نولد بالموهبة لكن الإبداع يمكن «تنميته»

نولد بالموهبة لكن الإبداع يمكن «تنميته»
حقوق الصورة: shutterstock.com/ beanimages
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

مقال من «Aeon»


يقال مجازياً أن الإبداع هو الاستمتاع بالذكاء. هو قدرة الفرد على توليد الأفكار والحلول، أو الرؤى المُبتكرة بشكلٍ جذّاب وعملي في الوقت نفسه. من ناحية معرفيّة، فالأفكار المبتكرة المقنعة لا تنهار عند تحليلها منطقياً بشكلٍ ممنهج، وفي نفس الوقت، تنسج معاً مفاهيم لم تُربط ببعضها من قبل. 

قبل عقد من الزمن، اقترح فريق من علماء النفس من هولندا نموذج «المسلك الثنائي للإبداع»، مشيرين به إلى أن التفكير الإبداعي يظهر عندما ترتبط المرونة الفكرية بالاجتهاد الفكري. المرونة الفكرية تجعلنا قادرين على الانتقال في التفكير من مفهومٍ لآخر، وعلى التفكير بأكثر من شيء في الوقت نفسه، بينما يمكّننا الاجتهاد الفكري من الالتزام بمهمة فكرية صعبة بهدف الوصول لنتيجة معينة. كما هو الحال في الموسيقى التي يلتزم فيها العازفون بأدوارهم الفردية، والاستماع لبعضهم في نفس الوقت وإجراء تعديلات لإنتاج موسيقى منسجمة. الأمر كذلك بالنسبة للدماغ الإبداعي.

إن العازفين في هذه الأوركسترا العصبية هم ثلاث شبكات دماغية وظيفية. تتشكل هذه الشبكات عندما تتفعّل مناطق مختلفة (وليست متاخمة لبعضها بنيوياً) من الدماغ في نفس الوقت في كل مرة نعتزم فيها إنجاز مهام معينة. عندما يتعلق الأمر بالإبداع، فإن الشبكات الوظيفية التي تلعب الدور الأساسي هي الشبكة التنفيذية المركزية (سي إي إن)، والشبكة البارزة (إس إن)، وشبكة الوضع القياسي (دي إم إن). تبين الدراسات القائمة على تصوير الدماغ أن الشبكة التنفيذية المركزية ضرورية للتحكم اللحظي المرن. فمثلاً، تنشط المناطق الجانبية الجبهية والجدارية من الدماغ عندما يقوم الفرد بأداء عدة مهام معاً. بالحقيقة، وجدت دراسة أجراها علماء أعصاب من جامعة «فاندربيلت» في الولايات المتحدة، وجامعة «كوينزلاند» في أستراليا أن تعدد المهام الناجع لا يقابل قدرة الدماغ على معالجة مجموعات متعددة من المعلومات في نفس الوقت، وإنما هو قدرة الدماغ على معالجة المهام بسرعة كبيرة واحدة تلو الأخرى. وجد الباحثون أننا قادرون على التدرب على تسريع عملية معالجة كل مهمة وحدها، مما سيمكننا من تنفيذ عدة مهام معاً بشكل أكفأ.

تنشط القشرة الجانبية الجبهية أيضاً بشكل كبير عندما ينخرط المرء بالتفكير المتشعّب، وهو مقياس الإبداع بالنسبة للعلماء. في الحياة العملية، يمكننا أن نفكر بشكلٍ متشعب كل يوم، وأن نصل للنتائج باستخدام المعلومات المتاحة خلال القيام بمهام مثل قيادة السيارة وسط الزدحام، أو إنتاج تحف فنية من مواد غير تقليدية باستخدام المهملات.

أما الشبكة البارزة («إس إن» في القشرة الأمامية الحِزامية) ضرورية للحفاظ على استدامة المهام. هذه المنطقة من الدماغ تنخرط في عملية اتّخاذ القرار ومراجعة الذات. باختصار، هي تنخرط في أي عملية تتطلب الاجتهاد الفكري. وأخيراً، شبكة الوضع القياسي (دي إم إن) التي تقع مراكزها الرئيسية في القشرة الأمام جبهية الوسطى الأمامية والقشرة الخلفية الحزامية، هي الشبكة الوظيفية المسؤولة عن التفكير ذاتيّ المرجعيّة (أحلام اليقظة، والشرود الذهني، والمماطلة والتفكير في الماضي والمستقبل. نحن نقضي أغلب وقتنا في هذا التفكير، وفي الحقيقة، التفكير أو البقاء في الحاضر هو أمر صعب جداً. تنشط هذه الشبكة إذا كنا لا نركز على إنجاز أي مهمة، وعندما ننخرط في مهام تتطلب الانتباه إلى العالم الخارجي، فإن هناك نشاط فيها يتم كبحه حتى لا نتشتت بسبب الأفكار التي لا علاقة لها بالمهام.

مع ذلك، فإن هذه الأفكار المُشتتة والعوالم الخفيّة والتخيّلية البعيدة تحمل في طياتها الإبداع. نتمنى لو كنا قادرين على تجميع هذه الأفكار وتنظيمها في سياق يؤدي إلى تحقيق هدف معين، مثل وصفة طعام جديدة، أو قصيدة أو لوحة فنية أو ارتجال موسيقي. تشير دراسات حديثة إلى أن مراكز شبكة الوضع القياسي تتفعل بشكلٍ تلقائي مع مراكز الشبكة التنفيذية المركزية والشبكة البارزة، وتؤدي وظائفها بشكلٍ فعال خلال التفكير الإبداعي. هذا التناسق بين المراكز الرئيسية مذهل، ويبيّن الطبيعة الديناميكية للشبكات العصبية الدماغية. عادة، تفرض شبكتا الشبكة التنفيذية المركزية والبارزة سيطرتهما على شبكة الوضع القياسي وتكبحها، ولكن خلال لحظات الإبداع، فإن شبكة الوضع القياسي تسمح بتوليد الأفكار بشكلٍ عفوي، غالباً من مخزوننا من الذكريات طويلة الأمد، بينما تعمل الشبكة التنفيذية المركزية والبارزة معاً في انسجام من أجل استخدام هذه الأفكار لتحقيق هدف معين. 

والآن طالما أصبحنا نفهم الآليات الفاعلة، فيمكننا أن نسأل السؤال: هل يمكننا أن نتدرب على أن نصبح أكثر إبداعاً؟ الإبداع له علاقة ببعض العوامل الجينية المتوارثة: إذ أن المواهب في الرياضيات والموسيقى مثلاً تتَوارث. على سبيل المثال، إن التوأمين المتطابقين الألمانيين، ديفيد وبيتر أوينس كانا كلاهما رسامين ناجحين في القرن التاسع عشر. ولكن، نظراً لأن الدماغ البشري طيّع، ويتعلّم ويتغيّر بشكلٍ مستمر، فهل يمكننا أيضاً أن نتدرب على أن نكون مبدعين بناءً على تجاربنا السابقة؟

في دراسة عام 2014 أجرتها جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، تعاون العلماء مع كلية التصميم لتقييم صف دراسي رائج: «صالة الرياضة الإبداعية». في هذا الفصل، يعمل المشاركون بشكلٍ فردي على أنشطة عملية غير تقليدية وسريعة الإيقاع لكنها غامرة، باستخدام اللوازم المكتبية اليومية كمواد. طلب الباحثون من الطلاب أن يعملوا بسرعة خلال عدة مراحل: المراقبة، العصف الذهني، الاستنتاج، وضع نموذج بدائي ثم التنفيذ، وتكرار هذه الخطوات عند الحاجة بهدف إنتاج حلول مبتكرة. أظهرت الدراسة أنه ضمن هذا البرنامج الإبداعي المبني على بناء القدرات، فإن الطلاب في مسائل التفكير المتشعّب كان أدائهم أفضل مقارنة بالطلاب في المجموعة المرجعية (وهي مجموعة من المشاركين في الدراسة لا ينخرطون في أي نشاط حتى يتم مقارنة النتائج بهم). في دراسة أخرى، اختبر فريق تعاوني من علماء الأعصاب وعلماء النفس من جامعة داليان للتكنولوجيا في الصين، وجامعة أوريجون في الولايات المتحدة مجموعة من المشاركين في التفكير المتشعّب قبل وبعد فترة من التأمل قصير الأمد (30 دقيقة يومياً لمدة أسبوع). بينما انخرطت المجموعة المرجعية في مرحلة من الاسترخاء لنفس المدة. وجد الباحثون أن الإبداع يمكن زيادته بشكلٍ كبير عن طريق التأمل.

ما يثير الاهتمام هو أن هذه الدراسات استخدمت مقاربات مختلفة بالفعل للتحقق من كون الإبداع قابل للتعلُّم أم لا. بالنسبة للدراسة من جامعة ستانفورد، مارس المشاركون المرونة الفكرية لتوليد حلول مبتكرة في الصف الدراسي. بينما في الدراسة الثانية، مثّل التأمل تمريناً على الاجتهاد الفكري، وكان التركيز ينصب بشكلٍ أساسي على بناء إدراك أفضل لتجارب الفرد الحسيّة. على الرغم من أن الباحثين في الدراستين لم يستخدموا الصور الدماغية، إلا أنه يمكننا تخيّل التفاعلات الديناميكية العديدة التي تتم بين شبكات التحكم الأساسية في أدمغة المتعلمين أثناء تنسيق هذه الشبكات، مع شبكة الوضع القياسي المولدّة للأفكار بشكل تلقائي. بشكل عام، تشير هاتان الدراستان إلى أنه من الممكن وجود عدة طرق لزيادة الإبداع. بتعبير آخر، قد يكون هناك عدة مسالك للوصول إلى دماغ أكثر إبتكاراً.

الفنانون -الذين يعتبرون مبدعين مهنياً- يصفون العمليات الإبداعية على أنها تُنتج تغييراً عميقاً جسدياً وعقلياً، وعلى أنها لا تخضع لسيطرتهم. يتحدث هؤلاء عن حالة «وحي» من شكلٍ ما. في هذه الحالات من التفكير المتشعّب، يكون الجسم نشطاً وحدقة العيون متسعة. في دراسة حديثة، هيّأ مجموعة من الباحثين في مركز ماساتشوستس للذكاء الجمعي في الولايات المتحدة ساعة ذكية لالتقاط الإشارات الجسدية الحيوية، مثل مدّل نبضات القلب، وحركات الجسم المقاسة عن طريق مقياس التسارع. ثم جعلوا المشاركين يرتدوها وينخرطوا في نشاطات إبداعية جماعية طيلة النهار. وجد الباحثون، وفقاً للمشاركين، أن الإشارات الحيوية -التي قيست بشكلٍ مستقل- ترافقت مع الإبداع المحسوس. أي كلما زادت قسوة أو زاد تناسق النشاطات التي قاموا بها، زاد معها إبداعهم. كما استُخدمت قياسات الإشارات الجسدية في التقييمات الشخصية لأنماط شخصيات المشاركين، وامزجتهم. 

على الرغم من أن الباحثين المهتمين بالطرق الفيزيائية والمسارات العصبية للإبداع يحرزون تقدماً في فهم كيفية عمله -وكذلك كيف يمكن تحفيزه-؛ فإن الإبداع يحتفظ بسحرٍ خاص كحالة فريدة من نوعها، عندما يتردد صدى العقل والجسم في وئام تام، مثل شوكة رنانة تولّد نغمة نقية.