تعرف على ماهية الثقوب السوداء الهائمة

تعرف على ماهية الثقوب السوداء الهائمة
تساعد بيانات هابل التي تم تجميعها برصد مجرة درب التبانة والمجرات الأخرى علماء الفلك في حل لغز غير مرئي. وكالة ناسا/وكالة الفضاء الأوروبية وجي. بيكون (جمعية تلسكوب الفضاء العلمية)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما يموت نجم أكبر بعشرين مرة من شمسنا، يمكن أن ينفجر كمستعر أعظم ويشكّل ثقباً أسود كثيفاً (بتأثير الجاذبية). لكن هذا الانفجار لا يكون متناظراً بشكل مثالي أبداً، لذلك تُقذف في بعض الأحيان الثقوب السوداء الناتجة في الفضاء. غالباً ما يُطلق على هذه الأجسام الجوالة اسم “الثقوب السوداء الهائمة” لأنها تطفو بحرية ولا تتقيد بأجرام سماوية أخرى.

لكن وفقاً لجيسيكا لو، الأستاذة المشاركة في علم الفلك في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، قد تكون هذه التسمية خاطئة. تفضّل لو استخدم مصطلح “الثقوب السوداء العائمة بحرية” لوصف هذه الأجسام. وتقول إن مصطلح «هائمة» يشير إلى أنها ظاهرة نادرة أو غريبة، وله معنى سلبي.

لكن هذا غير صحيح أبداً. يقدر علماء الفلك أن هناك ما يصل إلى 100 مليون ثقب أسود في مجرتنا لوحدها. لكن العثور على هذه الثقوب صعب للغاية لأنها معزولة عما حولها. حتى وقت قريب، كانت هذه الثقوب السوداء الهائمة معروفة فقط من خلال النظريات والحسابات.

تقول لو: “هذه الثقوب السوداء أشباح، إذا جاز التعبير”، والتي أخذت على عاتقها العثور على الثقوب السوداء التي تعوم بحرية في مجرة درب التبانة.

اقرأ أيضاً: ما هي مفارقة الثقوب السوداء التي لم تحل بعد؟

في وقت سابق من عام 2022، أعلن فريقان من الباحثين في الفضاء بشكل منفصل عن أرصاد لما قد يكون أحد هذه الثقوب السوداء الجوالة. قاد كيسي لام، وهو طالب دراسات عليا في مختبر لو أحد هذين الفريقين. بينما قاد الفريق الآخر كايلاش سي. ساهو، عالم الفلك في معهد علوم تلسكوب الفضاء. ونشر كلا الفريقين أوراقهما في مجلة مجانية مفتوحة الوصول دون مراجعتها من قبل الأقران.

سيحصل العلماء على المزيد من البيانات من تلسكوب هابل الفضائي في أكتوبر/تشرين الأول 2022 والتي تقول لو إنها يجب أن تساعد في “حل لغز ما إذا كانت هذه الأرصاد تعود لثقب أسود أو نجم نيوتروني”. تضيف لو قائلة: “ما زلنا نجهل الكثير عن كيفية موت النجوم والبقايا التي تخلفها هذه العملية”. عندما ينفد الوقود النووي للنجوم التي تكون كتلتها أكبر بكثير من شمسنا، يُعتقد أنها تنهار مشكّلةً ثقوباً سوداء أو نجوماً نيوترونية. تقول لو: “لكننا لا نعرف بالضبط أياً منها يتحول إلى نجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء”، وتضيف: “لا نعرف متى يولد ثقب أسود ويموت نجم، هل يحدث انفجار مستعر أعظم عنيف؟ أم أن النجوم تنهار مباشرة مشكّلةً ثقوباً سوداء وربما تطلق القليل من المواد في الفضاء؟”

نظراً لأن المواد النجمية تشكل كل شيء حولنا، فإن فهم الحياة الآخرة للنجوم هو سر فهم نشأتنا.

اقرأ أيضاً: قد تحمل صورة المستعر الأعظم هذه سرّ نشوء الكون

كيفية رصد ثقب أسود جوّال

الثقوب السوداء غير مرئية بطبيعتها. إذ إنها تحتجز كل كمية الضوء التي تتعرض لها؛ وبالتالي لا يمكننا رؤية الثقوب السوداء بالعين المجردة. لذلك يجب على علماء الفلك أن يتبعوا طرقاً مبتكرة لاكتشاف هذه الأجسام الكثيفة والمظلمة.

عادةً ما يبحث العلماء عن شذوذات في الغاز والغبار والنجوم والمواد الأخرى التي قد تكون ناجمة عن الجاذبية الشديدة لثقب أسود ما. إذا كان الثقب الأسود يمتص المادة من جرم سماوي آخر، فإن قرص الحطام الناتج الذي يحيط بالثقب الأسود يمكن أن يكون مرئياً وساطعاً. (وهذه هي الطريقة التي التقط بها علماء الفلك أول صورة مباشرة لأحد هذه الأقراص في عام 2019 وصورة للثقب الأسود في مركز مجرة درب التبانة في وقت سابق من عام 2022).

لكن إذا كان الثقب الأسود لا يسبب الفوضى بقوته الجاذبة، لن تكون لدينا طريقة لرصده. وهذا هو الحال عادة بالنسبة للثقوب السوداء الجوالة. لذلك يستخدم علماء الفلك مثل لو تقنية أخرى تسمى “العدسية الفلكية” أو “التعديس الميكروي الثقالي“.

تقول لو: “ما نفعله لنطبق هذه التقنية هو أن ننتظر اصطفاف ثقب أسود جوال مع نجم خلفه بالصدفة”، وتضيف: “عندما يحدث ذلك، ينحني الضوء الصادر عن النجم بفعل جاذبية الثقب الأسود [أمامه]. ويظهر ذلك على شكل ازدياد في سطوع النجم [في البيانات الفلكية]. كما أنه يجعل هذا الضوء يتذبذب في الفضاء إذا جاز التعبير”.

لا يتحرك النجم الموجود وراء الثقب في الواقع، بل يبدو أنه ينحرف عن مساره عندما يمر الثقب الأسود أو جسم كثيف آخر أمامه. وذلك لأنه وفقاً لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، تشوه جاذبية الثقب الأسود نسيج الزمكان، ما يتسبب بانحناء ضوء النجوم.

إن احتمال مرور ثقب أسود جوال عبر جوارنا السماوي وتأثيره على الحياة على الأرض “صغير للغاية”.

يستخدم علماء الفلك تقنية العدسية الصغرية لدراسة جميع أنواع الظواهر قصيرة الأمد في الكون، من المستعرات الأعظمية إلى الكواكب الخارجية التي تدور حول نجومها. ولكن من الصعب القيام بذلك باستخدام التلسكوبات على الأرض، حيث يمكن للغلاف الجوي أن يشوّش الصور.

تقول لو: “نحاول في علم الفلك قياس موضع جسم ما بدقة متناهية، ونحتاج لصور دقيقة للغاية لفعل ذلك”. لذلك يعتمد علماء الفلك على التلسكوبات التي أُطلقت في الفضاء مثل تلسكوب هابل وجهازين أرضيين مزودين بأنظمة متطورة للتكيف مع تأثيرات الغلاف الجوي. تقول لو: “هناك 3 منشآت فقط في العالم يمكنها إجراء هذه القياسات الفلكية”، وتضيف: “نحن نستخدم التكنولوجيا المتوفر اليوم لأقصى حد ممكن”.

اقرأ أيضاً: كيف كنا نتوقع الكسوف على مدى أكثر من 2000 سنة

هل رُصد أول ثقب أسود طليق؟

كان ذلك الازدياد في السطوع أو ما تسميه لو “حدث العدسية الثقالي” هو ما وجدته هي وفريق ساهو في عام 2011 في البيانات التي جمّعها تلسكوب هابل الفضائي. وافترض الباحثون أن شيئاً ما يجب أن يكون قد مرّ أمام ذلك النجم.

تتطلب معرفة سبب التذبذب وتغير شدة ضوء النجم إجراء قياسين؛ قياس للسطوع وآخر للموضع. يرصد علماء الفلك نفس البقعة في السماء لزمن طويل ليروا كيف يتغير ضوء نجم ما مع مرور جسم أمامه. ويعطيهم هذا البيانات التي يحتاجونها لحساب كتلة ذلك الجسم، ما يتيح لهم تحديد ما إذا كان الجسم ثقباً أسود أم نجماً نيوترونياً.

تقول لو: “نحن نعلم أن الجسم الذي يتسبب بالتعديس الثقالي ثقيل. ونعلم أنه أثقل من النجوم العادية، كما نعلم أنه مظلم”، وتضيف: “لكننا ما زلنا غير متأكدين من مدى ثقله وإظلامه بالضبط”. تشرح لو أنه إذا كان الجسم ثقيلاً ولكن ليس كثيراً مثل أن تبلغ كتلته ضعف ونصف كتلة الشمس، فقد يكون نجماً نيوترونياً. لكن إذا كانت كتلته تبلغ 10 أضعاف كتلة الشمس، فسيكون ثقباً أسود.

عندما جمع الفريقان البيانات من عام 2011 إلى عام 2017، أنتجت تحليلات الباحثين كتلاً مختلفة للغاية لنفس الجسم الكثيف. استنتج فريق ساهو أن كتلة الجسم الجوال تبلغ 7 أضعاف كتلة الشمس، ما يجعله ثقباً أسود دون ريب. لكن حسب فريق لام ولو فإن هذه الكتلة أصغر، إذ قُدّرت أنها تبلغ ما بين 1.6 و4.4 أضعاف كتلة الشمس، ما يسمح بأن يكون الجسم الكثيف ثقباً أسود أو نجماً نيوترونياً.

اقرأ أيضاً: خريطة شاملة لأكثر من 25 ألف من الثقوب السوداء

لا يمكن لعلماء الفلك التأكد من صحة أحد الحسابين حتى يتمكّنوا من معرفة مدى سطوع النجم القابع وراء الجسم الكثيف وموقعه في السماء عندما لا يمر شيء أمامه. تشرح لو أن الفريقين لم يركزا على هذا النجم قبل أن يلاحظا سطوعه وتذبذبه غير الاعتيادي، لذا فقد أتيحت لهما الآن الفرصة لإجراء تلك الأرصاد الأساسية مع تلاشي تأثير التعديس الثقالي. وستبدأ هذه الأرصاد مع وصول بيانات تلسكوب هابل الجديدة في خريف عام 2022.

ما يعرفه الباحثون حالياً هو أن الجسم المعني موجود في الذراع الحلزونية التي تحمل اسم “قاعدة رامي القوس” في مجرة درب التبانة، وهو حالياً على بعد نحو 5000 سنة ضوئية من الأرض. تقول لو أيضاً إن الأرصاد الجديدة تبين أن أقرب ثقب أسود جوال قد يبعد أقل من 100 سنة ضوئية عن الأرض. ولكن هذا أمر لا يدعو للقلق.

تقول لو: “تأثير الثقوب السوداء فظيع. وإذا اقتربت منها بما يكفي، فستلتهمك”، وتضيف: “لكن يجب عليك أن تقترب كثيراً، أقرب مما نتخيل حسب اعتقادي”. عادةً ما يبلغ نصف قطر المنطقة حول الثقب الأسود والتي تحدد البعد الذي يبقى الضوء قادراً على الإفلات من جاذبية الثقب الأسود عنده، والتي تسمى أُفُق الحدث، أقل من 32 كيلومتراً.

إن احتمال مرور ثقب أسود جوال عبر جوارنا السماوي وتأثيره على الحياة على الأرض “صغير للغاية” حسب تعبير لو، والتي تقول: “يساوي قطر أفق الحدث قطر مدينة. لذا قد يمر ثقب أسود عبر المجموعة الشمسية دون أن نلاحظه حتى”.

اقرأ أيضاً: العملاق الجميل: اكتشاف وتصوير أول ثقب أسود في قلب مجرتنا درب التبانة

لكن لو لا تستبعد هذا الاحتمال تماماً، إذ تقول: “أنا عالمة، ولا يمكنني أن أقول إن الاحتمال معدوم”.

بغض النظر عما إذا كان الفريقان قد اكتشفا ثقباً أسود جوالاً أو نجماً نيوترونياً، تقول لو: “النتائج الثورية الحقيقة التي تبينها هاتان الورقتان هي أنه أصبحنا الآن قادرين على العثور على هذه الثقوب السوداء باستخدام مزيج من قياسات السطوع والموضع”. يفتح هذا الباب أمام اكتشاف المزيد من الأجسام الجوالة التي تلتقط الضوء، خاصة مع إطلاق تلسكوبات جديدة مثل مرصد “فيرا سي. روبن” قيد الإنشاء حالياً في تشيلي وتلسكوب “نانسي غريس الروماني الفضائي” المقرر إطلاقه في وقت لاحق من هذا العقد.

حسب اعتقاد لو، فإن “العصر الجديد لدراسات الثقوب السوداء في مجرتنا بدأ بالفعل”.