كيف مهد انقراض الديناصورات الطريق للعصر الذهبي للثدييات؟

كيف مهد انقراض الديناصورات الطريق للعصر الذهبي للثدييات؟
حقوق الصورة: ديبوست
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تخيّل نفسك في العصر الطباشيري. إنها فترة ما بعد الظهر المشمسة في يوم مثل أي يوم آخر في منطقة “هيل كريك” في ما يعرف اليوم بولاية مونتانا الأميركية قبل نحو 66 مليون سنة. الأرض تحت قدميك طريّة قليلاً وتفوح منها رائحة القاذورات الكريهة المشبعة بمياه الأمطار التي تسببت بفيضان سهل فيضي قريب. إذا لم تكن تعرف مسبقاً أين أنت، فقد تعتقد أنك تمشي على حافة مستنقع على ساحل خليج المكسيك في الولايات المتحدة في يوم صيفي حيث تشق نباتات الماغنوليا والقرانيا طريقها عبر التراب مشكلة شجيرات واقفة مخروطية تشبه السراخس والنباتات القصيرة الأخرى التي تلوح برقة في النسيم الخفيف الذي يطفو فوق الأرض حيث تقف. لكن سرعان ما يذكّرك وجه مألوف بأنك في زمن مختلف.

ما قبل الكارثة

يتمشّى أحد الديناصورات ثلاثية القرون الذي اسمه “تريسيراتوبس هوريدوس” على طول حدود الغابة وتتأرجح قرونه الجبهية التي يبلغ طول كل منها نحو متر واحد جيئة وذهاباً بينما يحرّك الديناصور البدين جسمه الذي يبدو مكسواً بالقشور والذي يزن 10 أطنان على الأرض الرطبة. هذا الديناصور هو حيوان رباعي الأرجل هائل الحجم يمتلك جسماً ذو جلد قاس تطوّر ليتمكن من حمل رأس ضخم مزيّن بهدب عظمي يبدو كدرع يخرج من خلفية جمجمته، وقرن طويل فوق كل عين وقرن قصير آخر فوق الأنف ومنقار يشبه منقار الببغاء يساعد الديناصور على تقطيع النباتات التي يتم طحنها بواسطة الأسنان الخديّة لآكل النباتات هذا. ينخر هذا الديناصور العاشب فجأة، ما يجعل حيواناً ثديياً مخفياً في مكان ما في ظلمات الغابة يرتجف ويتحرك بذعر. لا يوجد تقريباً أي ديناصور آخر في هذا الوقت من النهار المشمس الذي تسوده درجات حرارة تتجاوز 26 درجة مئوية. “السحالي الرهيبة” الوحيدة التي تراها بوضوح هي زوج من الطيور الجاثمة على غصن كثير العقد تخطف نظرة سريعة من ظلال الغابة. تبدو الطيور وكأنها تبتسم، وأسنانها الصغيرة التي تلتقط الحشرات تبرز من مناقيرها.

هذا المشهد الذي سنراقب منه النهاية اللاهبة لعصر الديناصورات.

اقرأ أيضاً: هل كانت الديناصورات أنواعاً اجتماعية؟

سيمُحى كل شيئ تقريباً أمامك في هذا المشهد من الوجود في غضون ساعات. ستتحول النباتات الخضراء إلى نار وستصبح السماء المشمسة مظلمة بسبب السخام وسيتحول الغطاء النباتي إلى رماد. وستنتشر قريباً الجثث الملتوية المكسوة بالجلد المتشقق في جميع أنحاء التضاريس المدمّرة. سيسقط “التيرانوصور ريكس” الذي كان ملكاً طاغية عن عرشه شأنه شأن جميع أنواع الديناصورات غير الطيريّة بغض النظر عن أحجامها وأنظمتها الغذائية وترتيبها في الشبكة الغذائية. بعد 150 مليون عاماً من تغيير الأنظمة البيئية للأرض والتفرع لعدد غير مسبوق من الأنواع العظائية، ستقترب السحالي الرهيبة من فنائها التام.

ما قبل الكارثة
بإذن من شركة سانت مارتن للنشر

مصائب الديناصورات عند غيرها من الكائنات فوائد

نحن نعلم أن الطيور ستنجو بل وتزدهر في أعقاب الكارثة التي ستقع. سيحمل سرب صغير من الأنواع الحيوانية الطيرية مورثات هذه الأسرة ليبدأ فصلاً جديداً من قصة الديناصورات التي ستستمر عشرات الملايين من السنين حتى عصرنا الحديث. ستختفي ديناصوراتنا المفضلة بكل عظمتها وسماتها المميزة وعلى اختلاف أشكالها عن الوجود في طرفة عين، تاركة وراءها قطعاً من الجلد والريش والعظام التي سيتم اكتشافها بعد عصور لاحقة كأدلة وحيدة تعلمنا بأن مثل هذه الزواحف الرائعة كانت موجودة يوماً ما. ستصبح الديناصورات المفضلة لدينا نتيجة لحفظها الدقيق الذي كان احتمال حدوثه منخفضاً للغاية مخلوقات تتحدى الزمن، إذ إن بقاياها لا تزال موجودة ولكنها مجردة من حيويتها وتوجد في الماضي والحاضر بنفس الوقت.

لم تكن الديناصورات غير الطيرية الكائنات الوحيدة التي انقرض الكثير منها، إذ ستنقرض أيضاً التيراصورات الكبيرة ذات الأجنحة التي تشبه أجنحة الخفافيش والتي كان يصل حجم بعض منها إلى حجم الزرافة. ستنقرض أيضاً تيروصورات “الكويتزاكوتلس” الطائرة التي كان يتجاوز عرض أجنحتها عرض أجنحة طائرات “سيسنا”، والتي كانت قادرة على الطيران حول العالم، مباشرة مع الديناصورات غير الطيرية. وكذلك هو الحال بالنسبة للديناصورات التي تعيش في البحار مثل “البليزوصورات” ذات الزعانف الأربعة والرقاب الطويلة و”الموزاصوريات” أبناء عمومة سحالي “تنانين كومودو” واللافقاريات مثل أبناء عمومة الحبار ذو القشور الأسطوانية والآمونيّات والمَحَار المسطحة التي تبني الشعاب والتي كانت أكبر من مقعد المرحاض. طال حدث الانقراض الكائنات الصغيرة وغير المثيرة للإعجاب أيضاً. ووقعت خسائر كبيرة حتى في عائلات العصر الطباشيري التي نجت. سيتم القضاء على كل الثدييات الجرابية الموجودة في أميركا الشمالية تقريباً، وستفنى الكثير من أنواع السحالي والأفاعي والطيور أيضاً. ستكون كائنات أنهار وبرك المياه العذبة من بين القلائل التي ستنجو. بينما ستكون التماسيح وبعض الأنواع الغريبة الشبيهة بالتماسيح التي تسمى “الشامبوصوصورات” والأسماك والسلاحف والبرمائيات أكثر قدرة على الصمود في مواجهة الكارثة الوشيكة، إذ أنها ستنجو بفعل معجزة.

نحن نعلم ما هو “سلاح القتل البيئي” الذي تسبب بحدث الانقراض في العصر الطباشيري. ضرب كويكب أو جسم شبيه من الصخور الفضائية يبلغ قطره نحو 11 كيلومتراً سطح الأرض، مخلّفاً حفرة يبلغ قطرها 80 كيلومتراً. اختفت معظم الأنواع التي كانت سائدة في العصر الطباشيري في أعقاب هذا الحدث. لا يمكنني التأكيد على عمق آثار هذا الحدث بما يكفي، إذ إن انقراض الديناصورات يمثّل غيضاً من فيض من ناحية الآثار البيئية. لم تنجُ أي بيئة من تأثير الحدث الكارثي الذي كان شديداً لدرجة أنه كاد يحول المحيطات مجدداً إلى حساء من الكائنات وحيدة الخلية كما كانت من قبل.

المصادفة التاريخية

لكن ليس السبب في عودتنا إلى موقع الكارثة ولهذه اللحظة الشائنة هو فهم سبب عدم وجود أحفاد “الأنكيلوصورات” في حديقة الحيوان اليوم فحسب، بل عدنا أيضاً لنفهم كيف وجدنا ولماذا. لم يكن ليبدأ عصر الثدييات، وهو علامة منقوشة على حجر حرفياً، لو لم يتح حدث الاصطدام الفرصة للثدييات بأن تتطور بعد أن كان ذلك مستحيلاً لمدة 100 مليون سنة بسبب هيمنة الديناصورات. تم تغيير تاريخ الحياة على الأرض بشكل غير قابل للعكس وفقاً لظاهرة بسيطة تسمى “المصادفة التاريخية”. لو لم يصطدم الكويكب بالأرض أو لو تأخر اصطدامه كثيراً، أو حتى إذا ضرب منطقة مختلفة من الأرض، فستتغيّر الأحداث التي وقعت خلال ملايين السنين التي أعقبت الاصطدام. ربما كانت الديناصورات غير الطيريّة ستستمر في الهيمنة على الكوكب. وربما كانت الجرابيات ستصبح الوحوش المهيمنة. ربما كانت لتتسبب كارثة أخرى مثل الانفجارات البركانية الضخمة في الهند القديمة والتي وقعت في نفس الوقت تقريباً في نوع مختلف من الإنقراضات. من المرجح أن عصر الزواحف كان سيستمر دون عوائق، ولكن دون نشوء أية أنواع تستطيع التفكير وإجراء العمليات الإدراكية بما يكفي للانخراط في مثل هذه التأملات عن الزمن ومروره. كان يوم انقراض الديناصورات حاسماً بالنسبة لها كما كان حاسماً بالنسبة لنا تماماً.