مستوى القطاع بأكمله.  يمكن لتحويل المجتمعات الحالية إلى مجتمعات لا تنتج كميات كبيرة من الكربون وتستطيع استخراج كمية أقل من الموارد الطبيعية كافية لتغطية متطلّبات الإنتاج الضرورية فقط أن يزيد التنوع الحيوي ويمنع ازدياد معدلات التلوث ويقلل معدلات انبعاثات الغازات الدفيئة التي تساهم في مفاقمة التغير المناخي.  

اقرأ أيضاً: كيف تساهم سياسات خفض الانبعاثات في حماية التنوع الحيوي وتحسين صحة السكان؟

النظام معيوب لا شك، ولكن هذا لا يعني أن البشر لا يستطيعون مقاومة الرغبة بالاستمرار بشراء المزيد والمزيد من السلع. حاول عندما تقوم بشراء أي منتج جديد أن تتخيل أين سينتهي المطاف به بعد استخدامه. هل يمكن تحويله إلى سماد أو إعادة استخدامه أو إعادة تدوير بشكل مستدام؟ أم سينتهي به المطاف على الأرجح في مكب النفايات أو تجمع مائي؟ يمكن أن يساعدك تخيل دورة الحياة الكاملة لأي منتج في التأثير على قراراتك لتصبح مستدامة قدر الإمكان. 

ويمكنك أن تتبنى نهجاً أكثر شمولية وتقيّم عاداتك اليومية. ينصح مركز الكفاءة الألماني للاستهلاك المستدام الأفراد بإنشاء قائمة بما يدعى “النقاط الأساسية”، أو التدابير التي لها تأثير كبير بشكل خاص على بصماتهم البيئية. يمكن أن يخفض الحد من بعض مصادر الانبعاث الرئيسية مثل قيادة السيارات أو تناول اللحوم انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون بنحو نصف طن لكل شخص سنوياً.  

إحدى الخطوات الأخرى التي يمكنك إجراؤها هي التعرّف على الفوارق في مستويات الاستهلاك العالمي. بالنسبة لسريدار، يمكن أن يكون لنشر المعلومات عن الآثار البيئية السلبية للاستهلاك والثروة والعادات المعيشية تأثير إيجابي كبير. 

اقرأ أيضاً: إذا أردنا احتجاز انبعاثات الكربون، فيمكننا الاستفادة منها أيضاً

تقول سريدار: “أعتقد أن هذه هي أفضل وسيلة لجعل الناس يفهمون أننا سنخلف وراءنا بيئة رديئة للغاية للأجيال المستقبلية إذا استمرينا في التلويث”.  

تبقى الحكمة البسيطة الأكثر صحة في هذا السياق، المنتج الأكثر استدامة هو المنتج الذي لم تقم بشرائه في المقام الأول.