ما الذي يخبرنا به اختلاف تخيل البشر للكوكبات عن ثقافتهم؟

ما الذي يخبرنا به اختلاف تخيل البشر للكوكبات عن ثقافتهم؟
كوكبة الجبار، والتي وصفتها قصص متشابهة ألفتها الشعوب اليونانية والأسترالية الأصلية. بيكساباي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

سألت نفسي بصوت عالٍ يوماً ما وأنا أنظر إلى النجوم المتلألئة في الظلام: “الكوكبات التي تأخذ شكل الديناصورات ليست موجودة بالفعل، أليس كذلك؟”.

بعد لحظات، مررت ببلدة داينوسور في ولاية كولورادو. وعندها، مع حلول الظلام، ظننت أنني لمحت شكلاً يشبه أحد أنواع سحليات الأرجل في السماء من نافذة سيارتي الجانبية. ضحكت بصوت منخفض وشعرت بأن رؤية الديناصورات غير الموجودة في الواقع أمر سخيف، وقلت لنفسي إن رؤيتي لهذا الشكل نتجت عن أني أحاول إقناع نفسي بوجود شيء غير موجود.

لكني اكتشفت لاحقاً أن رؤية الأشكال غير الموجودة في الواقع ليست أمراً سخيفاً؛ إذ إني بفعل ذلك، كنت أشارك في تقليد بشري يعود لآلاف السنين، وذلك وفقاً للأستاذ المساعد في علم الفلك واتصالات العلوم في جامعة نوتينغهام ترينت في إنجلترا، دانيال براون (Daniel Brown). يقول براون إن سماء الليل هي “لوحة مثالية” تتيح للناظرين ابتكار تصورات لأمور تتعلق بحياتهم، وتفسير هذه التصورات. يضيف براون قائلاً: “هذه الطريقة التي نبدأ فيها بوصف الكوكبات عادة”.

اقرأ أيضاً: هل ضرب كويكب ثان الأرض بعد الكويكب الذي تسبب بانقراض الديناصورات؟

لكن الكوكبات ليست مجرد رسوم تخطيطية للأفكار التخيلية للبشر؛ إذ إن الطريقة التي تتوزّع فيها النجوم في السماء تحفّز البشر على رؤية أنماط معينة. في الواقع، حددت العديد من الثقافات المختلفة حول العالم تجمّعات النجوم بطرق متشابهة بشكل لافت للنظر، على الرغم من أنها كانت ترصد السماء من زوايا مختلفة. تعكس الطرق المتشابهة والاختلافات بينها عادة الحقائق الفلكية التي تحكم حركة النجوم والأرض بالنسبة لبعضها بعضاً، بالإضافة إلى قيم وعقليات البشر الذين كانوا يرصدون السماء.

قصّتان مختلفتان عن كوكبة واحدة

لطالما أدت الكوكبات دور خرائط للملاحة ولوحات فنية لسرد القصص وتقويمات تشير إلى حدوث التغيرات الموسمية ومخططات تسهم في نقل المعارف والأفكار.

يقول الأستاذ المساعد لعلم الفلك الثقافي في جامعة ميلبورن في أستراليا، دوين هاماكر (Duane Hamacher): “حتى وقت قريب في التاريخ، لم يستخدم البشر لغات مكتوبة ومنظّمة. بل تواصلوا شفهياً فقط”. ويضيف: “لكن الدماغ البشري تطوّر ليمتلك القدرة على حفظ كميات هائلة من المعلومات”. تتمثّل إحدى الطرق التي يحفظ بها الدماغ المعلومات في ربط الذكرى بمكان ما. تحمل هذه الطريقة اسم طريقة المواقع، والتي يشرح براون أنها تُطبّق أيضاً على حفظ تشكيلات النجوم.

اقرأ أيضاً: شاهد قلب مجرة درب التبانة كما لم تره من قبل

يتم حفظ الذكريات الثقافية العميقة من خلال نقل المعارف المتعلقة بالكوكبات بين البشر. واليوم، لاحظ الباحثون وجود نمط محدد لتوزّع النجوم في السماء. جمّع البشر من مختلف الثقافات التي لم تتواصل مع بعضها بعضاً تاريخياً العديد من ألمع النجوم في كوكبات متشابهة بشكل ملحوظ. أطلق علماء الفلك الغربيون على بعض هذه التجمّعات النجمية أسماء مثل الدب الأكبر والجبار والثريا وصليب الجنوب.

وفقاً لفريق من الباحثين من جامعة ميلبورن، تتميّز هذه التجمّعات النجمية بسطوعها وقربها من بعضها في سماء الليل. ما جعلها تجذب انتباه راصدي السماء في نصفي الكرة الجنوبي والشمالي. استخدم الباحثون نموذجاً رياضياً لفرز النجوم في مجموعات بناءً على سطوعها وقربها من بعضها، ثم قارنوا هذه التجمّعات بالكوكبات التي وصفها 27 مجتمعاً بشرياً مختلفاً حول العالم. قام الباحثون بهذه العملية لاختبار مبدأ يعتبر أساسياً في آلية عمل الإدراك البصري لدى البشر. هذا المبدأ هو قانون جيشطالت للقرب، والذي ينص على أن الأجسام القريبة من بعضها يُنظر إليها على أنها تنتمي لنفس المجموعة بغض النظر عن مدى الاختلاف بينها. وجد فريق الخبراء من جامعة ميلبورن في ورقة بحثية نُشرت في وقت سابق من عام 2022 في مجلة سايكولوجيكال ساينس أن هذا المبدأ يفسّر تجميع البشر من العديد من الثقافات المختلفة النجوم في كوكبات متشابهة.

إن الاطلاع على الطرق التي استخدمها البشر من مختلف أنحاء العالم لفهم الأنماط التي لاحظوها في السماء يمكن أن يساعدنا على فهم بعض المناحي الثقافية لهؤلاء البشر وما هو مهم بالنسبة لهم.

لكن لا تقتصر التشابهات على النجوم التي جمّعها البشر معاً فقط؛ إذ إنهم رسموا مخططات وسردوا قصصاً متشابهة متعلقة بالنجوم. وحتى تلك القصص غالباً ما تكون متشابهة بشكل لافت للنظر، على الرغم من أنها تتأثر بثقافة المجتمعات البشرية المختلفة أكثر من تأثرها بخصائص النجوم نفسها.

على سبيل المثال، يقول هاماكر، والذي شارك بتأليف الورقة سابقة الذكر، إنه غالباً ما يُنظر إلى الشخصية الموجودة في كوكبة الجبار على أنه ذكر (أو مجموعة من الذكور) يطارد أنثى (أو مجموعة من الإناث)، والتي أطلق عليها الإغريق القدماء اسم الثريا (أو الشقيقات السبع). تقع مجموعة من النجوم تأخذ شكل حرف “في” وتحمل اسم القلائص بين كوكبة الجبار ومجموعة الثريا. ويقول هاماكر إن التأويلات الثقافية لهذه المجموعة تختلف قليلاً. ينص التفسير الإغريقي على أن القلائص تشبه الثور “توروس” الذي يمنع ذكور كوكبة الجبار من الوصول إلى إناث مجموعة الثريا. بينما يميل بعض السكان الأستراليين الأصليين إلى تصوير ذكر كوكبة الجبار على أنه زير نساء يقع في حب الأخوات السبع، بينما يحاول شقيقهن الأكبر منعه من الوصول إليهن.

اقرأ أيضاً: كيف يستطيع العلماء قياس المسافات بين النجوم والمجرات في الفضاء؟

في العديد من النسخ المختلفة لهذه القصة، تعكس تفاصيل مطاردة ذكور كوكبة الجبار لإناث مجموعة الثريا ودفاع نجوم القلائص عنهن حركة هذه النجوم وتفاعلاتها. بسبب دوران الأرض حول نفسها، تتحرك هذه الكوكبات عبر السماء خلال الليل، ويبدو أن نجوم كوكبة الجبار تطارد نجوم الشقيقات السبع. يقول هاماكر إن كوكبة الجبار تبدو مقلوبة رأساً على عقب بالنسبة لبعض الجماعات البشرية. ما دفع هؤلاء البشر لتأويل اللون الأحمر لنجم منكب الجوزاء الذي يوجد في هذه الكوكبة على أنه شعلة نارية سحرية يشعلها المحارب لقتال الشقيقة الكبرى في مجموعة الثريا. بنفس الوقت، يبدو النجم الأحمر الذي يحمل اسم الدبران والموجود في القدم اليسرى لهذه الشقيقة (والذي يوصف بأنه العين الحمراء للثور في التقاليد الإغريقية) على وشك رمي الرمال في وجه هذا المحارب. تومض هذه الشعلة النارية السحرية ويكبر حجمها في أثناء المواجهة، ما يعكس خفوت سطوع نجم منكب الجوزاء (والذي يعتبر نجماً متغيّر السطوع) وازدياده على مدار 400 يوم.

من أساطير إلى آلات

أحد العوامل الأخرى التي تؤثر على القصص التي ألفها البشر عن الأشكال السماوية هي الفترة الزمنية التي ألّف فيها البشر هذه القصص. على سبيل المثال، يقول براون إن العديد من الكوكبات التي وصفتها الثقافات الغربية التي عاشت في النصف الشمالي من الكرة الأرضية كانت أشبه بمخلوقات غامضة مبنية على الأساطير الإغريقية. وُصفت هذه الكوكبات في عدد كبير من القصص التي تم تأليفها في القرن الثالث قبل الميلاد. ومن المرجح أن بعضها يعود لفترات أكثر قدماً بكثير. بعد آلاف السنين، وثّق المستكشفون الغربيون الذين تجولوا في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية الأنماط التي لاحظوها في السماء لاستخدامها كأدوات تقنية. وخصوصاً أدوات الملاحة مثل أجهزة السدس أو البوصلات.

يقول براون: “وجدنا العديد من الأنماط المرتبطة بشكل أكبر بعصر الاستكشاف”، ويضيف: “هذا أمر غير مفاجئ لأن الجماعات الثقافية الغربية بدأت باستكشاف نصف الكرة الجنوبي عندما أصبحت أدوات الاستكشاف مثل الساعات والبوصلات أكثر انتشاراً بكثير”.

اقرأ أيضاً: نجوم فائقة السرعة تستطيع الهروب من جاذبية مجراتها

ولكن وفقاً لبراون، ما لم يأخذه المستكشفون الغربيون بعين الاعتبار هو المجموعات النجمية التي اكتُشفت وتمت تسميتها قبل آلاف السنين في سماء نصف الكرة الجنوبي من قبل البشر الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق، والذين فسروا الأنماط التي لاحظوها بطرق مختلفة للغاية.

يقول براون: “لهذا السبب أؤكد دائماً أن الكوكبات الإغريقية الغربية هي واحدة من طرق عديدة يمكن تأويل تلك الأنماط وفقها”. إن الاطلاع على الطرق التي استخدمها البشر من مختلف أنحاء عالم لفهم الأنماط التي لاحظوها في السماء يمكن أن يساعدنا على فهم بعض المناحي الثقافية لهؤلاء البشر وما هو مهم بالنسبة لهم.

يجري هاماكر وزملاؤه الآن تجارب لتحديد أنواع الكوكبات التي يبتدعها البشر دون تأثرهم بجماعات أخرى. ويقدّم هؤلاء للمشاهدين في إحدى القباب الفلكية محاكيات لسماء الليل التي تحتوي على نجوم في مواقع تختلف عن مواقعها الحقيقية. وفقاً لهاماكر، عندما يبدأ المشاهدون بوصل النقاط باستخدام خطوط لرسم الأشكال، تعكس هذه العملية ثقافتهم وتوفر معلومات عن المواقع الجغرافية التي يعيشون فيها؛ إذ يقول: “لن يرى الكثير من الأستراليين السناجب في السماء، ولن يرى الأميركيون دبب الكوالا”.

كوكبات خالية من النجوم

يقول هاماكر إن النجوم ليست الأجرام السماوية الوحيدة التي ترى في سماء الليل؛ إذ توجد أيضاً الكواكب في السدم والقمر. وفي بعض المناطق من العالم، تكون السماء مظلمة لدرجة تسمح برؤية الفراغات المظلمة حيث يغيب ضوء النجوم في مجرة درب التبانة.

في نصف الكرة الجنوبي، توصف هذه الفراغات غالباً بأنها كوكبات مظلمة. نظراً لانخفاض رطوبة الهواء في أستراليا مقارنة بالمناطق الأخرى من العالم، تعتبر هذه القارة مكاناً ملائماً بشكل خاص لرؤية المناطق الأحلك من سماء الليل.

لاحظت بعض الجماعات البشرية أيضاً أنماطاً متشابهة في الكوكبات المظلمة. على سبيل المثال، يقول هاماكر إن الشعوب الأصلية ترى طائر الإيمو في المنطقة المظلمة في مجرة درب التبانة والتي تقع بين كوكبة صليب الجنوب وبرج القوس. في أميركا الجنوبية، يرى بعض الأشخاص أيضاً طائراً كبيراً لا يمتلك القدرة على الطيران ويحمل اسم طائر الروحاء.

تظهر العديد من الأنماط النجمية خلال فترات محددة من العام فقط. بينما تبقى بعض الأنماط الأخرى مرئية طوال العام، وهي التي يمكن رؤيتها من قطبي الأرض. في أستراليا، تبدأ مجموعة النجوم التي تشبه طائر الإيمو بالظهور في المساء خلال نفس الفترة من العام التي تبدأ فيها هذه الطيور بالتكاثر وبناء أعشاشها ووضع بيوضها. يقول هاماكر إنه نظراً لأن البشر كانوا يبحثون عن هذه البيوض للتغذّي عليها، فإن الظهور الموسمي لكوكبة الإيمو المظلمة مثّل علامة على بداية فترة البحث عن الطعام بالنسبة لهم.

اقرأ أيضاً: كم عدد النجوم في الفضاء؟

يمكن أن يمثّل التلوث الضوئي أحد العوامل التي تؤثر على الطريقة التي يرى بها البشر النجوم. اليوم، تشوش المصابيح الاصطناعية التي تضيء ظلام الليل على ضوء النجوم، وتخفي ضوء أذرع مجرة درب التبانة باستثناء بعض من أكثر النجوم سطوعاً عن الملايين من سكان المناطق الحضرية والضواحي والمناطق المجاور لها.

يقول براون مشيراً إلى أحد التطبيقات التي يتم استخدامها لتحديد مواقع الكوكبات في السماء: “مع ذلك، لا يزول ضوء النجوم بشكل كامل. كل ما علي فعله هو استخدام تطبيق مثل ستيلاريوم لرؤيتها”، ويضيف: “لا زلنا نمتلك القدرة على التعلم عن الأجرام السماوية. أصبحنا نتفاعل مع السماء بطريقة مختلفة للغاية اليوم، وهي طريقة افتراضية”.

اقرأ أيضاً: كواكب ونجوم مجهولة: دليل أسرار النظام الشمسي

تتيح تطبيقات رؤية الكوكبات للمستخدمين إمكانية الاطلاع على المعلومات المتعلقة بسماء الليل كما ترى من مختلف أنحاء الأرض. ويستطيع المستخدمون الاطلاع على التأويلات الثقافية المختلفة للأنماط السماوية في أثناء مراقبتهم للسماء.

يقول براون: “يمكنك أن تتعلم عن العديد من الثقافات من خلال النظر إلى السماء. ستتمكن بشكل مباشر من رؤية أشكال يراها شخص ما يعيش في غابة الأمازون. وربما تكون هذه نفس الأشكال التي رآها البشر في الماضي”، ويضيف: “هذه الكوكبات هي إرث مشترك بين البشر”.