نظرة عن كثب إلى الماضي السحيق من خلال عيون الحيتان القديمة

نظرة عن كثب إلى الماضي السحيق من خلال عيون الحيتان القديمة
حصل العلماء على رؤى جديدة حول كيفية عيش أسلاف الحيتان الأولى من خلال تتبع التاريخ التطوري للبروتينات البصرية الخاصة بها. ديبوزيت فوتوز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يكاد يكون من المستحيل معرفة كيف كان سلوك الحيوانات المنقرضة، فليس لدينا ما يشبه الحديقة الجوراسية يمكننا من خلالها مشاهدة هذه الحيوانات وهي تصطاد أو تتزاوج أو تهرب من الحيوانات المفترسة. لكن هناك تقنية متطورة توفر للباحثين شيفرة فسيولوجية تساعد في فهم سلوك الأنواع المنقرضة من خلال إعادة بناء البروتينات الخاصة بها. قد يساعد هذا النوع من الاستحضار الجزيئي الباحثين على فهم سمات الحيوانات التي لم تحتفظ بها السجلات الأحفورية.   

إحياء الأصباغ البصرية للحيتان

في أحدث مثال على استخدام هذه التقنية، قام العلماء بقيادة سارة دونجان التي قامت بهذا العمل عندما كانت طالبة جامعية في جامعة تورنتو بإحياء الأصباغ البصرية لبعض أسلاف الحيتان الأوائل. منح العمل دونجان وزملاءها نظرة جديدة على كيفية عيش الحيتان القديمة في أعقاب فترة تطورية حاسمة تعود إلى نحو 55 إلى 35 مليون سنة، عندما تخلت الحيوانات التي أصبحت في النهاية «حيتان ودلافين» عن نمط حياتها الأرضية لتعود إلى البحر. 

بدأ شغف دونجان بتطور الحيتان عندما كانت في الثامنة من عمرها. كانت تحب قضاء الوقت عندما كانت طفلة بالقرب من البحر والتعرّف إلى الأحياء البحرية وعلومها. أخبرها والدها في إحدى المرات أن أسلاف الحيتان الحديثة كانت تعيش في الماضي على الأرض، فعلقت في ذهنها فكرة أن الحيوان يمكن أن يتحول من العيش خارج الماء كلياً إلى حيوان لا يستطيع مطلقاً العيش خارج الماء. تقول دونجان: «لقد أذهلني التعلم عن التحول التطوري الذي سلكته الحيتان الحديثة، أقصد تحولها من العيش في الماء إلى الأرض وعودتها مجدداً إلى الماء. لقد كانت الورقة البحثية التي عملت عليها بمثابة نهاية قصة بدأت عندما كنت طفلة». 

اقرأ أيضاً: الحيتان القاتلة تفترس الحيتان الزرقاء أكبر مخلوقات الأرض

في عام 2003، ابتكر الباحثون في جامعة تورنتو طريقة لتجميع البروتينات البصرية القديمة للحيوانات المنقرضة، وطبّقوها على العديد من الحيوانات في مملكة الحيوان، ما منحهم نظرة حول كيف كانت هذه الحيوانات ترى العالم من حولها. لكن دراسة الحيتان المنقرضة مثيرة للاهتمام بشكل خاص لأن الانتقال من العيش على الأرض إلى المحيط غيّر طبيعة محيطها البصري كلياً.  

أهمية الدراسة في فهم التحول من العيش على اليابسة إلى المحيط

في هذه الدراسة، درس الباحثون الرودوبسين، الصباغ البصري المسؤول عن رؤية الضوء الخافت، لدى الحيوانات التي تحولت من العيش على اليابسة إلى المحيط. حيث ركزوا على الحيتان الأولى، والتي عاشت قبل 35 مليون سنة وربما كانت تسبح في الماء معتمدةً على العضلات القوية في ذيلها، بالإضافة إلى مجموعة الحيتان وأفراس النهر الأولى (إحدى المجموعات التي تضم الحيتان وأفراس النهر)، والتي عاشت قبل 55 مليون سنة. 

لم يكتشف العلماء أي حفريات للنوعين المنقرضين بعد، لذلك لم يكونوا قادرين على تحديد الأنواع على وجه الدقة. لكن يمكن للتقنية التي ابتكرتها دونجان وزملاؤها التنبؤ بتسلسل البروتين القديم حتى بدون هذه المعلومات الأحفورية. يتتبع هذا النهج الأثر التطوري المتبقي في بروتينات الحيوانات الحديثة لمعرفة كيف كانت ستبدو الأشكال القديمة للأنواع، حتى دون توفر عظامها. من خلال مقارنة البروتينات المفترضة لأفراس النهر والحيتان الأولى، يمكن للعلماء تحديد الاختلافات الدقيقة في رؤيتها، والتي يمكن أن تعكس بدورها الاختلافات في سلوك الحيوانات. 

تقول دونجان: «هناك الكثير الذي يمكنك تعلمه بالطبع من الأدلة الأحفورية، لكن العين تمثل نافذة بين الكائن الحي وبيئته». 

اقرأ أيضاً: في المحيط الشاسع: غناء الحيتان قد يحميها من الاصطدام بالسفن

اعتماداً على شجرة التطور وبُنى صبغة الرودوبسين من الحيتان الحديثة، قامت دونجان وفريقها ببناء نموذج للتنبؤ بمتغيرات الحيوانات القديمة. قام الفريق بتصنيع الأصباغ البصرية في المختبر عن طريق تعديل خلايا الثدييات المستزرعة جينياً واختبروا أي الأضواء كانت أكثر حساسية لها. وجد العلماء، مقارنةً بفرسيات النهر القديمة، أنه من المحتمل أن الحيتان المنقرضة كانت أكثر حساسية للأطوال الموجية الزرقاء للضوء. يتغلغل الضوء الأزرق في المياه أعمق من اللون الأحمر، وهذا هو السبب في أن كائنات أعماق البحار الحديثة، بما في ذلك الأسماك والحيتان، تتمتع برؤية تتحسس اللون الأزرق. تشير النتائج إلى أن الحيتان المنقرضة كانت تسبح في أعماق البحر دون مشكلات.

اكتشاف قلب الموازين

اكتشف العلماء أيضاً أن صبغة الرودوبسين في الحيتان القديمة كانت تتكيف بسرعة مع الظلام. تتكيف عيون الحيتان الحديثة بسرعة مع الضوء الخافت، ما يساعدها على التنقل بين السطح المضيء حيث تتنفس، والأعماق المظلمة حيث تتغذى. تقول دونجان إن هذا الاكتشاف “قلب الموازين حقاً”. 

بناءً على النتائج التي توصلوا إليها، يعتقد العلماء أن الحيتان الأولى ربما كانت تغوص على أعماق تتراوح بين 200 و1000 متر. كانت القدرة على الرؤية مهمة جداً في أثناء الغوص إلى هذه الأعماق، إذ لم تكن الحيتان القديمة قادرة على تحديد الموقع بالصدى مثل الدلافين، لذلك اعتمدت بشكل أكبر على الرؤية. 

تقول اختصاصية أمراض الأعصاب بجامعة نورث كارولينا ويلمنجتون، والتي لم تشارك في الدراسة، لوريان شويكرت: «الاكتشاف مذهل حقاً. اعتقدت أن الحيتان الأولى كانت ستبقى بالقرب من السطح، لكنها كانت تغوص لمسافات أعمق حقاً». 

وتضيف شويكرت أن دراسة فسيولوجيا العين هي طريقة موثوقة لمعرفة بيئة الحيوان لأن البروتينات البصرية لا تتغير كثيراً بمرور الوقت، والتغيرات النادرة التي يمكن أن تطرأ عليها ترتبط دائماً بالتغيرات البيئية. 

وتقول شويكرت: «كان إلقاء المزيد من الضوء على الترتيب الذي تطورت من خلاله سلوكيات الحيتان في الغوص إلى أعماق أكبر أهم ما توصل إليه بحث دونجان وزملائها». يعتمد بحث دونجان الذي درس صبغة الرودوبسين على دراسة سابقة قدمت نتيجة مماثلة، حيث أعاد الباحثون خلالها بناء جزيئات الميلوغلوبين القديمة وأظهروا أن الحيتان الأولى كانت تزود عضلاتها بكميات كبيرة من الأوكسجين أثناء حبس أنفاسها، ما يعد دليلاً إضافياً على أنها كانت تتمتع بالقدرة على الغوص إلى أعماق أكبر وقد أظهرت دراسة أخرى، ولكن على طيور البطريق، أن هذه الطيور طورت آليات لإدارة الأوكسجين بكفاءة أكبر خلال انتقالها إلى نمط الحياة البحري. 

تخطط دونجان وزملاؤها الآن لإعادة إحياء صبغة الرودوبسين لأقدم الثدييات والخفافيش والأركوصورات، حيث سيساعدها ذلك على فهم كيفية تطور سلوكيات النشاط الليلي وبناء الأعشاش والطيران لدى الحيوانات. 

تقول شويكرت: «إن نهج النظر إلى الماضي بهذه الطريقة لفهم كيفية تطور هذه الحيوانات مثيرٌ حقاً. لقد أحببت فكرة أنه بإمكاننا دراسة الرؤية لدى الحيوانات لفهم تطورها بشكلٍ أفضل».