هذا الفيلم دقيق إلى حد بعيد، وهكذا ساعدت ناسا في إنتاجه

ريان جوسلينج، بطل فيلم الرجل الأول، أثناء جولة اطلاعية في مركز جونسون الفضائي التابع لناسا.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملاحظة: تتحدث هذه المقالة عن بعض الأحداث الأساسية في الفيلم. وقد أعذر من أنذر!

وقع منتجو الأفلام في غرام الفضاء قبل ظهور علوم الفضاء والصواريخ الحديثة بوقت طويل، وكانوا يتخيلون مغامرات عجيبة بعيداً عن سطح الأرض لإرضاء جماهير المشاهدين حول العالم. غير أن بعض أفلام الفضاء قد ركَّزت في قصصها على الواقع بدلاً من الخيال العلمي، مثل فيلم “The Right Stuff (المكونات الصحيحة)” في عام 1983، وفيلم “أبولو 13” في عام 1995، وفيلم “The Hidden Figures (الشخصيات الخفية)” في عام 2016، وفيلم “The First Man (الرجل الأول)” الذي ظهر مؤخراً في صالات السينما، وغيرها.

وقد يكون من الصعب محاكاة بداية عصر استكشاف الفضاء بعد عقود عديدة من الزمن، ولكن هوليوود حظيت ببعض المساعدة في جعل هذه الأفلام أقرب ما يمكن إلى الواقع. حيث تمتلك ناسا كنزاً من السجلات التي يمكن للكُتَّاب والمنتجين أن ينقِّبوا فيها بحثاً عن فكرة فيلم حول إحدى البعثات. وإذا رغبت في الغوص في تاريخ ناسا لهذا الغرض، فيجب أن تتحدث أولاً مع بيرت أولريك، وهو مسؤول التواصل للإعلام والتعاون التلفزيوني والسينمائي في ناسا. وكما فعل أولريك من قبل في الكثير من الإنتاجات حول الفضاء، فقد لعب دوراً هاماً في مساعدة مؤلف السيناريو جوش سينجر والمخرج داميان تشازيل على عرض قصة أرمسترونج (أول رائد فضاء يخطو على سطح القمر) في فيلم الرجل الأول بأدق ما يمكن.

ويتلقى أولريك -بصفته مسؤول التواصل الإعلامي- مئات العروض سنوياً من كُتاب ومنتجين ومخرجين، وتقع على عاتقه مهمة اختيار الأفلام والمسلسلات التي ستتعاون الوكالة معها. ففي 2017 فقط قدَّم أولريك المساعدة إلى 143 فيلماً وثائقياً، و25 فيلماً سينمائياً، و41 مسلسلاً تلفزيونياً؛ حيث قام بتنسيق المقابلات، وعمليات التصوير في منشآت ناسا، والبحث في السجلات، ويقول أولريك: “تعتبر الصور والأفلام وغيرها من التفاصيل في سجلات ناسا التاريخية جزءاً هاماً للغاية من إرث ناسا”. ومن النصوص التي عمل عليها أولريك: النسخة الأولية من سيناريو فيلم الرجل الأول لسينجر.

وقد تم بناء هذا النص بالاعتماد على السيرة الذاتية الوحيدة المرخص لها حول أرمسترونج، وهي بقلم جيمس هانسين، وتحمل نفس العنوان: الرجل الأول. ولا تقتصر القصة فقط على أحداث الهبوط الأول على القمر، ولكنها تلقي نظرة دقيقة على أرمسترونج بصفته إنساناً، حيث يقول سينجر: “تعتبر الدقة في غاية الأهمية، لأننا نعرف مدى أهميتها لعائلة أرمسترونج، ونعرف أهميتها بالنسبة لنيل أرمسترونج شخصياً. كما أننا نعتقد أن هذه الرواية تمثِّل صورة مثيرة لنيل وبرنامج الفضاء في نفس الوقت”.

زار سينجر مقر ناسا في واشنطن العاصمة ليلتقي مع أولريك والمؤرخ الرئيسي بيل باري لمناقشة النص، ويقول سينجر ضاحكاً: “لقد أثقلوا كاهلي بالكتب”. وبعد ذلك سافر سينجر إلى الريف لزيارة منشآت أخرى لناسا، وإجراء مقابلات مع عدد من الأشخاص الذين عملوا بشكل مباشر مع أرمسترونج أو ضمن البعثات التي شارك فيها. يقول أولريك: “كنا حريصين على مشاركة عائلة أرمسترونج أيضاً”، ولهذا قام بترتيب عدد من المقابلات لسينجر مع جانيت أرمسترونج (زوجة نيل السابقة) وأبنائه مارك وريك، وأخته جون. وعندما أعطت العائلة موافقتها على المضي قدماً في المشروع، بعد أن وجدوا أن النص يرسم صورة أرمسترونج بدقة كافية، وقَّعت ناسا عقداً رسمياً على المشاركة في الفيلم بصفة استشارية.

يقول سينجر: “قدَّمت ناسا المساعدة بشكل يفوق المتوقع”، ولم تقتصر مساعدة ناسا على عملية الكتابة (حيث أُتيحت لسينجر فرصة التحليق في محاكاة لرحلة أرمسترونج على طائرة إكس 15، وهي تمثِّل المشهد الافتتاحي في الفيلم، وذلك حتى يكتب المشهد بواقعية عالية، كما تم ترتيب لقاء مع جو إينجل، وهو آخر شخص على قيد الحياة من طياري إكس 15)، بل وصلت أيضاً إلى عملية التصوير، حيث يقول سينجر: “بذل داميان تشازيل كل ما بوسعه من جهد لتصوير اللقطات بشكل واقعي”.

وباستخدام ما قدمته ناسا من مخططات ونماذج وتجهيزات حقيقية في بعض الأحيان، قام طاقم الفيلم ببناء نماذج واقعية للمركبات الفضائية والطائرات والآلات الأخرى المطلوبة للفيلم. وعلى سبيل المثال، تضمَّن أحد المشاهد عطلاً في مركبة أبحاث الهبوط القمري كاد يؤدي إلى مقتل أرمسترونج -وهو حدث حقيقي- وقد تم تصويره باستخدام نموذج يطلق نفثات من البخار فيما يتحرك في الهواء محمولاً برافعة. وقد قام فريق الإنتاج أيضاً ببناء منصة تدريب متعددة المحاور قادرة على تدوير رواد الفضاء بسرعات عالية. يقول سينجر: “من المرجح أنها لم تكن تعمل بطريقة مطابقة للمنصة الحقيقية، ولكنها كانت قادرة على الدوران في الاتجاهات الثلاثة، كما أنها كانت مطابقة في شكلها للمنصة الحقيقية”.

زار جوسلينج عدة مواقع تاريخية أثناء تحضيراته لدور نيل أرمسترونج في فيلم الرجل الأول. ويظهر في الصورة جالساً في قمرة قيادة طائرة في مطار إيلينجتون في هيوستن.
مصدر الصورة: جيمس بلير

وبالانتقال من الصورة إلى الصوت، قدَّمت ناسا أيضاً مساعدة جوهرية لإعادة بناء الأصوات الحقيقية التي يسمعها المشاهدون في الفيلم، وسمحت للفنانين المختصين بالصوت بالعمل على البدلات الفضائية لبرنامجي جيميناي وأبولو. يقول سينجر: “قام المختصون بتسجيل صوت رفع السحاب وإخفاضه، كما وضعوا ميكروفونات داخل الخوذة لتسجيل صوت تدفق الهواء”. وأمضى الكاتب أيضاً بعض الوقت مع الرواد وهو يدقق في تفاصيل جميع الأصوات التي تُسمع أثناء الإقلاع، ويقول سينجر: “عندما رأى فرانك هيوز لقطة إقلاع جيميناي لأول مرة، قال لي: (أتعرف؟ لاحظنا شيئاً غريباً في صاروخ تيتان. فعندما كان يبدأ بالصعود إلى الأعلى، كان يصدر صوت زقزقة غريبة). ولم يكن الصوت في مجموعتنا، ولكننا عثرنا عليه وأضفناه إلى المشهد”.

ولم تكن ناسا الجهة الوحيدة التي ساعدت في إنتاج الفيلم بهذه الدقة، بل قدَّمت أوساط المهتمين بالفضاء بشكل عام مساعدتها أيضاً. يقول سينجر: “تم بناء لوحة التحكم في قمرة القيادة في جيميناي 8 من قِبل أحد الهواة الذي كان يعشق جيميناي منذ الطفولة، وهي نسخة مطابقة للأصل”. غير أن ناسا تدخلت أيضاً لتحديد وظيفة كل هذه الأزرار على اللوحة؛ حيث إن فرانك هيوز (الذي قام بتدريب رواد أبولو) كان أيضاً خبيراً في جيميناي، وجلس مع سينجر ليشرح له وظيفة كل منها واحداً واحداً. كما أن هيوز ساعد سينجر أيضاً على ترجمة تسجيلات الاتصالات لكل بعثة، يقول سينجر: “يمكننا أن نستمع إلى الاتصالات، ولكن فهم ما يحدث فعلياً أمر مختلف تماماً، ولهذا طلبت من فرانك أن يساعدني في إضافة شيء من الحوار من أجل مساعدة المشاهدين على فهم ما يحدث عندما كانت الاتصالات غامضة”.

وقد أتت المزيد من المساهمات من العامة عند إطلاق الفيديوهات الترويجية، وعلى سبيل المثال، اتصل مؤرخون فضائيون بالفريق لإعلامهم بخطأ كبير في نفاثات جيميناي 8، كما يقول سينجر: “لقد اضطررنا إلى تغييرها بشكل كامل باستخدام المؤثرات المرئية”.

وعلى الرغم من أن ناسا والأوساط الفضائية قدموا الكثير فيما يتعلق بدقة النواحي العملية من الفيلم، فقد كانت عائلة أرمسترونج ورواد الفضاء هم المعامل الأكثر أهمية للتعرف على شخصية أرمسترونج. وعند كتابة السيرة الذاتية الرسمية، أمضى هانسين ساعات مطوَّلة مع عائلة أرمسترونج، بما فيهم نيل نفسه، حتى أن سينجر يقول: “أعتقد أن جيمس يفهم نيل بطريقة فريدة من نوعها، لقد تعمق في شخصيته كثيراً”.

وقد تم تجسيد شخصية أرمسترونج في الفيلم على أنه رجل صموت وكتوم، خصوصاً بعد خسارة ابنته كارين التي توفيت بسبب السرطان بعمر السنتين فقط، إضافة إلى موت العديد من زملائه رواد الفضاء خلال حياته المهنية. يقول سينجر: “لم يكن بالرجل المنفتح اجتماعياً الذي يبادر بالاقتراب منك، بل يجب أن تأتي المبادرة منك، وعندها سيواجهك بهذا الحس الفكاهي الجاف والابتسامة الكبيرة. ولكنه كان رجلاً منغلق العواطف، وهو ما يتوافق مع وصف جيم له في كتابه، كما أن أولاده يقولون إنه لا يجيب في أغلب الأحيان عن الأسئلة الموجهة إليه، كما تقول جانيت أن كلمة “كلا” كانت جملة كافية لنيل أثناء النقاش”.

هناك جزء واحد من الفيلم لا يستند إلى الواقع، بل هو أقرب إلى تقدير يرتكز على بعض المعلومات، وهو اللحظة التي يترك فيها أرمسترونج سوار ابنته كارين ليسقط في حفرة ليتل ويست على سطح القمر. ففي الأحداث الفعلية على سطح القمر، اتَّبع أرمسترونج وزميله باز ألدرين سلسلة من الحركات المنسَّقة بدقة، باستثناء برهة خرج فيها أرمسترونج عن التتابع المحدَّد سلفاً ليقف على حافة الحفرة. ويتوقع هانسين -بعد إمضاء عدة سنوات مع عائلة أرمسترونج- أن رائد الفضاء قد ترك شيئاً من أغراض كارين هناك.

وكما يفعل متسلقو جبل إيفرست، ترك الكثير من رواد الفضاء الذين ذهبوا إلى القمر تذكارات أو أشياء لأحبائهم الأحياء أو الأموات في ذروة الرحلة، ولهذا ليس من المستغرب أن نتوقع شيئاً كهذا من نيل. غير أنه لم يؤكده شخصياً، وهو أمر متوقع من رجل يحافظ على خصوصياته بهذا الشكل. يقول سينجر: “ولكن هانسين ذهب مباشرة إلى جون هوفمان (أخت نيل)، وقد كان يشعر أنها تعرفه أكثر من أي شخص آخر في العالم، وسألها: هل تعتقدين أن نيل ترك شيئاً من أغراض كارين هناك؟ وأجابت جون: آمل أنه فعل هذا”.

وبالنسبة لسينجر وتشازيل، فإن فيلم الرجل الأول يعتبر فرصة للحديث عن ناحية لا نسمعها كثيراً من قصة الهبوط القمري، حيث يقول سينجر: “نحن نحاول تحريك التاريخ بعض الشيء، فما أكرهه في الروايات السابقة التقليدية عن برنامج الفضاء هو أنها تجمل الأمور كثيراً، خصوصاً في السنوات الأولى من البرنامج، ولهذا تمنحنا شعوراً زائفاً بسهولة العمل. ولكني أعتقد أن تحقيق الإنجازات أمر صعب للغاية، وأن إنجازات من هذا المستوى تتطلب تضحية عظيمة، وقد كانت الكلفة مرتفعة جداً بالنسبة لرواد الفضاء على وجه الخصوص، وبشكل أكبر مما ترسمه كتب التاريخ”.