بيانات تعود للعام 1997 تعطينا معلومات جديدة عن أوروبا باعتباره أفضل فرصة أمامنا للعثور على كائنات فضائية

صورة رقمية محسّنة لأوروبا. صورة رقمية بجودة محسّنة لسطح القمر أوروبا.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في التاسع عشر من شهر ديسمبر من العام 1997، مرّت مركبة ناسا الفضائية “جاليليو” فوق سطح أوروبا أحد أقمار المشتري على ارتفاع بلغ 200 كيلومتر تقريباً. تمكن اثنان من أجهزتها، مقياس المغناطيسية ومطياف موجات البلازما، من توليد أثر خاطف في بياناتهما.

مقارنة بالكميات الهائلة من البيانات الأخرى التي أرسلتها المركبة الفضائية إلى الأرض، والتي بدت أكثر روعة بوضوح، فإن هذا التغير الصغير في البيانات بدا وكأنه قراءة جزئية إلى حد بعيد لها. فلا شيء يمكن مقارنته بالدليل على وجود محيط شاسع يقبع تحت الطبقة الجليدية الهائلة للقمر أوروبا، أو على وجود نشاط بركاني هائل على القمر المجاور آيو، أو الحزام الإشعاعي الضخم المحيط بالمشتري نفسه.

مر الأثر بسرعة ليكتنفه الغموض بعد ذلك، ويختفي عن الأنظار بين رزم البيانات التي أرسلتها جاليليو قبل أن تنهي مهمتها وتتحطم في أجواء المشتري في 2003. وبعد أكثر من 20 عاماً، تحققت هذه القراءات: فقد تؤكد هذه الآثار الخاطفة وجود أعمدة مائية تندفع من السطح الجليدي لأوروبا باتجاه الفضاء.

تمثل هذه الاندفاعات الغامضة من المواد السائلة أنباء سارة للعلماء؛ حيث يمكن للبعثات المستقبلية أن تغوص فيها لاستكشاف ودراسة المحيط السطحي لأوروبا. سوف يسمح لنا هذا الأمر بالبحث عن الجزيئات التي يمكنها أن تدعم تطور الحياة، وربما العثور حتى على آثار للميكروبات الفضائية، دون الحاجة إلى تصميم روبوت قادر على الحفر داخل الطبقات الجليدية على أعماق مجهولة. هذا البحث متوفر الآن ضمن دراسة تم نشرها في دورية Nature Astronomy.

هذه الدلائل التي تشير إلى أن أوروبا ربما ينفث الماء نحو الفضاء وردت من تلسكوب الفضاء هابل، الذي التقط صوراً في 2013 لما يمكن أن يكون اندفاعاً عمودياً. إلا أن الصورة كانت باهتة، ولم يكن الدليل دامغاً بما يكفي للقول بطريقة أو بأخرى بأن هذا الاندفاع العمودي كان موجوداً بصورة قطعية.

في العام 2016، أظهرت صورٌ جديدة التقطها هابل علامات أكثر إثارة على وجود العمود، ولكنها مرة أخرى لم تكن جيدة بما يكفي. للحصول على إجابات ملموسة، يحتاج الباحثون للحصول على قراءات أكثر حساسية إما من تلسكوب أو من شيء كان قريباً بما يكفي من أوروبا لإجراء المزيد من عمليات البحث والتقصي. فجأةً، أصبحت بيانات جاليليو محل اهتمام من جديد.

لقطة هابل في 2013 تظهر أعمدة ضخمة من بخار الماء، حيث يظهر تراكب البيانات فوق صورة أوروبا.
مصدر الصورة: وكالة ناسا/ وكالة الفضاء الأوروبية/ ل. روث/ مؤسسة البحث الجنوبية الغربية/ جامعة كولونيا

قام الباحث المساعد بيل كورث الذي يعمل على الأداة العملية الخاصة بجاليليو لموجات البلازما، بتأليف ورقة بحثية في 2001 أجرى فيها مقارنات بين ما تم جمعه من البيانات خلال كل من الرحلات الجوية القريبة من سطح أوروبا. حيث تبين على وجه الخصوص، من خلال البيانات التي سجلتها الأداة حول كثافة الإلكترونات المحيطة بالمركبة الفضائية، أنه كلما ارتفعت الكثافة، كلما ازدادت كثافة المادة التي كانت تحلق جاليليو عبرها.

يقول كورث: “أظهرت عملية التحليق رقم 12 وجود كثافة في الجو المحيط بسطح أوروبا تفوق الكثافات التي سجلتها عمليات التحليق الأخرى بنحو 5 أضعاف، وهو ما كان مثيراً للاهتمام بحد ذاته”. كما تضمنت البيانات ارتفاعاً آخر يدل على كثافة أعلى. يتابع كورث: “في ذلك الوقت، لم نكترث كثيراً للأمر. أظن أننا افترضنا وجود اندفاع عمودي أو مصدر آخر للبلازما، إلا أنه كان هناك القليل من الأدلة الأخرى التي تدعم مثل هذا التفسير، لذلك لم نتحدث كثيراً عن الأمر”.

لم تظهر فكرة العودة إلى الماضي ومقارنة بيانات جاليليو بصور هابل المثيرة للجدل نوعاً ما حتى العام الماضي. تفيد صحيفة نيويورك تايمز بأن ميليسا ماكغراث، العالمة في معهد البحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض (SETI)، قد لاحظت وجود هذه المناطق ذات الكثافة المرتفعة. ففي حديث لها في أحد اللقاءات العلمية، أشارت ميليسا إلى تسجيل هذه الظاهرة في إحدى المرات بالقرب من خط الاستواء للقمر، تقريباً في نفس المنطقة التي التقط فيها هابل الاندفاعات العمودية المحتملة.

شعر عالم الكواكب في جامعة ميشيغان، شيانزي جيا، بفضول كبير عندما سمع ماكغراث تتحدث عن هذا الموضوع في أحد المؤتمرات. حيث كان يعمل على نماذج تظهر كيفية تفاعل البلازما مع الأجسام في النظام الشمسي، بما في ذلك أوروبا نفسه. فقرر أن يتفحص البيانات بشكل مفصل ليعرف ما إذا كانت قراءات جاليليو يمكنها أن تؤكد وجود اندفاع عمودي من خلال الأعمدة المفترضة التي ظهرت في صور هابل. إلى جانب غيره من الباحثين، بما في ذلك كروث، بدأ جيا يمعن النظر في نتائج جاليليو من منظور جديد.

يقول جيا، المؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة: “لكي أكون صادقاً، بقيت هذه البيانات متاحة للعموم على مدى 20 سنة مضت. وقد كان الكشف الذي حققه هابل واحداً من العوامل الرئيسية التي دفعتنا حقاً للقيام بهذا الأمر”.

يُظهر نموذج جيا وجود عمودٍ خارجٍ من سطح أوروبا قد يكون مندفعاً باستمرار ويخلق ظروفاً تتوافق مع القياسات التي أجراها جاليلو عندما مر عبر العمود المفترض، والذي يقدر الباحثون عرضه بنحو 998 كيلو متر. لا تمثل النتائج عملية رصد مباشر لأحد الأعمدة، ولكنها تمثل السيناريو الذي يعد أفضل تفسير للبيانات الموجودة. حيث يتطلب التأكيد المباشر على وجود اندفاع عمودي من الماء أدلة يُنتظر أن تقدمها إحدى البعثات المستقبلية.

لماذا لم يعيدوا النظر بهذه البيانات من قبل؟ بالإضافة إلى غياب الحافز الذي شكلته هذه الصور من هابل لإلقاء نظرة فاحصة، فإن النماذج الحاسوبية اللازمة لتفسير البيانات بدقة لم تكن متوفرة بعد. يقول جيا: “نحن بحاجة إلى نماذج جيدة لفهم البيانات وهذا الأمر كان يتطلب المزيد من التطوير، وهو ما لم يكن متاحاً قبل 20 عاماً”.

فقد استغرق الأمر بعض الوقت لتطوير النماذج الحاسوبية المستخدمة في هذه الدراسة الحديثة لتحديد أثر هذا العمود بشكل قطعي. حيث بدأ جيا وزملاؤه في جامعة ميشيغان بتفحص نتائج الرصد بالتدريج ابتداءً من النطاقات البعيدة للنظام الشمسي وقاموا بتجميعها ضمن صورة متكاملة يمكن استخدامها لتفسير البيانات كما أرسلتها جاليليو تماماً.

من المرجح لهذه النماذج أن يتم استخدامها من جديد في المستقبل المنظور. يعمل جيا كباحث مساعد في بعثة التحليقات المتعددة حول أوروبا (كانت تعرف باسم أوروبا-كليبر) التي ستقوم بإرسال مركبة فضائية لإلقاء نظرة فاحصة على القمر أوروبا. حيث ستقوم كليبر، مزودةّ بأدوات أكثر حساسية من سابقاتها من المسابر التي تم إرسالها إلى النظام الشمسي الخارجي بما في ذلك كاسيني، بالطواف حول أوروبا في مدارات منخفضة، لتجري عمليات مسح مفصلة للقمر وربما لأعمدته المائية أيضاً.

ستكون كليبر مجهزة كما يلزم لإجراء تحليلات مفصلة لأي عمود مائي قد تطير خلاله، وهو احتمال مثير للاهتمام بالنسبة لعلماء الكواكب التواقين لمعرفة المزيد عن باطن القمر.

يقول جيا: “يبدو أن هذا القمر لديه محيط شاسع تحت سطحه، ولكن هذا المحيط مغطى بالجليد ولا نعلم مدى سماكته. قد يكون بضعة كيلومترات، وقد يكون 10 كيلومترات، فليس لدينا تقدير جيد لسماكة هذا الغطاء الجليدي”.

يتابع جيا: “لأخذ العينات بشكل مباشر من المحيط سيتعين علينا أيضاً الحفر عميقاً عبر الجليد. كما يمكنك أن تتخيل، فإن هذا ليس بالأمر السهل للقيام به في بيئة بعيدة جداً عنا. والاحتمال الآخر هو أنه إذا كان هذا المحيط قادراً على إخراج مادته عبر أعمدة تندفع إلى الفضاء، فإن ذلك يوفر فرصة عظيمة لكي تخترق مركبة فضائية أحد هذه الأعمدة وتقوم بجمع المواد المندفعة عن هذا المحيط”.

يواصل جيا: “إن كان لا بد من تلخيص الهدف العلمي للمركبة كليبر، فيمكنني القول إن الهدف هو محاولة فهم أوروبا باعتباره عالماً صالحاً للسكن. هل يمتلك عناصر الحياة؟ هل الظروف في المحيط يمكنها تعزيز وجود الحياة؟”. ويضيف: “خلاصة القول، نحن أمام مكان بدائي بكر في النظام الشمسي يحتوي على ماء سائل، فهل من الممكن أن تكون الحياة قد نشأت هناك؟”.

يعتقد الباحثون في الوقت الحالي أن هذه الأعمدة من المحتمل أن تكون متقطعة، وأن مصدرها الدقيق داخل القمر لا يزال مبهماً. فهل هي تنبع من المحيط نفسه أو من حوض آخر يقبع تحت السطح داخل القشرة الأرضية للقمر؟ هل تحتوي هذه الأعمدة على مركبات عضوية، ومكونات أساسية للحياة يمكنها أن تجعل من أوروبا هدفاً أكثر جاذبية للبعثات الكوكبية المستقبلية التي تبحث عن الكائنات الفضائية؟ لمعرفة المزيد عن هذا الأمر، سيتعين علينا الذهاب إلى هناك بشكل فعلي.

حصلت بعثة أوروبا-كليبر على المزيد من التمويل من الكونغرس الأميركي خلال الأسبوع الأول من مايو، لتبقى على المسار الصحيح نحو موعد إطلاقها المحتمل بحلول العام 2022، على الرغم من أنه من المستبعد اتخاذ قرارات نهائية بشأن مركبة الإطلاق قبل مراجعة المشروع في أواخر العام 2019.

وبناءً على هذه البيانات الجديدة، من المرجح أن يواصل الباحثون التحديق في أوروبا من خلال التلسكوبات مثل هابل (وتلسكوب الفضاء جيمس ويب الذي يتم الحديث عنه باستمرار، بعد أن يتم إطلاقه)، وسيواصلون البحث ضمن كافة البيانات التي قاموا بجمعها لمعرفة ما إذا كان هناك أسرار أخرى قد تكون كامنة ضمن القراءات.

من يدري، فبينما نحن نبحث عن كائنات فضائية على الأقمار المائية المنتشرة في نظامنا الشمسي، قد نجد عدداً من أجوبتنا الأكثر إثارة للدهشة كامنة بين البيانات الموجودة هنا على الأرض.