تجربة شخصية تغني علم الجيولوجيا: تعرف إلى الجيولوجية التي رسمت خرائط لأعمق نقطة على سطح الأرض

تجربة شخصية تغني علم الجيولوجيا: تعرف على الجيولوجي الذي يرسم خرائط لأعمق نقطة على سطح الأرض
عالمة الجيولوجيا البحرية وكبيرة العلماء في شركة إيزري، داون رايت، وهي تستقل مركبة الغوص لتبدأ مهمة إلى الأعماق. داون رايت
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما هبطت داون رايت إلى قاع العالم في حجرة يمكنها مقاومة ضغوط هائلة، ذكّرتها هاوية المحيط الحالكة السواد بظلام الفضاء العظيم. عميقاً وسط المحيط الهادئ، غاصت رايت إلى بقعةٍ لم يجرؤ إلا القليل من البشر على التفكير في الوصول إليها. كانت مهمتها رسم خريطة لجزء من خندق ماريانا الغامض.

تقول عالمة جيولوجيا المحيطات وكبيرة العلماء في شركة “إيزري” (Esri)، وهي شركة برمجيات لرسم الخرائط ومقرها ريدلاندز في كاليفورنيا، داون رايت: «الظروف في هذه الأماكن قاسية جداً، وهي غير مناسبة ليعيش البشر فيها مطلقاً. ولكن لدينا التكنولوجيا التي نحتاجها لاستكشافها».

اقرأ أيضاً: علم الجيولوجيا في الحضارة الإسلامية

في يوليو/تموز، صنعت رايت التاريخ عندما أصبحت أول امرأة من ذوات البشرة الداكنة تنزل إلى عمق أكثر من 10660 متراً في منطقة “تشالنجر ديب”، وهي منطقة من خندق ماريانا في غرب المحيط الهادئ وأعمق نقطة معروفة على كوكب الأرض. لقد قضى علماء البحار، مثل رايت، عقوداً وهم يحاولون رسم أعماقها المظلمة والغريبة بدرجات متفاوتة من النجاح. ومع ذلك، فإن السعي لقهر أعماق المحيطات يمكن أن يكشف عن أسرار تتعلق بصحة كوكبنا، ويمكن أن يلقي الضوء على أسرار العوالم الأخرى، لذلك قررت رايت المغامرة في عالم المحيط المجهول. سيساهم كل اكتشاف جديد يتم العثور عليه خلال مهمة الوصول إلى تشالنجر ديب في مشروع “سيباد 2030” (Seabed 2030)، وهو مبادرة للأمم المتحدة تهدف إلى إنتاج خريطة متاحة للجمهور لقاع المحيطات في العالم بالكامل بحلول عام 2030.

تقول رايت: «هذه المهمة مثل طابع بريدي أو جزء من اللغز، ولا يمكننا حل اللغز إلا إذا عثرنا على كل القطع ووضعها في مكانها». 

كانت سفينة “إتش إم إس تشالنجر”، وهي سفينة بخارية تابعة للبحرية الملكية البريطانية، أول من اكتشف منطقة تشالنجر ديب عام 1875، والتي تقع في الطرف الجنوبي من خندق ماريانا. يعتبر الشكل المنحني لوادي المحيط هذا أعجوبة هيكلية؛ إذ يقع الخندق بأكمله في مكان تنغرز وتنثني فيه صفيحة المحيط الهادئ التكتونية وتغرق تحت الصفيحة الفلبينية. تم تركيز نطاق المهمة الأخيرة على منطقة غير مستكشفة نسبياً في تشالنجر ديب تُدعى “وسترن بول”، حيث تمت دراسة جيولوجيتها، والتي نادراً ما اُستكشفت مقارنة بالمناطق الأخرى من الخندق، وذلك بهدف تحديد كيف تختلف بنيتها عن بقية المشهد البحري.

رحلة في الظلام
تقع منطقة تشالنجر ديب على الطرف الجنوبي من خندق ماريانا. جيسي ألين/ مركز جامعة نيو هامبشاير لرسم الخرائط الساحلية والمحيطات/الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي

رحلة في الظلام

قام فيكتور فيسكوفو، القائد السابق للبحرية الأمريكية ومؤسس شركة “كالادان أوشينيك” للتكنولوجيا الخاصة لاستكشاف المحيطات، بتنظيم الرحلة وقيادتها. صعدت رايت وفيسكوفو إلى مركبة الغطس العميق “ليميتنج فاكتور“، وهي غواصة تجارية ذات غلاف مدمج من التيتانيوم، كبيرة بما فيه الكفاية لاستيعاب شخصين بالغين بشكلٍ مريح.

اقرأ أيضاً: علماء جيولوجيون يبتكرون طريقة فريدة للتنبؤ بموعد انفجار البراكين

تقول رايت إن الضغط في قاع المحيط يبلغ نحو 16 ألف رطل لكل بوصة مربعة، أي ما يعادل 25 طائرة جامبو تحلق بحمولة كاملة تقريباً. عادة ما تنزل الغواصات النموذجية ببطء شديد للوصول إلى هدفها، ولكن نظراً لأنها ستستغرق بذلك وقتاً طويلاً للوصول إلى وجهتها تحت الماء، نزلت ليميتنج فاكتور بسرعة أكثر بعض الشيء تراوحت بين ميل إلى 3 أميال بحرية في الساعة، أي ما يعادل هبوط مصعد لمبنى سكني بسرعة تتراوح بين 30 إلى 90 متراً في الدقيقة. (بعبارة أخرى، إنها رحلة سلسلة جداً). تعمل المضخات في جذع الغواصة بضخ الماء إلى حجرة فارغة فوق فتحة التيتانيوم، وبينما يدفع الماء الهواء باستمرار إلى الخارج، تنزل الغواصة في الظلام. لكنه لم يكن هبوطاً غير متحكم به؛ تسمح المحركات الدافعة الموجودة على كل جانب من الغواصة لقائدها بالتحرك في أي اتجاه ضروري لاستكشاف قاع البحر.

تجربة شخصية تغني علم الجيولوجيا: تعرف على الجيولوجي الذي يرسم خرائط لأعمق نقطة على سطح الأرض
منظر أمامي لمركبة الغوص العميق التي تتسع لشخصين، ليميتنج فاكتور (تُعرف أيضاً باسم تريتون 36000/2). يمكن لها الغوص لمسافة 10660 متراً وهي تحمل شخصين. كالادان أوشينيك، إيوس إكسبيديشنز

 بعد وصولها للقاع، استخدمت الغواصة السونار لالتقاط صور طبوغرافية باللون الرمادي للمنطقة. لا تعمل أجهزة السونار العادية بشكل جيد على أعماق تتجاوز 6.5 كيلومتر، حيث تُعتبر الطبقة السطحية من المحيط ممتدة حتى عمق 100 متر. لكن رايت، والتي كانت مسؤولة عن تشغيل الأداة باعتبارها أخصائية المهمة، تقول إن نظام سونار المسح الجانبي الذي استخدموه مصمم خصيصاً لغواصتهم. مقارنة بالسونار العادي، يستخدم سونار المسح الجانبي حزمتين من الموجات الصوتية لإنشاء صورة عالية الدقة لمحيطه، على عكس حزمة الصوت المخروطية المفردة التي تستخدمها أجهزة السونار النموذجية. في وقت سابق من هذا العام، تم استخدام نفس النظام لاكتشاف حطام مدمرة يو إس إس صمويل بي. روبرتس الغارقة، وهو أعمق حطام سفينة تم العثور عليه وتحديد مكانه بشكلٍ صحيح على الإطلاق. كانت مهمة رايت الاستكشافية هي الرحلة الأولى التي تستعمل هذا النظام عند أعمق نقطة وصل إليها البشر.

اقرأ أيضاً: الدفع الكهربائي يمنح هذه الغواصة التخيلية قدرة عالية على التخفّي

في الأسفل في منطقة ويسترن بول، أمضت المركبة، جنباً إلى جنب مع مركبة هبوط صغيرة، ساعات في تصوير فيديو للكهف وجمع عينات المياه، وحتى رصد الأحياء المحلية مثل قنديل البحر والقشريات الشبيهة بالجمبري (الأمفيبودس)، بالإضافة إلى مستعمرات الحيوانات الشبيهة بالنباتات (الهيدرونيات). خلال هذا المسح الدقيق، استطاعت رايت إنشاء خرائط كونتورية مفصلة لقاع المحيط للمنطقة من شأنها مساعدة العلماء في النهاية على فهم صحة كوكبنا.

رحلة في الظلام
اُكتشفت اثنتان من الشقائق الأسطوانية من جنس (Galatheanthemum) تنموان من تكوين صخري بازلتي في تشالنجر ديب. كالادان أوشينيك

أبعد من البحار والسماء

في الوقت الحاضر، تمت دراسة أقل من 25% من المحيط وفق المعايير الحديثة، أي باستخدام أحدث تقنيات مسح المحيطات. يمكن أن تساعد مثل هذه الخريطة الواضحة والغنية بالبيانات العلماء على معرفة المزيد حول كيفية تأثير تغير المناخ على محيطات الأرض. تقول رايت: «تخفف المحيطات من أحداث الطقس المتطرفة في جميع أنحاء العالم».

تمتص المحيطات نحو 25% من ثاني أوكسيد الكربون في العالم، ولولا هذه الأحواض الأساسية للكربون لكان الاحترار العالمي أسوأ بكثير حسب علماء المناخ. لذلك تُعتبر صحة المحيطات، خصوصاً في المناطق النائية، مؤشراً مهماً على الأضرار العالمية التي لا يمكن إصلاحها، مثل التغير المناخي؟

تقول رايت: «كلما زادت معرفتنا بهذه الأماكن العميقة، زادت معرفتنا بتفاصيل كيفية حدوث هذه العمليات بالفعل».  

أبعد من البحار والسماء
رايت في 12 يوليو/تموز عام 2022، يوم انطلاق المهمة. فيرولا ميديا

من السهل أن تعرف من خلال الصور الفضائية أن كوكب الأرض هو كوكب مائي في الأساس. لذلك تساعد البيانات المأخوذة من أعماق البحار العلماء على دراسة المحيطات والبيئات الأخرى الشبيهة بالأرض على الكواكب القريبة. تقول عالمة المحيطات في معهد سكريبس لعلوم المحيطات في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ليا سيجلمان: «إن استخدام قوانين المحيط لدراسة فيزياء العوالم الأخرى يوفر منظوراً فريداً لفهم مكاننا في الكون». على سبيل المثال، اكتشفت سيجلمان مؤخراً، مستخدمةً الصور التي التقطتها مهمة جونو التابعة لوكالة ناسا، كيف أن الأعاصير القطبية الغريبة في كوكب المشتري تتشابه الأعاصير على الأرض.

تقول سيجلمان: «يمكنك الإجابة عن الكثير من الأسئلة حول كوكبنا من خلال المقارنة بين جسمين جيوفيزيائيين. في الواقع، أجد عالمية الأشياء شيئاً مفيداً ورائعاً جداً». مع استمرار تطور تقنيات الفضاء والمحيطات في المستقبل، تأمل سيجلمان أن تتاح لها يوماً ما فرصة لاستخدام معرفتها في دراسة ومقارنة موائل المحيط للأقمار الجليدية البعيدة، مثل قمري أوروبا أو كاليستو. قد يساعد اكتشاف صلاتٍ مع المحيطات البعيدة في نظامنا الشمسي والمجرات الأخرى الباحثين على فهم تعقيدات كوننا بشكل أفضل. تقول سيجلمان: «من الرائع أن تكون عالم محيطات، لأنه من المحتمل أن تتمكن قريباً، كما نأمل، من دراسة المحيطات على الكواكب أو الأقمار الأخرى».

بالعودة إلى كوكب الأرض، يبقى المحيط الشاسع أحد أهم الموائل التي يجب استكشافها. تأمل رايت أن تحفّز رحلتها إلى أعماق المحيط الآخرين على اتباع خطاها والتوسع أكثر أيضاً. تقول أخيراً: «يمكنهم اعتباري الشخص الذي مهّد الطريق أمامهم».