صدفة مذهلة: كيف غيّرت صورة واحدة للأرض نظرتنا لعالمنا؟

الأرض, ناسا, الفضاء, كوكب الأرض
وصف الصورة: صورة شروق الأرض، التي التقطتها بعثة أبولو الثامنة خلال رحلتها إلى القمر — حقوق الصورة: ناسا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

«أن نرى الأرض على حقيقتها، صغيرة زرقاء وجميلة، كأن نرى أنفسنا فرساناً نمشي على ظهر الأرض معاً، أخوة في المحبة المشرقة في هذا الصقيع الأبدي».

– الشاعر الأمريكي «أرشيبالد ماكليش»

 هذا هو المكان الذي نحيا به، في منتصف الفضاء الشاسع، على كرة صخريّة محصّنة ضد اللون الأسود القاتم اللانهائي، محاطة بغلاف من الهواء والألوان. كرة إعجازية، لكنها هشّة في الوقت ذاته، مثل فقاعة الصابون.

في عام 1968، عرفنا نحن أبناء الأرض ذلك بالفعل؛ لكن تلك الفكرة المجردة جاءت عشية عيد الميلاد في ذلك العام. خلال استكشاف مواقع الهبوط على سطح القمر، التقط رائد الفضاء من مهمة أبولو الثامنة «وليام أندرز» صورة الأرض الزرقاء اللامعة، وهي تشرق فوق الجبال القمرية ذات اللون الرمادي، مثل وجه كوني مبتسم.

هذه الصورة، التي أُرسلت لنا من الفضاء، وأسرت خيال العالم هي صورة شروق الأرض؛ حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها الإنسان الأرض تشرق فوق أطراف القمر، ولأول مرة ترى الإنسانية كم كانت الأرض جميلة، ثمينة، صغيرة، وهشة.

إعادة اكتشاف الأرض

«لقد قطعنا كل هذه المسافة من أجل استكشاف القمر، لكن كان أهم شيء هو أننا اكتشفنا الأرض».

– رائد الفضاء «ويليام أندرز»

في 21 من ديسمبر/كانون الأول عام 1968، انطلقت بعثة أبولو 8 إلى القمر، لتصبح أول رحلة بشرية تنطلق إلى مدار القمر؛ حاملة رواد الفضاء «فرانك بورمان» و«جيمس لوفل» و«وليام أندرز»، أول البشر الذين طافوا حول القمر في المهمة.

كان الهدف العام للبعثة هو إظهار أداء وحدة القيادة في عملية التوجيه والتحكم في نظام الملاحة في المركبة الفضائية قبل الهبوط على سطح القمر، وتقييم أداء الطاقم البشري في مهمات الدوران حول القمر، واختبار الاتصالات والتتبع على بعد هذه المسافة الشاسعة في الفضاء، والتقاط صور فوتوغرافية عالية الدقة لمناطق هبوط محتملة لمهمة أبولو القادمة، وغيرها من المواقع ذات الأهمية العلمية على سطح القمر.

وفي 24 من ديسمبر/كانون الأول، عشية عيد الميلاد، وعندما كانت تدور المركبة الفضائية حول الجانب المظلم من القمر، شهد رواد الفضاء الثلاثة ظهور كوكب الأرض فوق سطح القمر الرمادي، ليمسك الرائد «ويليام أندرز» بكاميرته ويلتقط صورة شروق الأرض؛ لتصبح واحدةً من أشهر الصور الفوتوغرافية من بين الصور التي التقطتها جميع مهام أبولو، وواحدة من أكثر الصور المؤثرة في عصر الفضاء وما بعده.

عندما التقط أندرز هذه الصورة لكرة زرقاء لامعة في فضاء شاسع ومظلم يطل على القمر، غيّر نظرتنا الإنسانية حول مكاننا في هذا الكون الهائل؛ حيث سمحت لنا أن نرى كوكبنا من مسافة شاسعة لأول مرة، تبدو فيه الأرض الحية، المحاطة بالظلام الدامس، هشّة للغاية، بمواردها المحدودة.

فنحن لسنا سوى كوكب صغير، يدور حول نجم عادي، في مجرة ​​كبيرة بين مليارات المجرات التي يمكننا رصدها؛ فالأرض لا تملك هذه الأهمية سوى لأننا نعيش عليها. لم يكن التقاط هذه الصورة ضمن خطة أو أهداف البعثة؛ كان الأمر عفوياً وبالصدفة، لكنه ظل إرثاً لهذه البعثة على مدار التاريخ. فبدلاً من اكتشاف القمر، قدمت لنا هذه الصورة إعادة اكتشاف كوكبنا الأزرق.

لماذا نستكشف الفضاء؟

لا ينقص الإنسانية مزيداً من المعاناة، من الفقر والجوع والحروب والكوارث الطبيعية التي تعصف بالبشرية بدون توقف، وحتى أفضل جهودنا المبذولة لإنهاء تلك المعاناة لا تستطيع إيقافها بالكامل، ولا تستطيع أن تصل إلى الجميع حول العالم.

ولهذا السبب يبحث الكثيرون عن وسائل لخفض التمويل عن أبحاث الفضاء والفلك، وحتى البحث العلمي بشكلٍ عام، بدعوى احتياج الإنسانية لهذه الأموال. فيظهر السؤال الذي يُطرح مراراً وتكراراً عبر التاريخ:

مع كل هذه المعاناة في العالم، الجوع والمرض والاضطهاد والكوارث الطبيعية، لماذا يجب أن ننفق المال العام على مؤسسة مثل البحث العلمي؟

بالطبع يمثل هذا السؤال قصر نظر؛ لأنه يفشل في إدراك أن أعظم مشاكلنا تتطلب استثمارات طويلة الأجل، وأن أعظم أوجه التقدم في مجتمعاتنا تتحقق من خلال العمل الجاد، والبحث والتطوير، وغالباً ما تتحقق بعد عدة سنوات أو عقوداً، أو حتى أجيالاً بعد الاستثمار فيها. ببساطة يعتبر الاستثمار في العلوم استثماراً لتحسين وضع الإنسانية ومحاولة تخليصها من تلك المعاناة.

لكن لا يسهل دائماً رؤية هذا الطريق، خاصةً عندما تكون المعاناة أمامك مباشرة؛ ففي أوائل العام 1970، وبعد فترة زمنية قصيرة من الهبوط الأول لبعثة أبولو 11 على سطح القمر، كتبت الراهبة «ماري جوكوندا»، التي كانت تعمل في زامبيا بقارة أفريقيا آنذاك، تخاطب وكالة ناسا تسألهم: كيف يمكنهم تبرير إنفاق المليارات على برنامج أبولو، بينما هناك الآلاف من الأطفال يتضورون جوعاً حتى الموت؟ وعندما يقارن المرء بين هاتين الفكرتين معاً، فلن تبدو المقارنة عادلةً أبداً.

وصل خطاب الراهبة جوكوندا بطريقة أو بأخرى إلى مكتب أحد كبار علماء الصواريخ في ناسا في ذلك الوقت، وهو «إرنست ستوهلينجر»، والذي كان يشغل منصب المدير المساعد للعلوم في وكالة ناسا.

كتب ستوهلينجر خطابًا طويلاً رداً عليها، وأرفق معه صورة شروق الأرض، أقتبس منه:

«تُظهر الصورة التي أرفقها بهذه الرسالة منظراً لأرضنا كما التقطتها بعثة أبولو 8 عند دورانها حول القمر في عيد الميلاد عام 1968. من بين كل ما نتج من برنامج الفضاء حتى الآن، قد تكون هذه الصورة هي الأكثر أهمية. لقد فتحت أعيننا على حقيقة أن أرضنا جزيرة جميلة ثمينة في فراغ لا نهائي، ولا نملك مكاناً آخر سواه نحيا به، سوى هذه الطبقة السطحية الرقيقة من كوكبنا، يحدّها العدم القاتم للفضاء. ولكن لحسن الحظ، فإن عصر الفضاء لا يحمل لنا مرآة يمكن أن نرى فيها أنفسنا فحسب، بل يوفر لنا أيضاً التقنيات والتحدي والدافع، وحتى التفاؤل لمواجهة هذه المعاناة بكل ثقة».

في عالمنا الحديث السريع، غالباً ما نبحث عن الإشباع الفوري، نبحث عن الحصول على مكافأة أو مكسب على المدى القريب، لكن العلم وأبحاث الفضاء لا تعمل على هذا النحو دائماً؛ إذ لم يتم تسخير الطاقة النووية سوى بعد عقود من الزمن بعد طرح الفكرة لأول مرة، ولم يتم العثور على «بوزون هيجز» إلا بعد مرور أكثر من 40 عاماً ومليارات من الاستثمارات في البحث العلمي، وكذلك لم نعرف بوجود موجات الجاذبية إلا بعد مرور قرن كامل من وضع أينشتاين نظريته النسبية حتى اكتشافها في مرصد «ليجو» عام 2015.

ومع ذلك، فقد ساعدت كل هذه الإنجازات العلمية في تشكيل العالم الحديث كما نعرفه الآن، حيث يتمتع مليارات الأشخاص حول العالم بمستوى حياة أفضل من أي وقت مضى. وبفضل مثل هذه الصورة، يمكننا الإجابة بثقة عن السؤال الدائم حول أهمية الاستثمار في العلوم، حتى مع كل المعاناة التي نراها في العالم اليوم.