50 عاماً من التجارب على الخلايا الجذعية تقود لأول حالة شفاء من السكري

الخلايا الجذعية
حقوق الصورة: بليون فوتوز/ شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أعلنت شركة فيرتكس الأميركية العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية عن نجاح التجارب التي تخوضها لإيجاد علاج لمرض السكري من النوع الأول، وذلك باستخدام الخلايا الجذعية التي طورتها إلى خلايا بيتا المسؤولة عن إنتاج الأنسولين في البنكرياس، وقالت إن هذه التجارب أدت إلى أول حالة شفاء في العالم من هذا المرض.

السكري من النوع الأول

داء السكري من النوع الأول هو أحد أمراض المناعة الذاتية. لسبب غير واضح؛ يهاجم الجهاز المناعي -عن طريق الخطأ- خلايا بيتا في جزر لانجرهانس في البنكرياس ويدمرها؛ وهي الخلايا المسؤولة عن تصنيع الأنسولين، حيث تكتشف باستمرار تركيز سكر الغلوكوز في الدم، وتفرز كميات مناسبة من الأنسولين كلما ارتفعت مستويات الغلوكوز لمواجهة الزيادة. نحو 10% من مرضى السكري لديهم هذا النوع.

قد تلعب الجينات دوراً في الإصابة بداء السكري من النوع الأول عند بعض الناس، ومن الممكن أيضاً أن يتسبب فيروس ما في تحفيز هجوم الجهاز المناعي على البنكرياس. تزداد احتمالية الإصابة بالنوع الأول من داء السكري عند الأطفال والمراهقين، أو عند إصابة الأب أو أحد الأخوة به؛ أي لأسباب وراثية. 

مرضى السكري من النوع الأول معرضون لخطر الإصابة بالعمى والفشل الكلوي وبتر القدم والموت ليلاً بسبب انخفاض نسبة السكر في الدم لديهم أثناء النوم. كما تزداد لديهم احتمالية الإصابة بنوبة قلبية أو سكتة دماغية، بالإضافة إلى أنه يضعف جهاز المناعة.

يُعالَج المرضى بحُقن الأنسولين أو مضخة الأنسولين لموازنة مستويات السكر في الجسم. وعلى الرغم من التقدم في العلم، لم يجد الطب علاجاً شافياً لمرض السكري، لكن الخلايا الجذعية قادت إلى العلاج الآن.

اقرأ أيضاً: اعتلال الكلى السكري وكيف يحافظ مريض السكري على الكلى

الخلايا الجذعية الجنينية لعلاج السكري

الخلايا الجذعية
حقوق الصورة: نوبيستسوفيرس/ شترستوك.

وجد العلماء أن علاج السكري بالتزويد الخارجي للجسم بالأنسولين هو علاج مؤقت وليس بالفعالية المطلوبة، لذا باتوا يصبون جُلّ اهتمامهم على استبدال الخلايا التي تصنعه. ومن أجل ذلك يلجؤون الآن إلى الخلايا الجذعية، ومنها يحصلون على خلايا مستشعرة للغلوكوز، وتفرز الأنسولين على أساس مستوياته في الدم، ما يوفر إمداداً غير محدود تقريباً من الخلايا البديلة.

السمة الرئيسية للخلايا الجذعية هي أن لديها القدرة على التمايز إلى أنواع أخرى من الخلايا. اعتمدت الأبحاث الأولية التي شملت الخلايا الجذعية البشرية على الخلايا المأخوذة من أجنة حالات الحمل المنتهية، حيث يمكن أن تنمو هذه الخلايا إلى أي نوع تقريباً. خلقت الطرق اللاحقة خلايا جذعية من خلايا بالغة، تُعرف بالخلايا الجذعية المستحثة متعددة القدرات (iPSCs). عمل العلماء على اكتشاف طرق لتوجيه الخلايا الجذعية على طول مسارات نمو معينة من خلال تطبيق جزيئات كيميائية هي عبارة عن إشارات تحول الخلايا من نوع إلى آخر.

كان يتطلب العلاج متبرّعاً بالبنكرياس، لكن النقص في الأعضاء يجعل مثل هذا النهج مستحيلًا بالنسبة للغالبية العظمى من المصابين بالمرض. لكن الآن يمكن أن تؤدي الخلايا من متبرع واحد إلى تريليونات أخرى.

رحلة من التجارب قادت إلى إيجاد العلاج

الخلايا الجذعية
حقوق الصورة: نتالي ميس/ شترستوك.

أُجريت أولى تجارب العلاج في أوائل السبعينيات على الفئران المصابة بالسكري، حيث عمل الباحثون على ضخ خلايا جزر لانجرهانس المعزولة في الأوردة البابية لأكباد الفئران، ما أدى إلى استعادة السيطرة على نسبة السكر في الدم بشكل طبيعي. وعلى الرغم من أن البنكرياس هو الموطن الطبيعي لجزر لانجرهانس، فقد أثبتت التجربة إمكانية وضع الخلايا في مكان آخر، فالمهم هو تمكّن الخلايا من الوصول إلى مجرى الدم.

وبعد عشرين عاماً، في عام 1991، أدت إصابة طفل عمره 6 أشهر إلى إيجاد طريقة لعلاج البشر المصابين بالسكري باستخدام الخلايا الجذعية. كان الطفل هو ابن «دوج ميلتون»، عالم أحياء الخلايا الجذعية في جامعة هارفارد في كامبريدج، ماساتشوستس. كان بدايةً اختصاصياً في علم الأعصاب التنموي، وتخلى عن كل شيء من أجل إيجاد علاج لحالة ابنه، وابنته التي أصيبت أيضاً بالسكري بعد 10 سنوات حين كانت تبلغ من العمر 14 عاماً. أوصلته أبحاثه إلى الخلايا الجذعية، واعتقد حينها أنه سيجد طريقة لتصنيع الخلايا، وأن الأمر سيستغرق أربع أو خمس سنوات فقط.

لم يكن الأمر بسيطاً، وتطلب تحويل خلية جذعية إلى خلية بنكرياسية المرور بسلسلة من المراحل. كان التحدي يتمثل في معرفة تسلسل الرسائل الكيميائية (الإشارات) التي ستحول الخلايا الجذعية إلى خلايا بيتا تفرز الأنسولين. تضمّن العمل كشف التطور الطبيعي للبنكرياس، ومعرفة كيفية تكون جزر لانجرهانس في البنكرياس وإجراء تجارب لا نهاية لها لتوجيه الخلايا الجذعية الجنينية إلى تشكيل جزر لانجرهانس صغيرة. 

استمرت التجارب لسنوات، وكان الباحثون يضعون صبغة في السائل الذي تنمو فيه الخلايا الجذعية. تُحوّل الصبغة لون السائل إلى الأزرق إذا صنّعت الخلايا الأنسولين. لم تنجح تجاربهم حتى عام 2014 حينما رأوا صدفةً مسحة زرقاء باهتة أصبحت أغمق وأكثر قتامة، كانت دليلاً على تشكل خلايا جزر لانجرهانس العاملة من الخلايا الجذعية الجنينية. نُشرت دراسة عن نتائج هذه التجربة في دورية سيل العلمية. 

حينها علم الدكتور ميلتون أنه سيحتاج إلى المزيد من الموارد لصنع دواء يمكن أن يصل إلى السوق، لذا أسس شركة «سيمّا» (Semma) في عام 2014، وهي مزيج من اسميّ طفليه سام وإيما. كان هدف ميلتون معرفة كيفية زراعة خلايا جزر لانجرهانس «الخلايا الجزيرية» بكميات كبيرة بطريقة يمكن للآخرين تكرارها. وأجرى عدة تجارب على الفئران أدت إلى علاج السكري لديها.

من أجل تطبيق العلاج على البشر، كان ميلتون في حاجة إلى شركة أكبر وذات تمويل جيد وخبرة عالية. لذلك أعدَّ الوثائق وخطط للتجارب السريرية، وعرضها مع عينة من الخلايا الجزيرية على كبير المسؤولين العلميين في شركة «فيرتكس للأدوية» (Vertex Pharmaceuticals)، وهي شركة عالمية في مجال التكنولوجيا الحيوية تستثمر في الابتكار العلمي لإنشاء أدوية تحويلية للأشخاص المصابين بأمراض خطيرة. 

استحوذت شركة فيرتكس على شركة سمّا، وأكمل ميلتون تجاربه معها. كان التحدي الذي يواجهه هو التأكد من نجاح عملية الإنتاج في كل مرة وأن الخلايا ستكون آمنة إذا تم حقنها في المرضى. 

وفي عام 2019، سمحت إدارة الغذاء والدواء الأميركية لشركة فيرتكس ببدء تجربة إكلينيكية شارك فيها 17 شخصاً مصاباً بالسكري من النوع الأول، وكانت الاختبار الأول لزراعة الخلايا الجزيرية المشتقة من الخلايا الجذعية.

في المقابل، اتخذت شركة تُدعى «فيا سايت» (ViaCyte) نهجاً مختلفاً قليلاً، فقد تمكّن الباحثون فيها من تحويل الخلايا الجذعية إلى خلايا سلف البنكرياس، ثم حقنوها مباشرة في الفئران المصابة بالسكري دون تحويل هذه الخلايا إلى خلايا جزيرية. على مدى 2-3 أشهر، نضجت الخلايا إلى خلايا جزيرية وبدأت الفئران التي تم تثبيط مناعتها في التحكم في مستويات السكر في الدم.

عند المقارنة بين الطريقتين، يعتقد ميلتون أن زرع خلايا متمايزة بالكامل سيوفر تحكماً أفضل في جرعة الخلايا التي يتلقاها الأشخاص. بينما زرع سلف الخلايا الجزيرية يتطلب الانتظار شهوراً حتى تظهر الخلايا الوظيفية، لكنها أكثر مرونة في إجراءات الزرع، وتصنيعها أسهل وأقل تكلفة. وتحديد أي الطريقتين أفضل يتطلب دراسات عملية، وقد أثبت ميلتون صحة اعتقاده لاحقاً، عندما أعلن عن أول حالة شفاء للسكري من النوع الأول الشهر الماضي، وذلك بعد 30 عاماً من إصابة طفله الرضيع بالمرض.

اقرأ أيضاً: مُدمر لكل الأعمار: أسباب مرض السكري الأول والثاني

كيف يُمنع الجهاز المناعي من مهاجمة الخلايا المزروعة؟

الخلايا الجذعية
حقوق الصورة: سايبرو/ شترستوك.

كما ذكرنا، يحدث النوع الأول من السكري بسبب مهاجمة الجهاز المناعي لخلايا بيتا المنتجة للأنسولين، فكيف سيمنع الباحثون معاودة مهاجمته للخلايا المزروعة؟ 

في أول تجربة قامت بها شركة فيرتكس، أعطت المرضى أدوية مثبطة للمناعة، لكن لا يمكن تثبيط المناعة مدى الحياة من أجل المحافظة على استمرارية العلاج. تركز الاستراتيجيات الحالية على التغليف، حيث تتم حماية الخلايا المزروعة من جهاز المناعة بحاجز مادي. يكون التغليف إما عن طريق ملء جهاز بحجم بطاقة الائتمان بالخلايا وزرعه بعد ذلك، أو يتم تغليف كل جزيرة لانجرهانس واحدة في بوليمر واقي قبل الزرع. يتسبب التغليف في ظهور تحدٍ جديد، ففي هذه الخلايا المغلفة يجب أن يكون هناك تكوين لأوعية دموية حتى تحصل على العناصر الغذائية والأكسجين للبقاء على قيد الحياة، وحتى تفرز الأنسولين في مجرى الدم.

من أجل ذلك، ابتكرت شركة «فيا سايت» جهاز تغليف مؤقت له ثقوب تسمح للأوعية الدموية بالنمو داخل الجهاز، ما يدعم الخلايا، لكن المتلقين يحتاجون إلى كبت المناعة المزمن لأن الخلايا المناعية يمكن أن تدخل أيضاً. وعمل آخرون على تطوير طلاء هيدروجيل للخلايا التي تستبعد الخلايا المناعية بينما تسمح للخلية بالقيام بوظيفتها. اتبع غيرهم نهجاً يتم فيه إدخال كيس خلوي تحت الجلد قبل أسبوعين من إدخال الجزر الصغيرة المغلفة. في فترة الأسبوعين هذه، تدخل أوعية دموية جديدة في الكيس وينحسر الالتهاب الأولي.

من الحلول المطروحة أيضاً هو تعديل الخلايا وراثياً لتتجنب مهاجمة الجهاز المناعي لها. كما يمكن الاعتماد على كيفية تهرب الخلايا السرطانية من تدمير جهاز المناعة، إذ أن التعبير عن بروتينات معينة على سطح الخلية يثبط الاستجابات المناعية، وهي ظاهرة يمكن استخدامها لحماية الخلايا. أما الخيار الذي يتبعه ميلتون فهو هندسة جزيئات الخلايا العارضة للمستضد الذي يتعرف عليه جهاز المناعة، ليُصار إلى إزالته أو استبداله بالشكل الجنيني لهذه الجزيئات، والتي تمنع عادةً جهاز المناعة لدى الأم من مهاجمة الأجنة.

من التحديات الأخرى التي تواجه الباحثين في تجاربهم هو تحديد المكان الأمثل لوضع الخلايا. جرب الباحثون زرعها في مواقع مختلفة تحت الجلد، أو في الأنسجة الدهنية التي تحيط بالأمعاء. تختلف المواقع في قدرتها على تكوين الأوعية الدموية داخل الأجهزة وحولها، وفي قدرتها على حمل الأجهزة وتحمل عمليات الزرع المتعددة، إذا دعت الحاجة إلى استبدال الخلايا، وأيضاً يجب معرفة إذا كان من المريح الزرع في هذا المكان أم لا.

اقرأ أيضاً: الأنسولين الذكي: مفتاح العلاج الثوري لمرض السكري

الإعلان عن أول حالة شفاء من مرض السكري من النوع الأول

بالعودة إلى تجربة ميلتون مع شركة فيرتكس التي شملت 17 شخصاً، كان «بريان شيلتون» أول شخص يتلقى العلاج من البشر، وأعلنت الشركة أنه أول شخص يشفى من المرض في العالم.

ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن حياة بريان شيلتون كانت محكومة بمرض السكري من النوع الأول، وأدت نوبات انخفاض السكر المتكررة لديه إلى تقاعده من عمله، ويبلغ من العمر الآن 64 عاماً. لبى بريان دعوة شركة فيرتكس في بداية العام للمشاركة في تجربة سريرية لعلاج السكري بالخلايا الجذعية.

علاج السكري بالخلايا الجذعية
بريان شيلتون. حقوق الصورة: نيويورك تايمز.

تلقى حقنة من خلايا البنكرياس المُطوّرة من الخلايا الجذعية في 29 يونيو/ حزيران، وأصبح جسمه الآن قادراً على التحكم تلقائياً في مستويات الأنسولين والسكر في الدم. لكن يتعين على السيد شيلتون تناول الأدوية المثبطة لجهاز المناعة، والتي لا تسبب أي آثار جانبية، وهي أقل إرهاقاً وخطورة بكثير من المراقبة المستمرة لسكر الدم وتناول الأنسولين. سيتعين عليه الاستمرار في تناولها لمنع جسمه من رفض الخلايا المحقونة.

بعد أيام من الحقن، غادر السيد شيلتون المستشفى، وكان يقيس نسبة السكر في دمه باستمرار ليجده ضمن المستويات الطبيعية حتى بعد تناول وجبات طعامه.

أصيب خبراء السكري بالدهشة لكنهم حثوا على توخي الحذر. الدراسة مستمرة وستستغرق خمس سنوات، ولم تُنشر بعد في دورية علمية تمت مراجعتها من قبل الأقران. كما يريد الباحثون أن يعرفوا ما إذا كانت هناك آثار ضارة غير متوقعة وما إذا كانت الخلايا ستستمر مدى الحياة أو إذا كان العلاج يتطلب تكرار زرعها.

كان هذا حصاد ما زرعه دوج ميلتون على مدى 30 عاماً، وحصاد جهود الباحثين الهادفين إلى إيجاد علاج للسكري على مدار الخمسين عاماً الماضية.