هل دجّن البشر المواشي عمداً؟

تدجين البشر للمواشي
حقوق الصورة: تافي فوتو/ ديبوزيت فوتوز.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يمثّل وجود كل حيوان مدجّن لغزاً بحد ذاته، ففي وقت ما في الماضي البعيد، بدأ حيوان ما، ربما كان ذئباً أو ثوراً برياً أو دجاج الأدغال أو خنزيراً، رحلة انتهت بتشكيل علاقة اعتمادية على البشر، أو حتى علاقة ثقة.

في”آشكلو هوك”، وهي بلدة من العصر الحجري في مرتفعات تقع وسط تركيا، قام فريق من علماء الآثار، والذين نشروا نتائجهم في دورية “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم” في 25 يناير/كانون الثاني 2021، بكشف أسرار هذه الرحلة بالنسبة للأغنام والماعز، وهي بعض أقدم المواشي التي تمت تربيتها. تمثّل القرية مستوطنة قديمة، وتحتوي على عظام وفضلات تغطّي فترة 1000 سنة، ما يسمح لعلماء الآثار بإنشاء تسلسل زمني واضح لتدجين الأغنام.

تقول “ماري ستاينر”، عالمة آثار الحيوان في جامعة أريزونا، والمؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة: “لقد قمنا بحل اللغز”، وتضيف: “وأصبحنا قادرين على رؤية الصورة العامة”.

تسلسل زمني واضح لتدجين المواشي

انتقل البشر لأول مرة إلى القرية منذ 10,400 عام، وأقاموا منازل موسمية على ضفاف أحد الأنهار. وفقاً لستاينر، بدأ البشر من تركيا حتى سوريا والعراق وإيران بتجربة تخزين الطعام في هذه الفترة، وبدأ ذلك بعد انحسار الأنهار الجليدية مباشرة. مارس سكان قرية آشكلو هوك البستنة، وزرعوا بعض أنواع القمح، على الرغم من أنهم كانوا يجمعون النباتات في الغالب. حصل هؤلاء على معظم مخزونهم من اللحوم من الأغنام والماعز في التلال المحيطة. امتلكت هذه الحيوانات ذات القرون أرجلاً طويلة، على عكس أبناء عمومتها التي يمكنك رؤيتها في المزارع المعاصرة.

تدجين المواشي
خروف مدجّن معاصر. الصورة: حقوق الصورة: لايف أون وايت/ديبوزت فوتوز.

نشأت العلاقة مع تلك الحيوانات ابتداءً من الصيد. في البداية، قام سكان آشكلو هوك بتربية الماعز والأغنام البرية الصغيرة في حظائر صغيرة جانب منازلهم، حيث تركت الحيوانات التي تم أسرها آثاراً من الفضلات. قام السكان بتربية الحيوانات لبضعة أشهر فقط، وتعود معظم العظام من هذه الفترة لحيوانات مراهقة قُتلت أثناء فترة الانتقال إلى مرحلة البلوغ.

لماذا فضل البشر تربية الحيوانات الصغيرة؟

اللغز هو: ما سبب تفضيل البشر تربية الحيوانات الصغيرة؟ تقول ستاينر: “لا يمكننا أن نتوقع أن العملية كانت هادفة”، وتضيف “يفوق ذلك أي خبرة كان يمتلكها البشر في تلك المرحلة”.

تقول ستاينر: “لا يتعلق الأمر بتحويل هذه الحيوانات إلى حيوانات مدجّنة وسهلة الانقياد”، وتضيف: “يتعلق الأمر بتخزين الطعام، على الأرجح كمية تكفي للشتاء المقبل”. من المحتمل أنه كان لدى سكان هذه القرية دوافع روحية للحفاظ على الحيوانات أيضاً. في أماكن أخرى من المنطقة، تم تقطيع جثث الخنازير والماعز والأغنام إلى قطع ضخمة لشويها أو تدخينها. هذه ممارسة تشترك في بعض أوجه التشابه مع طقوس التضحية أو الاحتفالات الأخرى. قد يكون الاحتفاظ ببعض الحيوانات الصغيرة وسيلة لضمان توفّر لحوم في الولائم.

بعد 400 عام، وبحلول عام 8000 قبل الميلاد تقريبا، عاش سكان القرية فيها بشكل دائم، وبدؤوا في تربية قطعان أكبر، وأصبحت آثار الفضلات أكواماً كبيرة. بدأ عدد قليل من هذه الحيوانات في التكاثر، كما تُظهر أعداد متزايدة من الهياكل العظمية للأغنام والماعز التي أُجهضت في المستوطنة.

في الطريق إلى اكتساب مهارة تربية الماشية

هذه الهياكل العظمية السليمة تدل أيضاً على أن البشر أصبحوا أمهر في تربية الماشية. توصلت أبحاث أخرى إلى أن هذه الحيوانات الأسيرة عانت من مشاكل في المفاصل، ويشير المعدل المرتفع لحالات الإجهاض إلى أن الماعز والأغنام لم تحصل على الطعام الذي تحتاجه. تقول ستاينر: “إن الحبس أثّر بشكل كبير على هذه الحيوانات”، وتضيف: “ارتكب البشر الكثير من الأخطاء”.

ولكن على مدى 1000 عام، يبدو أن القرويين اكتشفوا المهارات التي يحتاجونها لإبقاء الحيوانات على قيد الحياة، وحتى إكثارها. يترك الطعام من مصادر مختلفة، مثل المراعي الجبلية أو حدائق القرى، بصمات مميزة في عظام الماشية، وكذلك داخل عظام البشر الذين يأكلونها. بناءً على هذه الآثار، كان البشر يحصلون على كل كمية اللحوم التي كانوا يتناولونها تقريباً من الماشية الداجنة مع اقتراب نهاية استيطان تلك المنطقة، باستثناء الاحتفالات الدينية، إذ يبدو أن الماشية البرية قد احتلت الصدارة في هذه المناسبات.

في الوقت نفسه، أعطى القرويون الأغنام والماعز حرية أكبر، إذ سُمح لها بالرعي في الغابات والأراضي العشبية، حيث كانت تأكل النباتات البرية، بدلاً من حبسها بالقرب من القرية. يشير هذا إلى أن الحيوانات بدأت تتصرف وكأنها مروّضة. في النهاية، يجب عليك أن تثق بأن الحيوان لن يهرب حتى تسمح له بالخروج إلى المرعى. لكن حتى هذه الحيوانات لم تكن تشبه نظائرها التي نعرفها اليوم: كانت الأغنام لا تزال طويلة الأرجل مثل أسلافها البرية، ولا يوجد دليل على أنه تمت تربيتها من أجل صوفها.

لكن بحلول نهاية فترة استيطان القرية، يبدو أن كلا من البشر والحيوانات بدؤوا يعتمدون على بعضهم بعضاً.