حجر نيزكي عمره 4.5 مليار سنة قد يحل لغز أصل الماء على الأرض

ساعدت شظايا نيزك وينككومب في إلقاء الضوء على عمر الصخور الفضائية وأصولها ومحتوياتها الواهبة للحياة. أمناء متحف التاريخ الطبيعي.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في إحدى ليالي فبراير/ شباط الباردة من عام 2021، أضاءت مدينة وينككومب كرة نارية مع دوي صوت قوي تزامن مع مرور حجر نيزكي فوقها. وينككومب مدينة سوق تحيط بها الحدائق وتقع في التلال الجميلة في جنوب غرب إنجلترا.

عرف علماء الفلك على الفور أهمية الحجر النيزكي الذي سقط هناك، وقاموا بنشر خبر سقوط الحجر هناك بسرعة للمساعدة في جمع شظاياه. في الأيام التالية، قام السكان المحليون والعلماء على حد سواء بتمشيط الحقول والأسيجة والممرات هناك، وجمعوا أكثر من نصف كيلوغرام تقريباً من شظايا النيزك الذي أتى من خارج الأرض.

نيزك عمره 4.5 مليار سنة

شعر الخبراء بسعادة غامرة تجاه كرة النار هذه بعد أن تبين أنها أقدم بكثير من قلعة وينككومب التي تعود للقرن الخامس عشر. في الواقع، يعود أصل هذا الحجر النيزكي إلى حطام فضائي عمره 4.5 مليار سنة، من الأيام المبكرة للنظام الشمسي. يمكن أن تساعد دراسة مثل هذا الحطام الباحثين في فهم ما كان يحدث في الوقت الذي كانت الكواكب فيه لا تزال تتشكل، مثل كمية المياه التي كانت ستغطي عالماً مثل المريخ.

يقول عالم الأرض في متحف التاريخ الطبيعي في لندن، آشلي كينغ: «يحتوي حجر وينككومب على جميع العناصر- الماء والجزيئات العضوية- اللازمة لبدء تشكّل المحيطات والحياة على الأرض». كان كينغ من بين عشرات العلماء الذين نشروا نتائج دراستهم لنيزك وينككومب في مجلة ساينس أدفانسيس مؤخراً.

يُعد الحجر النيزكي الذي سقط في بريطانيا من فئة النيازك التي يدعوها العلماء “الكوندريت الكربوني” (carbonaceous chondrite)، وهذه الصخور قديمة جداً بالفعل، ومن المرجح أنها تشكلت في الأيام الأولى للنظام الشمسي في نطاقاته الخارجية البعيدة قبل أن تقترب في النهاية من الكواكب الداخلية.

.
علماء يمشطون حقلاً في وينككومب بإنجلترا بحثاً عن شظايا الحجر النيزكي الذي سقط هناك. ميرا إهاز، سباير جلوبال وجامعة جلاسكو

اقرأ أيضاً: ما الذي يخبرنا به اختلاف تخيل البشر للكوكبات عن ثقافتهم؟

الكوندريتات الكربونية

تحتوي الكوندريتات الكربونية على محتوى كربون أعلى بكثير من معظم الصخور الفضائية الأخرى. كما أنها مشوبة بكمية صغيرة مما يسميه علماء الفلك بالمواد المتطايرة، مثل الميثان والنيتروجين وثاني أوكسيد الكربون، بالإضافة إلى الماء، حيث كانت هذه العناصر متجمدة ومستقرة في الفضاء، ولكن يمكن أن تتطاير وتتحول بسهولة إلى غاز في حرارة نظام شمسي داخلي مثل الأرض.

نادراً ما تأتي نيازك الكوندريت الكربوني إلى الأرض، ولذلك لا تمثل سوى جزء بسيط جداً من آلاف النيازك التي سقطت على الأرض وجُمعت أجزاؤها لدراستها. سقط أحد هذه النيازك على الأرض في الدنمارك عام 2009، وسقط آخر في عام 2012 في كاليفورنيا، ويبدو أن هذين النيزكين كانا يسلكان مساراً مشابهاً لمسار نيزك وينككومب، ومن المحتمل أن لهما نفس الأصل.

غالباً ما يرسل العلماء مهمات إلى الفضاء لجمع عينات من الصخور القديمة في الفضاء. على سبيل المثال، أطلق العلماء مركبة “هايابوسا 2” (Hayabusa2) من اليابان عام 2014، وعادت بعد 6 سنوات حاملة عينات من كويكب قريب من الأرض يُدعى “162173 ريوغو” (Ryugu 162173). وأيضاً، أطلقت ناسا مركبة “أوسيريس ركس” (OSIRIS-Rex) عام 2016 لنفس الغرض، ومن المتوقع أن تعود إلى الأرض عام 2023 حاملة معها عينات مماثلة من كويكب آخر قريب من الأرض يُدعى “101955 بينو” (101955 Bennu). يعتقد العلماء أن كلا الكويكبين من الكوندريتات الكربونية.

وفّر حجر وينككومب النيزكي على وكالات الفضاء الجهد بعد أن أتى بنفسه إلى الأرض. وبالإضافة إلى ذلك، ونظراً لأن السكان المحليين التقطوا مسار النيزك بكاميرات أبواب منازلهم وسياراتهم، لم يجد العلماء صعوبة في إعادة بناء مسار سقوط الحجر النيزكي إلى الأرض عبر الغلاف الجوي.

اقرأ أيضاً: ما تبعات تأخير مهمة سايكي على جهود وكالة ناسا في دراسة الكويكبات؟

كبسولة زمنية قيّمة

يقول كينغ: «لقد كان الأمر أشبه بالعودة من مهمة نموذجية لجمع عينات “طبيعية” من كويكب، لأننا كنا نعرف مسار النيزك قبل دخوله الغلاف الجوي وجمعنا شظاياه بعد ساعات فقط من هبوطه».

نظراً لأن شظايا الحجر النيزكي ذات طبيعة معروفة، فقد تمكن علماء الفلك أيضاً من تمييز الشظايا التي تعود إلى الحجر النيزكي عن تلك التي تعود إلى عناصر أخرى على الأرض، مثل شظايا الطرق. كما جُمعت الشظايا في غضون أيام قليلة، أي أن التلوث الذي تعرضت له العينات كان في حده الأدنى. يقول كينغ في هذا الصدد: «الشظايا المجموعة من حجر وينككومب نقية، ولم تتغير بفعل البيئة الأرضية، وبالتالي تمنحنا فرصة للنظر إلى الوراء عبر الزمن».

يقول عالم الأرض في جامعة جلاسكو في اسكتلندا وأحد المؤلفين المشاركين، لوك دالي: «لقد تمكنا من إجراء قياس مثير حقاً لمكون الماء في حجر وينككومب، ونعلم أنه أتى من خارج الأرض بنسبة 100%».

لم يجد العلماء الماء في الحجر الذي يمكن اعتباره “كبسولة للوقت” فحسب، بل عثروا أيضاً على مركبات تحتوي على الكربون والأوكسجين، بما في ذلك الأحماض الأمينية التي تُعتبر اللبنات الأساسية للحياة على الأرض.

نادراً ما يمكن العثور على حجر نيزكي مثل حجر وينككومب على الأرض، إلا أن النظام الشمسي المبكر كان ليعج مثل هذا الحطام الفضائي. إنها أشبه ببقايا الطعام في نواحٍ عديدة؛ مادة لم تلتهمها الكواكب الصغيرة التي كانت في طور التشكل. في ذلك الوقت، كان من الممكن أن تسقط نيازك الكوندريت الكربوني واحدة تلو الآخر على أسطح الكواكب الداخلية، لذلك من الممكن أن تكون الأحجار النيزكية، مثل حجر وينككومب، قد ساعدت في توصيل الماء والأحماض الأمينية مباشرة إلى الأرض بالإضافة إلى عطارد والزهرة والمريخ. ويطرح ذلك سؤالاً آخر: ما هي كمية المادة الواهبة للحياة التي حملتها هذه الحجارة؟

للإجابة عن هذا السؤال، قامت مجموعة من الباحثين من فرنسا والدنمارك بدراسة نوع مختلف تماماً من النيازك؛ شظايا انفصلت من المريخ وسافرت عبر الفضاء ووصلت إلى الأرض أخيراً. هناك نحو 200 مثال معروف لمثل هذه النيازك، والتي تعطي العلماء نظرة ثاقبة مباشرة عن تاريخ المريخ. نُشرت الدراسة الناتجة أيضاً في مجلة ساينس أدفانسيس مؤخراً.

هناك عنصر مميز بشكل خاص في صخور المريخ: الكروم. ليس الأمر كما لو أن هذا المعدن الثقيل غير معروف على الكوكب الأحمر، ولكن أحد نظائره المحددة، الكروم 54، لا يوجد بشكل طبيعي في القشرة السطحية للمريخ. في الواقع، من المرجح أن أصل الكروم 54 على المريخ قد أتى من نيازك الكوندريت الكربونية التي ضربته. ومن خلال قياس مستويات الكروم في هذه العينة من النيازك، يمكن للخبراء تقدير عدد الكوندريتات الكربونية التي ضربت المريخ.

يقول عالم الفلك بجامعة كوبنهاغن في الدنمارك، مارتن بيزارو: «يسمح لنا ذلك بتقدير دقيق للحد الأدنى من كمية المياه التي كان يجب أن توجد على سطح المريخ». وقد خلص هو وزملاؤه إلى أن الكوندريتات التي ضربت المريخ، إلى جانب بخار الماء المتصاعد من باطن الكوكب، ربما غمرت الكوكب بمحيط من المياه يبلغ عمقه نحو 300 متر.

.
رسم فني لكويكب أو مذنب يسقط في الغلاف الجوي للمريخ منذ ملايين السنين. دلتا فانز رافينزواي/ساينس سورس

يقول كينج، والذي لم يشارك في دراسة صخور المريخ: «تبدو هذه الدراسة مثيرة حقاً وتدعم أكثر الفرضية القائلة بأن الكويكبات الغنية بالمياه كانت المصدر الرئيسي للمواد المتطايرة للكواكب الأرضية».

اقرأ أيضاً: أول مركبة هبوط خاصة تحمل المستكشف الإماراتي راشد إلى القمر

أما بالنسبة إلى حجر وينككومب، فإن العلماء الذين أنجزوا الدراسة الأخيرة عنه ما زالوا لا يعرفون عن هذا الحجر الذي سقط من السماء إليهم بشكل غير متوقع إلا القليل جداً. إنه بمثابة نافذة على فترة كونية لا يوجد عنها دليل يذكر- فأقدم الصخور الأرضية المعروفة، على سبيل المثال، عمرها نحو 4 مليارات سنة فقط.

يقول دالي أخيراً: «هناك الكثير من المعلومات المثيرة التي يحملها حجر وينككومب، ولكن من المستحيل أن تجيبنا على جميع الأسئلة».