كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟

كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟
صياد يرمي مرساة المركب في أول محطةٍ في يوم صيدٍ طويل. مصدر الصورة: توم فولكس.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يمكن أن يبدأ يوم العمل قبل ساعاتٍ من طلوع الفجر في مدينة غوايماس الساحلية في المكسيك، حيث تنطلق مجموعاتٌ من الصيادين المحليين بقواربهم الخشبية البسيطة من الشاطئ الصخري إلى المياه التي ستبدو زرقاء مع شروق الشمس. يبلغ طول قواربهم نحو ستة أمتارٍ وتحتوي على ثلاثة مقاعد على طول القارب بالإضافة إلى محرّك خارجي في نهايته، ومن هذه القوارب، يلقي صيادو الجمعية التعاونية للإنتاج السمكي “سوسيداد” الطعوم على الخطاطيف المثبتة على حبلٍ طويل في المياه، ثم يسحبون طرف الحبل عندما تعلق الأسماك بالطعم بأيديهم أو بواسطة بكرة. يمكن لكل قاربٍ اصطياد ما يصل إلى 220 رطاًل من الأسماك قبل أن يعود ويرسو في الميناء بعد الظهر.

كان سيلسو جراجيدا، رائد الصيد الأسطوري في غوايماس والجد الأكبر لرئيس الجمعية الحالي ” أندريس جراجيدا كورونادو”، يصيد بنفس الطريقة قبل نحو 75 عاماً. يقول كورنادو: «كان يستخدم نفس الأدوات التي نستخدمها الآن، حبلٌ وخطاطيف موزعة على طوله”. وقد كُرّم سيلسو ببناء تمثالٍ له وسط المدينة. تُعتبر المدينة اليوم أحد مجتمعات الصيد الكثيرة المنتشرة في خليج كاليفورنيا ومن أعلاها إنتاجاً للمأكولات البحرية. يفصل خليج كاليفورنيا شبه جزيرة باجا عن البرّ الرئيسي للمكسيك، حيث ينقل آلاف العمال هناك الأسماك من المحيط إلى المدن.

صناعة كان نصيبها الإجحاف دوماً

كان سيلسو من الرجال القلائل الذين كانوا يبيعون ما يصيدونه إلى المستهلكين مباشرةً على أرصفة الميناء في ذلك الوقت، ولكن اليوم، يجد الصيادون أنفسهم في أسفل هرم سلسلة التوريد العالمية الواسعة. يعمل 90% من أصل 35 مليون صيادٍ حول العالم على نطاقٍ صغير، وهناك الملايين منهم يعملون في المناطق الريفية النائية، ومع ذلك، ينتجون أكثر من نصف المصيد العالمي ويسهمون بنفس القدر من صادرات بلدانهم من الأسماك. يعيش العديد من هؤلاء الصيادين على قوت يومهم فقط، ويعتمدون على سلسلة من الوسطاء لتبريد 91 مليون طن من الأسماك القابلة للتلف وتوضيبها وتوزيعها على المطاعم والفنادق ومحلات السوبر ماركت فيما بعد.

في العديد من أرصفة بيع الأسماك النائية، يقوم مشترٍ واحد بتحديد السعر، أو يتواطأ التجار مع بعضهم بعضاً للحصول على السعر الذي يريدونه ومنع الصيادين من المطالبة بسعرٍ أعلى، وبسبب الفوضى بين مختلف الأطراف هناك، تصبح الفرصة أكبر لنشوء سوقٍ غير شرعية للأسماك. تُعتبر المصائد غير القانونية أو غير المبلغ عنها أو غير المنظمة (والتي يُشار إليها اختصاراً بـ IUU في عرف التجارة الدولية) مسؤولةً عن خُمس إنتاج الأسماك في العالم، وتضّخ ما قيمته 23 مليار دولار من المأكولات البحرية المسروقة فعلياً في الأسواق وفقاً لمنظمة «Global Fishing Watch» الدولية غير الربحية، والتي تعتمد على صور الأقمار الصناعية والصور الرادارية وصور الأشعة تحت الحمراء لمراقبة أنشطة الصيد غير المشروع. تُعرّض مثل هذه الخسائر الأمن الغذائي لأكثر من ثلاثة مليارات شخصٍ وسبل عيش صغار الصيادين للخطر.

كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟
أحد أسواق المأكولات البحرية في بلدة صغيرة خارج ميناء الصيد الرئيسي في جوايماس بالمكسيك. حقوق الصورة: توم فولكس.

للحفاظ على مدخولهم من الصيد وزيادته، يلجأ الكثير من الصيادين لاصطياد أكبر عدد من الأسماك. على سبيل المثال، غالبا ما يستخدم الصيادون في غوايماس الشباك الخيشومية التي تعتمد على التقاط الأسماك بسهولة بواسطة خياشيمها، ما يؤدّي إلى نتائج كارثية وانخفاض أعدادها بشدة. في تقييم أُجري عام 2016 لمخزون 121 مصيداً للأسماك في خليج كاليفورنيا، قدّر باحثون من العديد من المؤسسات البحثية، مثل المركز الوطني للتحليل البيئي، أن مخزون الأسماك قد انخفض بنسبة 69%، وأن 11% من المخزون يُستغل بشكلٍ مفرطٍ للغاية. في الحقيقة، تؤدي أساليب الصيد العشوائية هذه إلى خسائر إضافية بالنسبة للأنواع الأخرى، وخصوصاً الفاكويتا المهددة بالانقراض أصلاً، وهي أصغر خنازير البحر المعروفة في العالم. ربما لم يبقَ منها سوى عشرة أفراد.

اقرأ أيضاً: دراسة: أصوات الأسماك تخبرنا بحالة الشعاب المرجانية

كيف أثرت إجراءات الإغلاق على سوق المأكولات البحرية؟

ما ذكرناه آنفاً ينطبق على الأحوال العادية. ولكن، ومع تطبيق إجراءات الإغلاق في معظم أنحاء العالم نتيجة جائحة فيروس كورونا، حدثت كارثةٌ كبيرة في سوق المأكولات البحرية العالمية التي تبلغ قيمته 150 مليار دولار. لقد أدى إغلاق المطاعم، والتي كانت تستهلك نحو 70% من الإنتاج قبل الجائحة، إلى انخفاض الطلب بشدة على المأكولات البحرية الباهظة الثمن مثل الكركند وأذن البحر والحبّار، بالإضافة طبعاً إلى المأكولات البحرية العادية مثل الأسماك ذات الذيل الأصفر والهامور التي تُشتهر بها مدينة غوايماس.

ومنذ ذلك الحين، تراجعت تجارة الأسماك الطازجة- السلعة الغذائية الأكثر تداولًا في العالم- بين الدول. يقول بول دوريموس، نائب المدير المساعد للعمليات في إدارة الخدمة الوطنية لمصائد الأسماك البحرية، وهي الوكالة الأميركية المكلفة بمراقبة الموارد البحرية: «لقد تسببت جائحة كورونا بمشاكل كبيرة غير مسبوقة، لقد كانت شاملةً من حيث حجمها ونطاقها وأمدها، وتركت آثاراً كبيرة على سلاسل توريد المأكولات البحرية على مستوى العالم بطرقٍ لم نستطع تقييمها تماماً حتى الآن». وبلا شك، أدى هذا الانقطاع إلى تعقيد الجهود الرامية لتحقيق هدف التنمية المستدامة للأمم المتحدة والمتمثل في إنهاء الصيد الجائر والصيد غير القانوني والممارسات المدمرة بحلول عام 2020.

وعلى الرغم من كلّ هذه الفوضى، يرى كثيرون أن هناك فرصةً لإعادة تنظيم سوق المأكولات البحرية بطرقٍ تعزز اعتماد أساليب أكثر استدامة وخلق مستقبل أكثر عدالة للصيادين مثل أولئك في جمعية كورونادو. يمكن أن يبدأ ذلك بمساعدة صغار الصيادين على الاستفادة من إيصال أفضل سلعهم إلى سوق الطهاة المنزليين المتنامي وتجار التجزئة المهتمين بالبيئة. يجب أن يتسم العمل بالشفافية والأمانة بحيث يكون لدى المستهلك النهائي ومراقبي الصناعة القدرة على التحقق كيف ومن أين تأتي كلّ سمكةٍ من أسماك النهّاش أو السلمون أو الروبيان على سبيل المثال.

لقد بدأت المنظمات غير الربحية والوكالات الحكومية والتجمعات الصناعية خلال السنوات القليلة الماضية في تطوير مشاريع إعادة بناء المخازن السمكية المستنفدة، وذلك عن طريق إشراك السكان المحليين في إدارة المصائد غالباً. وبالإضافة إلى ذلك، هناك جهود جارية لاختبار واعتماد تقنيات التتبع مثل رقائق تحديد الهوية بموجات الراديو «RFID» ورموز الاستجابة السريعة أو ما يُعرف بالباركود «QR» وترميز البلوك تشين لتضمين بيانات أي سمكةٍ معينة من الخطاف إلى المستهلك النهائي.

لقد جذب عمل جمعية كورنادو الأخلاقي مؤسسة «سمارت فيش» الاجتماعية الكائنة في لاباز في المكسيك، والتي تُعنى بتشجيع الصيد الحرفي المستدام في المنطقة. يساعد فرع المنظمة غير الربحي العمال على التحول إلى الممارسات الصديقة للبيئة، بينما تبيع فروعها الربحية سلعهم مباشرة إلى المطاعم الراقية والجمهور.

عندما سُئل كورنادو عن كيف سيكون ردّ فعل أجداده لو قُدّر أن تُطبّق أساليب التتبع الجديدة في زمانهم، مثل رموز الباركود التي توضع على أسماك الذيل الأصفر أو النهّاش المتجه إلى كاليفورنيا، ابتسم ابتسامةً مكتومة، وقال: «هل أنت مجنون»، قالها مازحاً مقلّداً ردّ الفعل المًتخيل لجدّه سيلسو. كان كورونادو الخمسيني وذو الشعر الأسود أصغر أعضاء الجمعية التي كان معظمها من كبار السن. كان يعلم، مع قلة ممن يهتم من أفراد عائلته الشبان بالعمل في الصيد، أنه إذا لم يتغير الحال قريباً، فلن يتبقّى هناك سوى شبكاتٍ خيشومية فارغة ومخزونِ يتناقص بشكلٍ خطير يوماً بعد يوم.

كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟
رئيس جمعية الصيد التعاونية أندريس جراجيدا كورونادو. حقوق الصورة: توم فولكس.

قبل انضمام الجمعية إلى برنامج مؤسسة “سمارت فيش” التعاوني عام 2019، كان كورونادو يتعامل مع وسيطين على الأقل، أحدهما في مدينة تيخوانا والآخر في كاليفورنيا، لبيعهما ما تصطاده الجمعية. كان يعلم أن بضاعته ستتغير كثيراً قبل أن تصل إلى أرفف المتاجر أو أطباق الطعام، ولكن الهم الرئيسي للصياد يتمثل في بيع صيده في المقام الأول.

نظراً لعدم قدرة الصيادين على الاحتفاظ بصيدهم في الجليد إلى أجلٍ غير مُسمى، فإنهم يلجأون مجبرين إلى طرفٍ آخر لتخزينها وانتظار ظروف السوق المثالية لبيعها. ففي حين يستطيع الموزعون تخزين أسماك «الماهي ماهي» لأشهرٍ وحتى سنوات، يُضطر الصيادون مثل كورونادو لقبول سعرٍ منخفض كي يتخلّص بسرعة من هذه الأسماك السريعة التلف. حسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو“، فإن 27% من إنتاج الأسماك يضيع أو يتم التخلص منه قبل أن يصل إلى المستهلك. وتقول سيسيليا بلاسكو، المديرة التنفيذية لشركة سمارت فيش التي تتعاون مع خمس جمعيات للصيد في جميع أنحاء شبه جزيرة باجا في المكسيك: «يصطاد الصيادون المأكولات البحرية عالية الجودة، ولكن جودتها تنخفض أو تفسد بسبب سوء تداولها وتخزينها».

وتقدّر بلاسكو أن عدد الوسطاء الذين يتنقّل بينهم إنتاج الأسماك من غوايماس ضمن سلسلة التوريد التقليدية قد يصل إلى إثني عشر وسيطاً حتى تصل إلى المستهلك في النهاية. عادةً ما يبيع الصيادون إنتاجهم إلى رجل أعمالٍ محلي يقوم بدوره بشحنها إلى أقرب مدينة وبيعها لمجمّعٍ صغير؛ ومن هناك، يشتري تجار الأسواق الكبرى من مكسيكو سيتي أو غوادالاخارا الأنواع عالية القيمة، ويحدث ذلك كُلّه قبل أن تصل البضائع إلى تاجر التجزئة أو المُصدّر. يحصل المشترون في كلّ مرحلةٍ على نسبةٍ من الربح، بينما لا يحصل الصيادون الفعليون في غرب المكسيك عادة إلا على 18-20% من سعر المنتج النهائي.

تُضر الممارسات المشبوهة للسفن الكبيرة بالصيادين الصغار أكثر من غيرهم. من بين هذه الممارسات الشائعة؛ بقاء سفن الشحن المُبرّدة في المياه الدولية، ما يسمح لها بالالتفاف على القوانين إذا كانت، على سبيل المثال، تأخذ أجراً قانونياً أو غير قانوني من السفن الأصغر حجماً لقاء تخزين صيدها. (تشيع هذه الممارسة أكثر قبالة سواحل روسيا وغرب إفريقيا وفي جنوب المحيط الهندي والمحيط الهادئ الاستوائي). في الواقع، تُعتبر هذه الممارسة نوعاً من غسيل الأموال.

اقرأ أيضاً: كيف تسبب الأعاصير الخسائر لمصائد الأسماك؟

التلاعب بالسوق

ونظراً لأن جميع الأسماك تبدو متشابهة إلى حدّ ما بعد وصولها إلى أرفف المتاجر، فمن السهل إخفاء البضائع غير المشروعة. حتى المنتجات البحرية التي تحمل علامة “طبيعية”، لتمييزها عن منتجات المزارع، قد تكون مشبوهةً أيضاً. أظهر تقريرٌ صادر عن منظمة الحفظ «أوشن دي إن إيه» (Oceana DNA) غير الربحية عام 2019، وبعد فحص أكثر من 400 عينة من 250 متجراً من جميع أنحاء الولايات المتحدة، أن 20% من ملصقات المنتجات البحرية لم تكن مطابقة للمنتج من حيث الأصل ونوع المنتج. والأسوأ من ذلك، كشف تحقيق أجرته وكالة أسوشيتد برس عام 2015 أن بعض منتجات الأسماك على رفوف متاجر “وول مارت” و”كروجر” قد اصطيدت تحت ظروف العمل القسري الشائن.

كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟
أحد بلدات الصيد المحلية في سفح الجبال. حقوق الصورة: توم فولكس.

كما يقول توني لونج، الرئيس التنفيذي لمنظمة مراقبة الصيد الدولي: «أدت جائحة كورونا إلى تفاقم الأنشطة اللاشرعية. عادةً ما تفوّض الحكومات مراقبين مستقلين للتحقق من امتثال السفن والطواقم للوائح التي تحدد كمية وحجم وجنس وأنواع المأكولات البحرية. ولكن لتجنّب انتشار فيروس كورونا، أوقفت العديد من الجهات هذه الأنشطة الرقابية. في الواقع، بدون الرقابة على أنشطة الصيد في المياه الدولية، ستسهل أعمال الصيد غير المشروع كثيراً. ، ومن غير الواضح حتى الآن متى سيستأنف المراقبون مهامهم».

الضغط نحو اعتماد التكنولوجيات المساعدة

وسط كل هذا، يتزايد الضغط لاعتماد تقنيات التتبع. في الواقع، بدأ تجار التجزئة الكبار الذين يفضلون تجنّب المخاطر، مثل وول مارت وكروجر، في السنوات التي تلت الكشف عن المنتجات البحرية لديها والتي تمت تحت ظروف العمل القسري، في اعتماد مقاييس استدامة صارمة بشكل متزايد. تقول تيريزا إيش، كبيرة مسؤولي البرامج في مبادرة مؤسسة عائلة والتون البيئية: « يحاول بعض الموزعين الذين كانوا يبيعون المنتجات البحرية إلى المطاعم التحول إلى البيع بالتجزئة الآن. قد يخلق هذا التحول فرصةً كبيرةً للتغيير، ويزيد من جاذبية مشاريعٍ مثل “سمارت فيش” التي لا تهدف إلى تقصير سلسلة التوريد وحسب، بل لإثبات أن المستهلكين باتوا يهتمون أكثر ويفضلون منتجات الأسماك التي تحمل ملصقاً يشرح كيف وأين اصطيدت وكيف وصلت إليهم».

من جانبه، عزّز طهي المأكولات البحرية في المنازل الطلب على منتجات التجزئة خلال الجائحة. يقول مارتن إكسل، المدير الإداري لشركة “سيفود بيزنز فور أوشين ستيواردشيب”، وهي مجموعة تضم عشراً من أكبر شركات المأكولات البحرية في العالم فضلاً عن الأكاديميين، يقول: «لقد تجنب الطهاة الهواة طوال الوقت شراء الأسماك الطازجة لأنهم لا يعرفون كيفية تحضيرها. لقد كانت مهمةً شاقة بالفعل».

ولكن بزيادة الوقت المتاح للناس خلال الجائحة، أصبح المستهلكون أكثر ميلاً إلى المغامرة بتجربة خيارات طهي الطعام المختلفة في المنزل. على سبيل المثال، تمكنت مجموعة من الصيادين في ولاية ماين ممن تبّنوا أسلوب أطباق السوشي (أطباق المأكولات البحرية النيئة) من بيع منتجاتهم من أسماك البلوق والراهب في السوق المحلية بأسعارٍ مناسبة بدلاً من تصديرها. بينما نفدت شحنةٌ كاملة من أسماك الذئب (الشبيهة بسمك السلور) استوردتها شركة «نايس لاند سيفود»- وهي شركةٌ متخصصة في استيراد المأكولات البحرية من آيسلندا- من سوبرماركت “دنفر” خلال أربعة أيامٍ فقط. ووفقاً لتقرير موقع «سيفود سورس» المتخصص في صناعة صيد الأسماك، فقد ازدادت مبيعات الأسماك المجمدة بنسبةٍ تجاوزت 50% مع بداية تطبيق تدابير الإغلاق المرتبط بجائحة فيروس كورونا.

من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان محبو المأكولات البحرية قادرين على استيعاب قدرٍ كبير من الإمدادات التي كانت تذهب إلى المطاعم. تتوقع شركة «تشنجينج تيست» الاستشارية في مجال الطهي، أنه لن يُعاد افتتاح نحو ثلثي المطاعم التي تقدم أطباق المأكولات البحرية بعد الجائحة. ولكن، ومع ازدياد طلب محلات تجارة التجزئة والمستهلكين على الأسماك، وميلهم للتأكد من مصدرها، فإن كورونادو ومجموعته في وضعٍ جيد يسمح لهم بتلبية الطلب المتزايد وبأسعارٍ تفضيلية أيضاً.

كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟
صياد يسحب سمكة صخرية من المياه في ضوء القمر بالقرب. غوايماس، المكسيك. حقوق الصورة: توم فولكس.

يقوم خوسيه فرانسيسكو، العضو في جمعية غوايماس، على متن قاربه الأزرق والأبيض بروتينٍ جديد بعد أن يُفرغ صيده من أسماك الهامور والذيل الأصفر على سطح القارب. حيث يدخل سكيناً في جمجمة السمكة لتنظيفها، ثم يضعها في حمامٍ من الماء المُثلّج للحفاظ على مذاقها وقوامها. عندما يصل إلى الشاطئ، يقوم بتنظيف سفينته في الوقت الذي تبدأ فيه المعدات التي زودته بها شركة “سمارت فيش” بتقطيع الأسماك إلى شرائح وتجميدها. بالمقابل، يقوم الصيادون خارج الجمعية ممن يستخدمون الشباك الخيشومية بإفراغ الصيد في قاع القارب وتركه معرّضاً لأشعة الشمس إلى أن يصل إلى الشاطئ. قد يستغرق تحضير الأسماك بطريقة خوسيه وقتاً طويلاً وقد يكون العائد أقل حسب وصفه، ولكن الأمر يستحق ذلك؛ فالعمل مع “سمارت فيش” سيجلب له سعراً يعادل 50% من قيمة المنتج النهائي، أي ضعف ما كان يحصل عليه من قبل. 

أثار مفيدة للجائحة

عندما انتشرت جائحة كورونا، انخفض الطلب على الأسماك الطازجة من غوايماس، وكان الوسيط التجاري الوحيد المتبقي هو منظمة “سمارت فيش”. تقوم المنظمة بتوضيب سلع الجمعية ووضع علامة تتبع “QR” تحتوي على تفاصيل حول مكان وكيفية اصطياد السمكة وكيف وصلت إلى المستهلك. يبيع متجرٌ في مكسيكو سيتي المنتج المجمد والمغلف والمفرّغ من الهواء ويدير الصادرات إلى الولايات المتحدة التي تتجه إلى سان فرانسيسكو وبورتلاند بولاية أوريغون. وقد قفزت المبيعات بنسبة 30% بين مارس/آذار ومايو/أيار عام 2020.

لم يكن عمل منظمة “سمارت فيش” في غوايماس المثال الوحيد لتجاوز آثار الجائحة. لقد وجدت مجتمعاتٌ أخرى حبل نجاةٍ خلال الجائحة من خلال استخدام التكنولوجيا لتحل مكان سلاسل التوريد المُعطلة بفعل الجائحة. على سبيل المثال، ساعد تطبيق على الهواتف الذكية يُدعى “Abalobi” طورته جامعة كيب تاون، الصيادين في جنوب إفريقيا على بيع الكركند مباشرةً إلى المطاعم التي ظلت مفتوحة. يوفّر التطبيق أعلى سعرٍ من المطاعم للصيادين، وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الصيادين تسجيل كميات الأسماك التي يصطادونها، وبالتالي توفير البيانات التي تساعد في تحسين إدارة مصائد الأسماك. كما قامت منظمة «Future of Fish» غير الربحية، والتي تدعم صغار الصيادين، بمساعدة الصيادين في تشيلي على إنشاء أسواقٍ عبر الإنترنت لبيع أسماك “الهيك”، وقريباً سيتم اختبار العمل بتطبيق “Abalobi” هناك أيضاً.

ومع تزايد إمكانية الوصول إليها، من المؤكد أن التكنولوجيات الحديثة التي تُسلّط الضوء على مصدر المنتجات البحرية ستعود بالفائدة على المصائد ومدخول مختلف الأطراف. لنتأمل هنا على سبيل المثال إعلان تتبّع صيد التونة عام 2020 الهادف للحد من الصيد الجائر، حيث وقّع عليه عام 2017 كبار تجّار التجزئة والمسوقين والتجار والصيادون، وينص على وجوب إتاحة جميع الشركات لتتبّع منتجاتها بشكلٍ كامل بدءاً من مكان الصيد والتاريخ الذي تم فيه ذلك والامتثال للإجراءات التي تقرها الحكومة. وقد تضاعف سوق التونة القائمة على المصادر المعروفة والمستدامة منذ البدء بهذه الإجراءات، وانتعشت بالتالي مخازن التونة المستدامة من أدنى مستوىً لها عام 2014 من 14% إلى 28%.

يقول مارك زيمرينج، مدير برنامج مصائد الأسماك واسعة النطاق في منظمة الحفاظ على الطبيعة، والتي تساعد على إدارة أنواع الأسماك الجوالة في المحيطات عبر العالم: «إن إمكانية التتبع أمر بالغ الأهمية لقدرتنا على إدارة مخازن الأسماك، حيث يتعرض ثلثا المصائد العالمية للصيد الجائر».

توفر التقنيات الجديدة فرصاً لتجار التجزئة وهيئات الرقابة لمراقبة ما يحدث. وفي هذا الصدد، يطالب دعاة الحفاظ على البيئة بكاميرات مثبتة على السفن ومزودةٍ بالذكاء الاصطناعي بحيث يكون بمقدورها تمييز وزن وطول الأسماك، وذلك كبديل عن المراقبة البشرية الغائبة. في الوقت الحالي، يفرض الاتحاد الأوروبي استخدام كل من التقارير الإلكترونية الآلية وإتاحة التتبع بواسطة الأقمار الصناعية على السفن التي يزيد طولها عن 12 متراً حتى يتمكن المنظمون الحكوميون من مراقبة أعداد الأسماك بشكل أفضل.

كيف تقود التكنولوجيا استدامة الصيد البحري بعد الجائحة؟
توضع الأسماك في حمّام من الماء المُثلج. حقوق الصورة: توم فولكس.

خطوات نحو حلول مستدامة

في خليج المكسيك، تقوم شركة «ديل باسيفيكو» (Del Pacifico)، وهي تاجر جملة للجمبري وحاصلة على شهادة التجارة العادلة الدولية، بتزويد زوارق الصيد التابعة لها بجهاز تعقّب يعمل بالطاقة الشمسية من إنتاج شركةٍ تُدعى «بيلاجيك داتا سيستمز» (Pelagic Data Systems)، حيث يراقب هذا الجهاز تحركات المركب عبر الأقمار الصناعية. تتيح هذه التقنية لمن يرغبون بشراء الجمبري، على سبيل المثال، التحقق من الرمز الخاص بالجمبري للتأكد من أنه لم يُصطد من مياهٍ تتواجد فيها خنازير البحر المهددة بالانقراض. تعمل شركة ديل باسيفيكو مع 1500 متجراً منتشراً في أرجاء الولايات المتحدة بشكلٍ أساسي، وقد نمت تجارة التجزئة خلال الجائحة بشكلٍ كافٍ لتلبية 25% من حاجة المطاعم. يقول المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة، سيرجيو كاسترو: «ساعدتنا إمكانية التتبع في الحصول على المزيد من العملاء سواء العاديين أو العملاء المميزين الذين يطلبون منتجاتٍ عالية الجودة بغضّ النظر عن تكلفتها الباهظة».

يزداد عدد الشركات، مثل ديل باسيفيكو، التي تحرص على طمأنة المستهلكين بأنه يتم التعامل مع الأسماك بشكل صحيح بمجرد مغادرتها المياه. على سبيل المثال، تقوم شركة “نايس لاند سيف وودز” بوضع بطاقات استشعارٍ “RFID” في عبوات توضيب الأسماك لتتبّع درجات الحرارة أثناء نقل الأسماك. وفي نيوزيلندا، طور الصندوق العالمي للحياة البرية نظاماً قائماً على “البلوك تشين” لتضمين المعلومات حول سير انتقال أسماك التونة منذ اصطيادها على لصاقات المنتج ورموز الباركود الخاصة بها.

ومع ذلك، يمكن أن يكون تبني هذه التقنيات بطيئاً. قد يتردد بعض الصيادين في تبني أنظمة التعقب على سفنهم خشية انكشاف مواقع الصيد المفضلة لديهم والغنية بالأسماك لمنافسيهم على سبيل المثال. ومع ذلك، فقد يجد البعض الآخر فائدةً من استخدام التقنيات الحديثة. على سبيل المثال، يستخدم صيادو سمك “الماهي ماهي” والحبّار في البيرو تطبيق الهاتف الذكي الذي يدعمه الصندوق العالمي للطبيعة لإنشاء سجلات تاريخية لأنشطتهم الملتزمة، ما يسمح لهم بالمطالبة بنصيبهم العادل من الصيد إذا فرضت الحكومة نسباً محددة للصيد.

في النهاية ، يمكن للرقابة الرقمية كبح جماح الصيد الجائر في مختلف أنحاء العالم. قيمت دراسةٌ أُجريت عام 2019 ونُشرت في دورية “ Fish and Fisheries” مئة تجربةٍ للمراقبة الالكترونية و12 برنامجاً يتم العمل به حالياً، مثل البرامج المُتبعة في الاتحاد الأوروبي، وخلصت إلى أن تكلفة أجهزة المراقبة كانت مناسبة، ووفرت تغطيةً لعددٍ أكبر من السفن مما يمكن للمراقبين البشريين تغطيته، وأعطت بياناتٍ أكثر عن كمية الصيد ومواقع نشاطه.

 يمكن أن تفيد الجهود الرامية لمساعدة القائمين على سفن الصيد لاعتماد أساليب شفّافةٍ ومستدامة في تحقيق تعاونٍ مثمر ينجم عنه زيادة مخازن الأسماك في البحر وزيادة مدخول السكان المحليين، ناهيك عن توفير أفضل المأكولات البحرية على الموائد. يفخر كورونادو بحفاظه على الممارسات التراثية التي تستخدمها جمعيته منذ عقود، ويرى أن جائحة كورونا مثّلت فرصةً لتوسيع استخدام تقنية التتبع، وتوسيع أعمالهم أيضاً. يخشى جيل الصيادين الحالي في الجمعية أنه، وبدون تبني مثل هذه التغييرات، فقد لا يكون هناك جيلٌ قادم لمواصلة عملهم الذي توارثوه عن أجدادهم. يقول كورونادو: «علينا أن نثبت للناس أنه يمكننا أن نعيل أسرنا والعيش من خلال طرق الصيد التي نتبعها».