من العالم إلى السعودية: العلم سلاح البشر في مكافحة البعوض الناقل للأمراض

مكافحة البعوض في السعودية
Shutterstock.com/frank60
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

شُغف بالشعر والأدب والموسيقى؛ إلا أن أباه أراد له الطب، ونزولاً عند رغبة والده، التحق بكلية الطب، وسرعان ما شُغف بعلم الجراثيم. السير رونالد روس الإنجليزي المولود في الهند هو أول شخص  في العالم يثبت أن البعوض ينقل الطفيليات إلى البشر؛ وبالتالي يمرض الإنسان، وقد أثبت ذلك في مرض داء الفيل في عام 1878، وهو الرجل ذاته الذي أثبت دور بعوض الأنوفيليس في انتقال طفيليات الملاريا لدى البشر عام 1897، كرس نفسه للتحقيق في الملاريا، وكتب عن المرض كتاب «الوقاية من الملاريا» في عام 1911، ومع ذلك؛ لم ينسَ روس أبداً شغفه الأول، فكتب الشعر ولحن الموسيقى، وكتب عدداً من الروايات؛ أبرزها «طفل المحيط».

البعوض قاتلٌ متسلسل يجوب العالم 

«بالدموع والأنفس المثابرة/ أجد بذورك الماكرة/ أيها الموت؛ قاتل المليون» من قصيدة السير رونالد روس بعد جهوده في مكافحة الملاريا؛ وهو الإنجاز الذي كُلل بفوزه بجائزة نوبل، ويبدو أن روس أراد أن يخلد إنجازه الطبي بشغفه في الكتابة الأدبية، وحين أشار روس إلى الملاريا بأنها قتلت مليوناً، فهو يتحدث عن فترة زمنية قديمة، والأرقام الآن تخبرنا بها منظمة الصحة العالمية، تقول إن الملاريا؛ وهي عدوىً طفيلية تنقلها أنثى بعوض الأنوفيليس، تسببت في وقوع 219 مليون حالة في العالم منذ ظهورها الأول.

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية؛ تتسبب الأمراض المنقولة بواسطة النواقل؛ وهي كائنات حية تنقل العوامل الممرضة والطفيليات من كائن إلى آخر، في حصاد أرواح أكثر من 700 ألف شخص سنوياً على مستوى العالم، وتتسبب الملاريا وحدها في وفيات تزيد على 400 ألف حالة وفاة سنوياً، وتصيب حمى الضنك؛ وهي من أكثر حالات العدوى الفيروسية انتشاراً وتنقلها أنثى البعوض الزاعج، حيث يصاب بالمرض أكثر من 3.9 مليار شخص في ما يزيد على 129 بلداً، وتتسبب هذه البعوضة في وفاة 40 ألف حالة سنوياً؛ لكن مع كل هذه الأرقام تبقى هناك طرق للوقاية من العديد من الأمراض المنقولة بواسطة النواقل؛ من خلال اتخاذ تدابيرَ وقائية، وتعبئة طاقات المجتمعات المحلية.

خطة البعوض للفتك بالبشر

بعوض، ملاريا, لقاح الملاريا, اللقاحات
shutterstock.com/nechaevkon

يتربص البعوض بالبشر، وعبر الزفير الذي يخرج من الإنسان؛ والمحمل بثاني أكسيد الكربون، ورائحة الجسم، يتحرك البعوض باتجاه الضحية. لحسن الحظ، فإن أنثى البعوض فقط هي التي تمتلك أجزاء الفم اللازمة لامتصاص الدم، تقف أنثى البعوض بهدوء على جلد الإنسان ثم تطعن الجلد بأنبوبين؛ أحدهما لحقن إنزيم يثبط تخثر الدم، والآخر لامتصاص الدم من أجسادهم؛ لكن كيف  تنقل أنثى البعوض الطفيلي الممرض للإنسان؟

البعوض من أبرز الحشرات الناقلة للأمراض بين البشر، والأنثى هي التي تنقل الأمراض وليس الذكر وحين تلدغ البعوضة الحاملة للفيروسات، أو الطفيليات المسببة للأمراض، إنساناً ما، فإنها تنقلها لداخل جسمه عن طريق حقن اللعاب المحتوي على الجرثومة بجلد الشخص، ومن أخطر الأمراض التي ينقلها البعوض بجانب الملاريا: حمى الضنك، والحمى الصفراء، ومرض شيكونغونيا، وداء الفيل، وفيروس زيكا، وحمى غرب النيل، ويمكن منع انتقال الأمراض لشخص آخر بمكافحة البعوض، وعزل المصابين بالمرض عن الأصحاء، أو إعطاء اللقاحات المضادة للأشخاص الأصحاء عند وجود احتمال لتعرضهم للعدوى.

إيقاف البعوض ومكافحته ليس مهمةً سهلةً أبداً، إلا أمه حتمي لصحة الإنسان والمجتمعات، وأقرت الجمعية العمومية لمنظمة الصحة العالمية في عام 2017، «الاستجابة العالمية الخاصة بمكافحة النواقل للفترة 2017-2030»؛ التي تتضمن إرشادات استراتيجيةً موجهةً إلى البلدان والشركاء الإنمائيين بشأن تعجيل وتيرة تعزيز مكافحة النواقل بوصفها نهجاً جوهرياً للوقاية من الأمراض والاستجابةللحشرات الناقلة للأمراض . 

مكافحة الدول العربية للبعوض

طب النانو في المنطقة العربية
Shutterstock.com/ixpert

رحلة طويلة خاضتها الدول العربية في مكافحة البعوض الناقل للأمراض؛ بدأت منذ أن اكتشف الطبيب الفرنسي ألفونس لافيران، الطفيلي المسبب للملاريا في المستشفى العسكري في الجزائر عام 1880م، ومروراً برحلة رونالد روس إلى الإسماعيلية في مصر ضمن رحلاته الاستكشافية العديدة؛ التي قام بها للتحقيق في إجراءات مكافحة الملاريا وتطوير هذه الإجراءات  عام 1902، وانتهاءً بالاستراتيجيات الواعدة التي تضعها حكومات الدول العربية لمكافحة البعوض الناقل للأمراض.

بشكل خاص؛ ركزت العديد من الدراسات العالمية على تحديد التوزيع البيئي للبعوض وذلك في شبه الجزيرة العربية؛ والتي تصل مساحتها إلى حوالي 3 ملايين كيلومتر مربع، ويتأثر توزيع ووفرة أنواع البعوض بتوافر العائل والأنشطة البشرية، والتغيرات في الغطاء الأرضي، والظروف المناخية؛ مثل درجة الحرارة وهطول الأمطار؛ حيث تؤثر هذه الظروف بشكل كبير على قدرة البعوض المُسبب للأمراض على نقل العوامل الممرضة، ويؤدي فهم هذه العوامل إلى السيطرة على المرض.

تاريخياً؛ تم جمع عينات البعوض في مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية، خلال الدراسات البيئية للتعرف عليها، وقبل عام 1956، لم يكن معروفاً سوى القليل عن البعوض الناقل للأمراض في شبه الجزيرة العربية، مع عدم وجود أي شيء معروف تقريباً عن البعوض في المناطق الوسطى والشمالية من شبه الجزيرة العربية. توجد سجلات أنواع البعوض؛ التي تم جمعها في المملكة العربية السعودية بشكل أساسي، في أوراق منشورة قبل نهاية القرن الماضي، وتم تسجيل أنواع إضافية في المنشورات الحديثة، وكان الغرض من هذا العمل هو إنتاج قائمة محدثة بأنواع البعوض في المملكة العربية السعودية، لمكافحة البعوض والوقاية من الأمراض التي تنقلها هذه الحشرة.

جهود المملكة في مواجهة النواقل

Shutterstock.com/Jarun Ontakrai

أتاح التنوع البيئي للحشرات والطفيليات في المملكة العربية السعودية فرصاً متعددةً لتطور الاختلاف في كل من البعوض ومسببات الأمراض؛ حيث سجلت المملكة أول حالة إصابة بحمى الضنك في عام 1994، وتم تسجيل 6000 حالة إصابة في عام 2015، ومن جهة أخرى، فإن الملاريا أيضاً تُعتبر من المشكلات الرئيسية – خاصةً في منطقة جازان؛ حيث تم تسجيل أكثر من 5000 حالة محلية بين عاميّ 2000 و2014.

على الرغم من الجهود المبذولة للقضاء على الأمراض المنقولة بالنواقل في المملكة؛ إلا أن تكرار ظهور هذه الأوبئة قد يؤدي إلى تفشّي هذه الأمراض، ولذلك فإن هناك حاجةً ملحّةً للتنسيق بين الجهات ذات العلاقة، لوضع استراتيجيات جديدة تساعد في السيطرة على تفشي هذه الأمراض، للحد من احتمال تفشّي هذه الأوبئة في المستقبل، ومن ضمن هذه الجهود المبذولة والواعدة؛ تجربة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية.

بدأت تجربة المدينة في مكافحة البعوض بتوقيع اتفاقية بحث علمي مع منظمة الكومنولث للبحوث العلمي والصناعية «CSIRO» بدولة أستراليا، للتعاون التقني في مجال المكافحة الحيوية للبعوض الناقل للفيروسات المسببة للأمراض، ويهدف المشروع بشكل أساسي إلى وضع أسس لاستراتيجيات المكافحة الفعالة لحمى الضنك والملاريا في المملكة العربية السعودية؛ من خلال بناء القدرات المحلية ونقل التقنيات الحديثة والتعاون العلمي والتقني مع الجهات ذات العلاقة في المملكة؛ وشمل هذا التعاون في مرحلته الأولى تطبيق تقنيات المكافحة الحيوية باستخدام بكتيريا ولباكيا «Wolbachia»، للحد من أعداد البعوض الناقل للفيروس المسبب لحمى الضنك بمدينة جدة؛ حيث نجحت هذه التقنية في عدد من الدول التي تعاني من هذه المشكلة؛ مثل سنغافورة، وماليزيا، وأستراليا، وإندونيسيا.

العلم سلاحنا ضد البعوض

بعوضة ممتلئة بالدم.

التحديد الجغرافي الدقيق لمواقع انتشار نواقل حمى الضنك والملاريا في المملكة العربية السعودية، كانت الخطوة الأولى في مراحل مشروع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لمكافحة البعوض، ومن ثم جمع عينات بشكل مكثف من البعوض في المملكة، وذلك للقيام بالدراسات الوراثية والبيئية، ودراسة أنواع البعوض في المملكة، ثم دراسة التنوع الوراثي لتجمعات البعوض، واستخدام التحاليل الوراثية اللازمة لتحديد أنماط الحركة المحلية في مواقع تكاثر البعوض.

حين تملك المعلومات؛ يمكنك الآن أن تضع الحل. استطاعت المدينة تحديد التغيرات الوراثية في البعوض؛ المسؤولة عن مقاومة المبيدات الحشرية، ثم طورت استراتيجيات المكافحة الحيوية المعتمدة على بكتيريا ولباكيا؛ التي تشمل تأسيس مختبر متخصص لإكثار مستعمرات البعوض، وتطوير بعوض حامل لبكتيريا ولباكيا المتوفرة في بيئة المملكة.

حتى الآن؛ تمكنت المدينة من توقيع مذكرتيّ تفاهم مع كل من المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها «وقاية»، وأمانة محافظة جدة، وتم الانتهاء من تجهيز وتشغيل مختبر أبحاث المكافحة الحيوية للبعوض الناقل للأمراض المعدية، ويجري حالياً إكثار أنواع من البعوض لتطبيق تقنيات المكافحة الحيوية باستخدام بكتيريا ولباكيا، للحد من أعداد البعوض الناقل للفيروس المسبب لحمى الضنك بمدينة جدة.

جهود مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في مكافحة الأمراض التي ينقلها البعوض، وغيرها من المؤسسات الوطنية؛ سواءً في السعودية أو في المؤسسات العلمية الأخرى في الدول العربية، هو جزء من الجهود العالمية؛ والتي تكتمل بتكاتف المؤسسات والأجهزة والحكومات المعنية لتقليص وقوع الأمراض، وتقليص عبء الأمراض المنقولة بالبعوض في العالم.