هذه المدينة البوليفية تعيش بلا ماء

شاهقة وجافة: عندما تلاشت الكتل الجليدية التي كانت تغذي مدينة لاباز البوليفية، استيقظ أهالي المدينة على صنابير بدون نقطة ماء، وقلاقل أهلية، وعلى حكم "جنرال الماء".
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أشعة شمس الصباح الباكر الحادة تسطع بكل قوتها في مرتفعات جبال الأنديز الشاهقة وتنعكس على النظارة الشمسية التي يرتديها “جنرال الماء”. يقف الجنرال بتعال بجوار صهريج يتسع لـ 2500 غالون ركنه جنوده خلف أكشاك أحد الأسواق الشعبية في مدينة لاباز عاصمة بوليفيا. تصطفّ النساء اللاتي يبعن في السوق، بقاماتهن القصيرة وبنيتهن القوية وتنانيرهن الملونة المتعددة الطبقات التي ما زالت الزي المفضل لكثير من السكان الأصليين، حاملات أكاليل من الزهور الصفراء. ينحني جنرال الماء لكي ينثرنَ بتلات الزهور على رأسه. ثمة حشد من ممثلي وسائل الإعلام المكلفين بتغطية الحدث يقومون بتأدية عملهم كما ينبغي.

فجأة يشق رجل طريقه من خلال الحشد مندفعاً ويصرخ في وجهي الجنرال ووزيرة المياه ألكساندرا موريرا الواقفة إلى جواره، قائلاً: “هذا ليس كافياً. أنتم تزدَرون الناس!”. ويردف الرجل، وجنود الجنرال يجرونه بعيداً من ذراعيه، صائحاً: “إنها الحقيقة”. أمَّا موريرا، بسروالها الجينز الضيق وبلوزتها ذات النقوش الكحلية والتي تبدو فجأة أصغر بكثير من أن تشغل هذا المنصب، فتجفل.

تقع مدينة لاباز على ارتفاع 3.670 متراً تقريباً، في منطقة تعرف بالمنطقة المدارية العليا التي تعاني من آثار التغير المناخي بشكل أسرع من أي مكان آخر على سطح الأرض. لقد انحسرت الكتل الجليدية التي كانت  في وقت من الأوقات تغذي المدينة، أما الأمطار الموسمية التي ينبغي أن تجدد خزانات المياه من نوفمبر وحتى فبراير فلم يعد بالإمكان التعويل عليها. وفي أوائل نوفمبر أعلنت الحكومة الفيدرالية حالة الطوارئ، وبين عشية وضحاها، قطع المسؤولون المياه عن 94 حياً من أحياء المدينة، وهو ما باغت حوالى نصف سكانها البالغ عددهم 800 ألف نسمة تقريباً.

على شاشات التلفزة، وعدت الحكومة الشعب بإعادة المياه في غضون يوم أو اثنين. ولكن عندما لم تفِ الحكومة بوعدها، خرج المئات من الناس متظاهرين في الشوارع؛ فاستولوا على الخزانات، وجلبوا شاحنات لتوزيع إمدادات المياه المتناقصة على السكان شارعاً تلو الآخر. وذات مرة استجوب المواطنون الغاضبون مسؤولي المياه المحليين لساعات طويلة في اجتماع صاخب جداً رافضين السماح لهم بالخروج. وعندئذ قررت الحكومة الفدرالية إرسال الجنرال ماريو إنريكي بينادو سالاس، المعروف بجنرال الماء، لقمع أعمال الشغب وفرض نظام الحصص.

الجنرال في متاهته
يسيطر العميد ماريو إنريكي بينادو سالاس على 113 شاحنة مياه يديرها من مقره المكون من غرفة واحدة.
حقوق الصورة: كريستينا هولمز

لكن ليس من السهل التغلب على حالة الجفاف التي ضربت البلاد وراحت تتفاقم على مدى عقود. فمع ارتفاع درجات الحرارة جفت الأنهار والبحيرات التي كانت في ما مضى تروي الحقول والمحاصيل. وهجر عدد لا يحصى من المزارعين وسكان الريف الذين يعتمدون على زراعة الأرض قراهم إلى المدينة. وهناك أدى القصور المؤسف الذي تُعاني منه البنية التحتية في لاباز والمتمثل في قلة عدد منشآت معالجة المياه والخزانات القديمة والأنابيب المهترئة، إلى الفشل في مواكبة الطلب المتزايد على الماء.

دخلت مدينة لاباز الآن في مرحلة “ما بعد المياه”؛ فقد أمسى التقنين الصارم أسلوب حياة لكثير من الناس. إذ ظلت بعض أحياء المدينة، ولأشهر عدة، تحصل على المياه مرة واحدة فقط كل ثلاثة أيام ولساعات قليلة (وفي منتصف شهر يناير زادت الحصة إلى مرة كل يومين). وعندما تتدفق المياه، يسارع الناس إلى تعبئة كل ما يتوافر لديهم من أحواض ودِلاء وصناديق قمامة وسواها ليتمكنوا من سد حاجاتهم الأساسية من المياه اللازمة للشرب والطهو وغير ذلك إلى أن ينفد الماء مجدداً. ولقد خفضت تلك الأزمة من الاستخدام اليومي المحدود من المياه لأغلب البوليفيين بمقدار الثلثين (بمتوسط قدره 48 غالوناً مقارنةً بالاستخدام اليومي للأميركيين البالغ 100 غالون). وتكيفاً مع هذا الوضع استغنى الناس عن بعض أنشطتهم اليومية التي تتطلب استخدام المياه كغسيل الملابس والاستحمام.

يصرخ الرجل في وجه الجنرال بينما يجره الجنود بعيداً: “هذا ليس كافياً، أنتم تزدرون الناس”.

وحتى عندما تتدفق المياه فإنها تشبه في معظم الأحيان عينة البول العكرة بسبب تلوثها بجسيمات برتقالية اللون مصدرها المادة اللزجة العالقة بالمواسير ورواسب الخزانات. ورغم ذلك، يبقى الماء الشبيهة بالبول أفضل من لا ماء، كما هو الحال في الأحياء الأفقر، الأعلى جغرافياً، حيث يكون ضغط المياه ضعيفاً جداً.

وللبقاء على قيد الحياة صار لزاماً على جميع الناس تقريباً شراء بعض عبوات مياه الشرب، وهو أمر كان في السابق من الرفاهيات التي لم يكن من الوارد أن يفكر فيها  أفقر سكان أميركا  الجنوبية، عدا عن أنه يتعين عليهم أيضاً الاعتماد على جنرال الماء.

في كل صباح ينطلق جنود الجنرال بمركباتهم إلى خزان يتناقص منسوبه يوماً بعد يوم لتعبئة أسطولهم البالغ 113 صهريجاً؛ يوازي الواحد منها خزان الوقود من حيث الحجم. وينقلونه غالوناً تلو الآخر إلى الصهاريج المُشتركة التي أُقيمت في زوايا الشوارع وفي الميادين. وما إن يصلوا حتى يتوافد الناس حاملين دلاءً فارغة أو صناديق قمامة زرقاء وصفراء وبيضاء، ويستمرون بالتوافد حتى تنفد مياه تلك الصهاريج.

قطرة في دلائهم
يحصل عدد كبير من السكان على نصيبهم من المياه من الصهاريج التي يسوقها الجنود إلى المدينة يومياً.
حقوق الصورة: كريستينا هولمز

لا يتطلب الأمر خيالاً خصباً لنتصور مشهداً من مشاهد روايات إيزابيل أليندي أو ماركيز حيث يستيقظ الناس ليجدوا أراضيهم فجأة عطشى والجنرال ذا الشارب الكث يسيطر على مياههم. فلطالما اختلط الخيال بالواقع في أميركا اللاتينية. ولكنْ على الرغم من أن عجز الحكومة له دوره في أحداث هذه القصة، فإن ضياع المياه بين ليلة وضحاها أمر لا يمكن إهماله باعتباره مجرد حادثة غريبة ومنفردة تقتصر على بعض البلدان دون غيرها.

والواقع أن عالماً يتولى فيه الجنرالات توزيع المياه على المواطنين -أو يقاتلون من أجلها- قد لا يكون بعيداً جداً عنا. فالآثار نفسها التي تسببت في جفاف لاباز تنهك الكوكب كله، بما في ذلك جنوب غرب الولايات المتحدة ووسط أوروبا والصين. والكتل الجليدية الضخمة لجبال الهمالايا -وهي أكبر تجمع جليدي خارج القطبين الشمالي والجنوبي- تضمحلّ شيئاً فشيئاً. ومع اختفاء تلك الكتل، فإن مصدر مياه ضروري لسدس سكان العالم يوشك على الجفاف.

إن الدرس المستفاد من بوليفيا هو أن التنبؤ بالمستقبل ليس بالأمر الصعب. ففي ظل احترار كوكب الأرض لا تتوافر كميات كافية من الثلج المتساقط والأمطار لتجديد العديد من الكُتل الجليدية في العالم. وحين تتلاشى تلك الكتل واحدة تلو الأخرى، فلا بد أن تتبعها حالات الجفاف ونقص المياه. يقول مارتن شارب: “إنَّ حالات الجفاف ونقص المياه آتية لا محالة، ولا أرى أي دليل واضح على أن الناس يضعون سياسات استباقية لمواجهتها”. لا شك أن شارب يعني ما يقول؛ فهو أستاذ في علوم الأرض والمناخ بجامعة ألبرتا في كندا، ويعكف على دراسة آليات عمل الكتل الجليدية ودراسة الموارد المائية والتغيرات المناخية. ويشعر شارب بخيبة الأمل من أنَّ أصحاب القرار في بوليفيا وكندا، وغيرها من دول العالم، لم يستجيبوا لنداء العلم ولم يعيروا التحديات المقبلة اهتماماً كافياً.

إنَّ الآثار نفسها التي تسببت في جفاف مدينة لاباز تلقي بظلالها الثقيلة على الكوكب بأسره، بما فيه أميركا.

يقول شارب إن على العالم كله أن يتحرك. “فهذه المشكلة ليست من النوع الذي يمكنك أن تجد له حلاً وأنت تحتسي كوباً من القهوة في أحد المقاهي”.

كما لا يمكنك حل هذه المشكلة بسرعة وحذق عندما تجد نفسك في خضمها. فلأسابيعٍ طويلة بعد بدء التقنين ظلت الوزيرة موريرا متوارية عن الأنظار في شبه عزلة. إذ ليس من السهل أن تكون وزير مياه في مثل هذه الظروف. ويبدو أن مرافقة الوزيرة لجنرال الماء أثناء توزيع المياه كانت نوعاً من استئناف خجول لجهود علاقاتها العامة. وقد وعدت موريرا الناس قائلة لهم “إننا نعمل على حل المشكلة”، وأخبرتهم بأن لديها أخباراً سارة.

قالت إن المدينة قد دشنت أربعة مشاريع لإصلاح مشاكل المياه فيها، تضم سداً وخزاناً إضافيين لحفظ المزيد من مياه الأمطار، وخط أنابيب لجرّالمياه من أحد الينابيع. وأضافت قائلة: “لكنَّ الطقس لا يساعدنا على الإطلاق”. ثم تصمت وتحدّق عالياً في الأفق إلى ما وراء قمم الجبال السمراء قبل أن تفصح للناس عن المعضلة الأساسية، وهي أن الأمطار شحيحة ولا تكفي لملء السدود.

كل من لديه خزان سينتظر
يضطر السكان المحليون للتخلف عن العمل في انتظار أن تنقل إليهم المدينة المياه، ثم عليهم تعبئة صهاريج التخزين الخاصة بهم.
حقوق الصورة: كريستينا هولمز

تنبأ العلماء على مدى سنوات بأن التغير المناخي سيتسبب في نقص مياه كارثي في السهل الأنديزي. ولم تجد التحذيرات المستمرة التي أطلقت أذناً صاغية. وقد نادت منظمات غير حكومية من بينها مؤسسة الإغاثة العالمية “أوكسفام” عام 2009 ومن بعدها معهد ستوكهولم البيئي عام 2013، بإلحاح وعلى نحو متزايد بضرورة إدارة مشكلة المياه والتصرف حيالها. لقد أصاب الجفاف في العام الماضي بحيرة بوبو “Poopó” التي ظل سكان قرية أورو-موراتو يعتمدون على مياهها لآلاف السنين. في الوقت الذي تراجعت فيه كميات أمطار الشتاء بنسبة تتجاوز 25%. وفي أثناء تلك الأحداث كلها، كان عالِم الكتل الجليدية القديمة إدسون راميريز يحاول بإصرار أن يحمل أحداً على التصرف.

لم يشأ هذا الأستاذ اللطيف من معهد الهيدروليات وعلم المياه، التابع لجامعة سان أندرياس العليا في لاباز، أن يكون هو المتنبئ بهذه الكارثة. لكن العلم لم يترك له خيارات كثيرة. ففي عام 1998، بدأ راميريز بقياس كتلة شاكالتايا الجليدية التي تبعد عن المدينة مسافة ساعة بالسيارة، وتعدّ أعلى منتجع في العالم للتزلج على الجليد. لقد توقع راميريز أن تنكمش تلك الكتلة الجليدية، لكن الواقع باغته هو نفسه: فقد كانت الكتلة التي تبلغ سماكتها 15 متراً تضمحلّ بمعدل متر واحد على الأقل كل عام. وقدَّر راميريز أنها ستختفي تماماً بحلول عام 2015. وفي عام 2005، توجه إلى مسؤولي المدينة ليحذرهم ويناقش معهم ما سيترتب على اختفائها من عواقب على المدينة التي تعتمد على جريان المياه الجليدية للحصول على إمداداتها من الماء، واضعاً مخططاً زمنياً عاجلاً. وقد استمع إليه المسؤولون الحكوميون باحترام وتوقير لكنهم لم يقتنعوا بكلامه، وقالوا له: “قد تقع هذه الكارثة وقد لا تقع”.

لقد اتضح أن راميريز كان مخطئاً؛ ولكن في تقديره المتفائل فقط. فبحلول عام 2009، أي قبل الوقت الذي قدره بست سنوات، اضمحلّت تلك الكتلة الجليدية ولم تترك وراءها سوى بقعة بنية اللون. كان إعلان هذا الخبر مثل عاصفة ضربت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم. لكن ما تعانيه مدينة لاباز من متاعب مريرة لا يقف عند حد ذوبان الكتل الجليدية. ففي العقود الأخيرة ارتفعت درجات الحرارة على قمم سلسلة جبال ألتيبلانو بمقدار درجتيْن مئويتين. وخلال خمسة عشر عاماً تراجعت معدلات هطول الأمطار والثلوج بنسبة 20%. يقول مسؤولو المياه المحليون إنَّ هذه النسبة ستتراجع على الأقل 10% أخرى بحلول عام 2030.

كان راميريز جالساً في مكتبه في الجامعة تحوم فوق رأسه ذرات الغبار العالقة في أشعة الشمس التي تسللت إلى المكان. لم يبدُ عليه الشعور بالرضا ولا بالغضب لأن نبوءاته التي لم يعرها أحد اهتماماً قد تحققت. بل بدا بقميصه المكوي الأنيق القصير الأكمام وشعره الأسود المصفف إلى الخلف مثل مدير في شركة عالمية. كان عازماً  على إقناع الحكومة بالتركيز على الاستجابة لما هو آتٍ.

استجابة لذوبان الجليد
تجاهل المسؤولون طوال 11 عاماً النتائج التي توصل إليها عالِم المياه إدسون راميريز وتحذيراته المُلِّحَة.
حقوق الصورة: كريستينا هولمز

بيّن راميريز بمعلومات وأرقام يحفظها جيداً حجمَ الدمار القادم. يذكر أن بوليفيا تتحمل مسؤولية 0.35% من انبعاثات الغازات الدفيئة، بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تصدر 14.4% من هذه الغازات. لكن نظراً لموقع بوليفيا الجغرافي وارتفاعها عن سطح البحر، يعاني البوليفيون من أثر تلك الانبعاثات الكربونية بوتيرة أسرع بكثير من الولايات المتحدة. يقول راميريز إن الزيادة في درجات الحرارة ارتفعت من 0.11 درجة مئوية في العقد الواحد منذ 40 سنة إلى 0.33 درجة مئوية في العقد الأخير. (يتراوح المتوسط العالمي ما بين 0.15 و0.20 في العقد الواحد). وقد أدى التغير المناخي أيضاً إلى زيادة في تواتر وقوة ظاهرة التردد الجنوبي في المحيط الهادئ والمعروفة باسم “إل نينيو”. وفي السنوات التي تنشط فيها هذه الظاهرة، تتراجع معدلات الأمطار في بوليفيا بنسبة تتراوح ما بين 20% و30% عما كانت في فترة من الفترات المتوسطة. ولكن حتى في أثناء سنوات نشاط ظاهرة “إل نينيو” كانت الأمطار تهطل بوتيرة أقل بكثير وبكميات أشد من ذي قبل، مما يزيد من صعوبة تجميعها ويزيد الأمر مشقةً على المزارعين وعلى محاصيلهم.

وكل هذا يفضي في نهاية المطاف إلى مشكلة ذوبان الكتل الجليدية الضخمة. تعد كتل الأنديز الجليدية بقايا أثرية للعصر الجليدي الأخير الذي بلغ ذروته منذ 18,000 سنة. والآن، تتلاشى تلك البقايا النادرة بسرعة مهولة. إنَّ الزيادة الطفيفة في درجات الحرارة خلال موسم الأمطار تعنِي أنه بدلاً من أن تتساقط الثلوج على الارتفاعات الشاهقة بما يضمن بقاء الكتل الجليدية العملاقة، تتساقط الأمطار مما يُعجّل من وتيرة ذوبانها. والنتيجة وفقاً لتقديرات راميريز هي أنَّ 37.4% من الكُتل الجليدية الاستوائية حول مدينة لاباز ذابت وسالت بين عامي 1980 و 2009.

ورغم أن الجريان السطحي قد يوفر ما بين 10% و20% فقط من إمدادات المياه السنوية للمدينة، فقد لعب هذا الجريان تاريخياً دوراً تخزينياً محورياً أثناء مواسم الجفاف. على سبيل المثال، مدينة “إل آلتو” الشقيقة لمدينة لاباز والقريبة منها والأعلى جغرافياً حيث تقع على جبل “هوينا بوتوسي” البالغ ارتفاعه 5800 متر تقريباً، لديها إلى الآن مياه جارية رغم حالة الجفاف التي تعانيها. ويفسر راميريز هذه الظاهرة بقوله: “في الحر يزداد الجريان السطحي من جبل هوينا بوتوسي، وهو ما أدى إلى تحقيق التوازن في النظام البيئي”.

ويعد هذا الجبل من المعالم المفضلة لهواة التسلق، فقد غطته كتلة من الجليد لآلاف السنين بلا انقطاع. ولكن حتى هذه الكتلة الجليدية والتي كانت قطعة سميكة من الجليد الأزرق المائل للبياض، قد فقدت نصف سُمكها التي كانت عليه منذ عقود قليلة. فكم تبقى من الوقت حتى تزول هي الأخرى؟ يجري راميريز بعض الحسابات ويتنبأ قائلاً: “ربما 40 سنة، ربما”.

إن التغير المناخي يقلص مرونة الطبيعة تدريجياً حتى لا يكون هناك أي مجال للخطأ البشري.

إن هذا تنبؤ مرعب بخصوص مستقبل المياه في المنطقة، بل ومستقبل المنطقة برمتها. هل هناك أية فرصة لأن ينقذ راميريز نفسه وأن يغادر مدينة لاباز؟ “لا”. يهز راميريز رأسه نافياً ويبتسم ابتسامة وديعة. فقد عرض على الحكومة مساعدته في التعامل مع الأزمة. وهل قبلت الحكومة عرضك؟ هز رأسه بالنفي مجدداً.

إن سياسات المياه في بوليفيا دقيقة وحساسة للغاية. وما يلمح إليه راميريز هو أن الحكومة لن تسمح بأي نقد أكثر مما تحملته في السابق. وإذا أصر على إدانته لها بشكل علني مبالغ فيه وركز على سوء الإدارة البشرية بدلاً من الاكتفاء بالحديث عن الانهيار المناخي، فربما يخسر المنح المقدمة له أو غير ذلك من أشكال الدعم المالي. خيم على الغرفة صمت كان أبلغ في التعبير عمّا يشعر به راميريز.

وفجأة علا صوت راميريز ليشير إلى بارقة أمل في هذا المشهد الكئيب وقال: “إن الطريقة التي يفكر بها الناس في المياه تشهد تغيراً كبيراً، فهم يحاولون الآن جمع مياه الأمطار وأعتقد أن هذه خطوة مهمة جداً”.

بعد زيارة راميريز، اصطحبتني مرشدتي المحلية باولا في رحلة لزيارة البقعة التي كانت كتلة جبل شاكالتايا الجليدية في ما مضى. يقبع منتجع التزلج على الجليد القديم على ارتفاع 5200 متر تقريباً وهو ارتفاع أعلى بكثير من الحد الممكن لنمو الأشجار بل إنه في الواقع أعلى بكثير من الحد الذي يمكن أن ينمو عنده أي شيء. ويبدو هذا المنتجع قاحلاً بعد أن اختفت كتلته الجليدية. وترى في المنطقة الكئيبة أيضاً نُزل هواة التزلج المهجورة والرافعة القديمة للمصعد. وتتذكر باولا التي يبلغ عمرها 41 عاماً تفاصيل دقيقة عن تلك الأيام حين كانت تأتي بصحبة أمها وجدها إلى هذا المكان في صغرها. أحاول أن أتخيل كيف كان يلعب الأطفال والناس في الثلج هنا قبل أن يذوب وتظهر محلّه هذه البقعة القاحلة بصخورها المُتشظية. قطعتْ حبل أفكاري تحيةُ أحد هواة تسلق الجبال الذي نزع السترة التي يرتديها وبقي بقميص قصير الأكمام بسبب الحرارة الشديدة.

ماس بني اللون
يجثم أعلى منتجع للتزلج في العالم، بعد زوال الكتلة الجليدية، فوق كومة صخرية قاحلة.
حقوق الصورة: كريستينا هولمز

تحدق باولا في الأفق، حيث يظهر جبل هوينا بوتوسي الذي يبلغ ارتفاعه 5800 متر تقريباً ويصدمها تغير مظهره كثيراً: نتوءات ضخمة من صخور الجرانيت الرمادية اللون تبرُز من كتلة الجليد المتصلبة، وترى أن راميريز قد كان متفائلاً للغاية بشأن تلك الكتلة الجليدية أيضاً.

إن لبوليفيا مع الماء تاريخاً يمتزج فيه الإخفاق والنجاح. ففي التسعينيات، قام العديد من مدنها، بما في ذلك لاباز، بخصخصة شبكات المياه فيها، على أمل أن تجلب إليها الشركات الأميركية والفرنسية التي تم استقطابها الكفاءة والتوسع في تقديم الخدمات. وقد أفلح ذاك التوجه غير أن الأسعار ارتفعت؛ فتمرد الناس وأطاحوا بتلك الشركات. وفي عام 2009، أصبح لبوليفيا دستور جديد صار الماء بموجبه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان. كما منحت تلك الخطوة الحكومة البوليفية، تحت قيادة الرئيس إيفو موراليس، دوراً دولياً كمدافِع عن هذه الضمانة الجديدة.

لكن الواقع كان أكثر فداحة وخزياً من ذلك بكثير. فقوام مياه أحد الأنهار في لاباز كثيف جداً بسبب مخلفات الصرف الصحي غير المعالجة ومخلفات المصانع، لدرجة جعلَتْ الناس لا تقربه حتى في أوقات الجفاف. أما مؤسسة “إسباس” المؤممة، التي حلت محل الشركة الفرنسية في لاباز، فلا تملك أي قدر من الكفاءة. لقد كشف تدقيق حسابات عام 2013 عن ضياع ملايين الدولارات من الإيرادات المحتملة بسبب تسرب في المعدات. كما أن البنية التحتية للمدينة ليست بأفضل حالاً من ذلك؛ فقد كشفت إحدى عمليات التدقيق أنَّ 45% من إجماليِّ مياهها تُهدَر عبر الأنابيب التالفة. وقد تحسَّنَ الوضع قليلاً بعد تركيب أنابيب جديدة وفرض رقابة أفضل، ولكن ذلك لم يكن ربما كافياً. إن من الصفات الغادرة في تغير المناخ أنه يقلِّص مرونة الطبيعة تدريجياً حتى لا يبقى هناك سوى هامش صغير من الخطأ البشري، أو قد ينعدم تماماً. وها هي لاباز تبدو جاثمة على شفا تلك الهاوية التي لا مناص منها، ومع ذلك فلا يزال مسؤولو المدينة يتجاهلون هذه الحقيقة.

37.4% من الكتل الجليدية الاستوائية الأنديزية ذابت ما بين عامي 1980 و2009

تعج جدران مقر جنرال الماء بألواح الكتابة البيضاء. وهو مقر مكون من غرفة واحدة واسعة مخصصة للتخطيط والتسجيل البياني. هنا يسجل الجنرال التقدم المحرز، ويحدد موقعاً لكل صهريج من 113 صهريجاً موضوعاً تحت تصرفه. إنه فخور بكفاءته، ويرى أن عدد الطلبات اليومية على المياه قد تقلص إلى حد كبير منذ أن بلغت الأزمة ذروتها. يبدو أن الأمور قد استقرت، وأن الناس يتلقون خدمات كافية. ولكن عندما يسأل عما إذا كان حله المتمثل باستخدام الشاحنات لنقل المياه من المصدر نفسه الذي يغذي أنابيب المدينة عادةً ليس إلا محاولة لخداع الناس والتحكم بنصيبهم من الماء، فإنه يهز كتفيه ويدافع عن هذا الحل بأنه يُبطِّئ وتيرة استهلاك المياه. ويجيب بثقة على سؤال حول كمية المياه المتبقية قائلاً: “أمامنا 10 أيام، وسينَزِل المطر قريباً”.

وبعد مرور يومين من الطقس الجاف، وتحت سماء صافية، يقود جنرال الماء ووزيرة المياه قافلة من المركبات ذات الدفع الرباعي إلى الجبال، لاطلاع المراسلين الصحفيين على اثنين من المشاريع الإنشائية الجديدة: أحدهما هو خط أنابيب سيسطو على المياه من “ينبوع صغير” قريبٍ بمعدل 200 لتر في الثانية الواحدة. لكن هذا الينبوع هو مصدر مياه الري للمزارعين المحليين، وعندما تجف أراضيهم، سينتقلون إلى لاباز مما سيسبب المزيد من الضغط على شبكة المياه في المدينة.

نترك ذلك الموكب ونسير 45 دقيقة أخرى عبر طريق ترابية تنتشر على جانبيها الصخور ونصل إلى مشروع إنشاء سدّ/خزان كبير أخبرتنا عنه موريرا. إنه قريب من السد القديم ويبدو وكأن العمال قد أقاموه بين ليلة وضحاها، وسيتم تفعيله، كما تتعهد موريرا، في منتصف يناير. ولكن يبدو من المستبعد أن تلتزم الحكومة بذلك الموعد النهائي غير الواقعي على الإطلاق. كان أوسكار ميف، منسق الوحدة الفنية للسدود في وزارة الموارد المائية والري، قد فسر لنا المشكلة في مساء ذلك اليوم قائلاً إنه على الرغم من أن الخزان الجديد سيكون قادراً على استيعاب كميات من المياه أكبر بكثير من الخزان القديم، إلا أنه يحتاج إلى موسمَين ممطرَين على الأقل لكي يمتلئ بالماء.

هل سيهطل المطر؟
يشيد العمال سداً جديداً وخزاناً أكبر لتخزين مياه الأمطار التي يستبعد أن تسقط.
حقوق الصورة: كريستينا هولمز

ولأن هذا الرجل معني بالأمور التقنية لا السياسية فقد صرح لنا بأن فرصة امتلاء الخزانين ضئيلة، وأخبرنا أن الموسم الحالي يبدو كارثياً إذ يشهد أول شهر منه انخفاضاً في معدل الأمطار يصل إلى 40%.

لِنرجع إلى المدينة، حيث يتصرف الناس في لاباز كما يتصرف جميع البشر عند مواجهة كارثة بطيئة الخطى وذلك بمحاولة التكيُّف مع الأوضاع التي تواجههم. في ظهيرة يوم جمعة، تجلس كاثرين سانشيز لوبيز، وهي سيدة متخصصة في العلاقات العامة تبلغ من العمر 43 عاماً، في منزلها المكون من طابقين والواقع في حي راق. كانت بعض دمى بابا نويل موضوعة فوق الخزانات وعلى مهبط الدرج استعداداً لاستقبال عيد الميلاد باستبشار وفرح. في سنوات سابقة كان منزلها يوصف بأنه مرتّب، أمّا في هذه الأيام فإنك ترى الدلاء والأواني المملوءة بالماء، من جميع الأشكال والأحجام، تتوزع على المناضد وخلف الكراسي، وتكتظ بها الحمامات. إن الأشخاص السبعة الذين يعيشون هنا يستخدمونها في الطهو والمرحاض وللاستحمام بمساعدة ليفة اسفنجية.

إنها الواحدة ظهراً من يوم عمل. في الوضع الطبيعي ما قبل الأزمة يفترض أن تكون لوبيز في مثل هذا الوقت في مكتبها وسط المدينة. إلا أنها الآن تجلس في المنزل على أمل أن تضخ المدينة المياه في صنابيرها لكي يتسنى لها غسل أكوام الملابس التي تراكمت لديها. وكان مسؤولو المدينة قد صرحوا بأنهم سيفتحون إمدادات المياه عند التاسعة صباحاً لمدة خمس ساعات. تفحص لوبيز صنابيرها مجدداً وتحرك مقابضها يمنة ويسرة ولكن من دون جدوى. لم يصل الماء حتى الآن. تقول لوبيز إنَّ كل شيء “مختلف، مختلف تماماً. فعلينا أن نقضي وقتاً طويلاً في الانتظار”. إنها ترتدي سترة وردية اللون وتزين شعرها بقوس أحمر بهيج لكن مظهرها المتّسم بالتفاؤل لا يطابق مزاجها المتعكر. تضيف لوبيز قائلةً: “ليتهم حذرونا، كان بوسعنا أن نتصرف بوعي أكبر مع موضوع المياه”. وتَهزُّ رأسها وهي تقول: “لقد فات الأوان. أعتقد أن علينا التعايش مع هذا الوضع لفترة طويلة”.

نشر هذا المقال في عدد مارس/ إبريل 2017 من بوبيولار ساينس تحت عنوان “لاباز تتكيف مع عالم بلا ماء”.