لماذا لم تتسبب المادة المظلمة في وفاة أي شخص حتى الآن؟

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

«الموت على يد المادة المظلمة». هكذا عَنْون علماء فيزياء أميركيون دراسة جديدة، تبحث في العواقب المفترضة لأحد أنواع المادة المظلمة على البشر، ونستعرض في هذا المقال بعض النتائج التي خلصوا إليها.

عندما يتحدث العلماء عن المادة المظلمة التي تشكل 85% من مادة الكون، فإنهم لا يتحدثون دائماً عن النوع نفسه من المادة المظلمة؛ لأننا لم نتمكن بعد من رصدها مباشرةً، فثمة الكثير من النظريات حول شكل المادة المظلمة وسلوكها، بالإضافة إلى  النظريات الغريبة التي تتحرى آثارها في جسم الإنسان.

يقول الباحث الرئيسي في هذه الدراسة «جاجيت سينج سيدهو»، طالب الدكتوراه في الفيزياء، بجامعة «كيس ويسترن ريسرف» في كليفلاند بولاية أوهايو: «نأمل أن يسلط هذا العمل الضوء على أنواع أخرى من المادة المظلمة بما يجعل الناس أكثر وعياً بالفروق بينها، وهو أمر جيد؛ فنحن لا نعرف ماهية المادة المظلمة ومكوناتها، لذلك من الجيد التفكير في مختلف الاحتمالات الممكنة بخصوصها».

ويُشرف على الباحث سيدهو عالم الفيزياء بجامعة كيس ويسترن «جلين ستاركمان»، الذي حدد في عام 2014 أحد أنواع المادة المظلمة وسماها «ماكروس»، والكلمة اختصار لـ «المادة المظلمة العيانية»، أحد أنواع المادة المظلمة الكبيرة والكثيفة. وقد صُمِّمت بناء على فكرة مفادها أن المادة المظلمة يمكن أن تتشكل من نفس مكونات المادة العادية، مع إضافة كواركات غريبة إلى هذا الخليط.

الفكرة الأهم في الدراسة أن «الماكروس» قادرة على التفاعل مع المادة العادية، وفي هذا تناقض صارخ مع الفرضيات الشائعة حول المادة المظلمة؛ مثل فرضية الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل التي تُعرف اختصاراً باسم «ويمبس»، ويقول ستاركمان عنها: «فرضية ويمبس تقول إن جسيمات المادة المظلمة ستمر عبرك وعبر الأرض دون إحداث تأثير، أما فرضية ماكروس فتقول إن تلك الجسيمات تتفاعل -بشدة- مع المادة العادية». هذه التفاعلات تحرر طاقة، وتحدث تأثيرات يمكن ملاحظتها.

ونشر ستاركمان وسيدهو منذ شهر تقريباً ورقة بحثية اقترحاً فيها استخدام ألواح الجرانيت لرصد المادة المظلمة، ويُبيِّن ستاركمان قائلاً: «سيذوب الجرانيت عند مرور جسيمات ماكروس عبره، وسيتحول حين يبرد إلى حجر «السَّبَج». وإذا فحصنا ألواح الجرانيت تلك، فينبغي أن نكون قادرين على تحديد آثار المادة المظلمة في حجر السَّبَج».

وقد تساءل «بوب شيرير»، أستاذ الفيزياء بجامعة فاندربيلت في ناشفيل، عندما عاين تلك الدراسة: «ماذا عن آثارها في البشر؟ إذ من الوارد جداً أن تؤثر جسيمات ماكروس في جسم الإنسان أيضاً في أثناء عبورها خلاله»، وقد أجرى شيرير بعض العمليات الحسابية، ووجد أنه من المحتمل معاينة تأثير المادة المظلمة في البشر مرات عديدة على الأقل سنوياً. كانت فكرة جنونية، لكن ستاركمان، وسيدهو، وشيرير كانوا مجانين بما يكفي للتعمق فيها أكثر.

وتضع الدراسة الجديدة نموذجاً يصف تأثير جسيم ماكروس في الجسم البشري، وتبحث إمكانية رصد هذا التأثير يوماً ما، ويقول ستاركمان بهذا الصدد: «تخيَّل أن جسيم ماكروس عبارة عن رصاصة شديدة الكثافة وسرعتها كبيرة، تصل إلى 0.001 من سرعة الضوء؛ أي أن سرعتها تفوق بكثير سرعة الرصاصة العادية».

يُشبه الجسيم عموداً يخترق الفضاء ودرجة حرارته مرتفعة، ويضيف ستاركمان: «تأثير هذا الجسيم يشبه تأثير سيف ضوئي، مثل التي تظهر في أفلام «ستار وورز». تشطر جسيمات ماكروس على جسمك الجزيئات والذرات في طريقها بحيث تصبح مؤينة، ويُحدث هذا انفجاراً صغيراً على طول مسارها عبرك». إذا تمكنت جسيمات ماكروس من اختراق اللحم والعظم وإحداث إصابات خطيرة، فمن المؤكد أننا سنرصد هذا التأثير عند شخص واحد على الأقل من بين 7.5 مليار شخص على هذا الكوكب، أليس كذلك؟

ويشير ستاركمان إلى أن وفاة شخص ما جراء تعرضه لجروح مجهولة المصدر، تُشبِه جروح الطلقات النارية، بحيث تنطبع على جسمه حروق تصل درجة حرارتها إلى 10 ملايين درجة – ستكون حتماً حادثة تتناقلها الصحف في كل مكان بعد إبلاغ الطبيب الشرعي عنها، ويجادل الباحثون في أنه ربما تم تسجيل حالة وفاة مشابهة بين ملايين الأشخاص الذين عاشوا في العالم الغربي – أوروبا الغربية وأميركا الشمالية – خلال السنوات العشر الماضية، وقد ركزت الدراسة على الديمقراطيات الغربية؛ لأن لديها بيانات موثوقة عن أسباب الوفيات.

ولم يصل إلى علمنا بطبيعة الحال أي تقارير عن حالات وفاة برصاصات مصدرها المادة المظلمة، وهو ما يعني أن جسيمات ماكروس لا يتعدى حجمها عدة ميكرونات، وتقل كتلتها عن 50 كيلوجرام، وفق قول الباحثين. وهذا كلام نظري مجرد، لكن هذا لا يعني أن الدراسة تفتقد إلى القيمة العملية؛ فيرى شيرير أن هذه النتائج «تفتح مجالاً جديداً للتفكير في المادة المظلمة»، ويضيف: «إن جسيمات ماكروس مختلفة تماماً عن جسيمات (ويمبس)، وتأثيرها مختلف أيضاً. ولذلك نود أن يفكر الناس في الآثار الخفية الأخرى التي قد تحدثها هذه المادة».

ليست هذه المرة الأولى التي يفكر فيها الباحثون في تأثير المادة المظلمة في البشر؛ إذ سبق لـ «كاثرين فريز»، عالمة الفيزياء النظرية بجامعة تكساس في أوستن، أن نشرت دراسة عن جسيمات «ويمبس» بوصفها مصدراً محتملاً للإشعاع النووي، لكن الدراسة الجديدة تذهب أبعد من ذلك، وتضع سيناريو جنونياً، قد لا نرى مثيلاً له في المستقبل، ويعلق ستاركمان على هذا قائلاً: «مثل هذه الأبحاث فرصة للتفكير في الأمور بطريقة مختلفة، واستكشاف الإمكانيات التي تتيحها لنا الطبيعة».

يشارك علماء آخرون التصور نفسه عن الموضوع؛ إذ يقول «دان هوبر» عالم الفلك وفيزياء الجسيمات، والباحث في مختبر «فيرميلاب» في شيكاغو: «تخبرنا هذه الاستنتاجات من حيث المبدأ بما عليه المادة المظلمة؛ إذ نجد في كل مرة نُضيِّق فيها مجال البحث في الموضوع أننا نقترب أكثر من معرفة ماهية المادة المظلمة وطبيعتها».

وقد نُحقِّق تقدماً  أكثر أهمية مما نتوقع؛ إذ شرع ستاركمان وسيدهو في بحث تأثير المادة المظلمة في الجرانيت عند تحوله إلى السَّبَج، وإذا تمكنوا من التوصل إلى نتيجة إيجابية، فسيمهدون بذلك الطريق لاستكشاف ماهية المادة المظلمة قبل الجميع، ويقول ستاركمان: «لن نحتاج إلى 50 مليون دولار للقيام بذلك؛ فثمة أمور غير مُكلِّفة وممتعة يمكننا استخدامها للبحث عن المادة المظلمة، وهناك الكثير من الأشياء المثيرة التي يمكن الاعتماد عليها في هذا السعي».